ادب وفن

"الطيور الصفراء".. رواية أميركية عن الحرب الأميركية في العراق (2-2) / حسين كركوش

كيف تحُول الحرب الجندي الوديع المسالم إلى وحش قاتل. الراوي في هذا الفصل ينقل الأمور بطريقة حيادية. وطريقته المحايدة هذه يجعلها نهجا يسلكه في الفصول اللاحقة. المؤلف، في رأينا، أراد أن يكون الفصل الأول من روايته أرضية أساسية لانبثاق عدة تساؤلات في ذهن القارئ وتتركه يفسر الرواية كما يريد: هل هي رواية حربية؟، رواية عن موضوع الصداقة التي تربط اثنين من البشر؟ رواية عن فلسفة الموت؟ رواية في دراسة النفس البشرية؟ رواية في التضامن الكوني بين البشر؟ ومن الناحية التقنية فأن المؤلف يركز في هذا الفصل على "اللغة" المستخدمة كوسيلة لنقل ما تفكر به شخصياته وما يعتمل في دواخلهم وهو أمر سيتكرر في الفصول اللاحقة. الفصول العشرة الباقية كلها هي بمثابة وضع لمسات على "هيكل" العمارة الروائية، وهي "تأثيث" لا أكثر. لكنه تأثيث لا نجد فيه "قشة" واحدة وُضعت مجانا أو عشوائيا.

تقنية مشوشة كذاكرة الراوي

أهمية الفصل الأول نلمسها، تقنيا، عندما نتقدم في قراءة الرواية. إذ سنجد لاحقا أن المؤلف لا يطبق تسلسلا زمنيا ولا مكانيا مستقيما للأحداث إنما يطبق تسلسلا حلزونيا يبدأ من نفس المكان ثم يتصاعد للأعلى ثم يعود فيهبط للمكان نفسه. المؤلف يعمد لقطع التسلسل المعتاد والمتعارف عليه. فالفصل الثاني، مثلا، سرعان ما يتغير، بعيدا عن "المنطق" و"القاعدة" في السرد المعتاد، فيصبح فيه الزمن "كانون الأول/ ديسمبر 2003"، والمكان يتغير فيصبح قاعدة فورت ديكس في نيوجرسي. وتاريخ الفصل الثالث هو آذار 2005 في ألمانيا حيث يمر بها بارتل قادما من العراق. ثم تعود الأحداث في الفصل الرابع إلى أيلول 2004 في تلعفر. وهكذا تتناوب بقية الفصول بين تلعفر وأماكن أخرى في أميركا. لكن كل فصول الرواية التي تشير إلى أماكن غير تلعفر وإلى تاريخ غير أيلول 2004، تعود بالقارئ إلى التاريخ نفسه، شهر ايلول عام 2004، تاريخ تواجد بارتل في جبهة القتال مع القوات الأميركية في العراق، وإلى المكان نفسه، تلعفر. وفي كل مرة نبدأ فصلاً جديداً ونعتقد أننا سنتقدم في الأحداث إلا أن الأمور سرعان ما تعود لشهر أيلول 2004 وكأنه كُتب على بارتل أن يظل ذاك التاريخ محفورا في ذاكرته، لا فكاك منه ولا خلاص. أيلول 2004 أصبح نقطة تحول حاسم في حياته، بل هو شطر حياته إلى شطرين ما قبل أيلول 2004 وما بعده.

الحرب حاضرة غائبة

نعرف أن الحرب ليست كارثة طبيعية نجهل من يقف وراءها. الحرب كارثة بشرية، أي من صنع البشر، وليس أي بشر، هي من صنع الساسة. الحرب، بمعنى آخر، فعل سياسي. وكما يقول المنًظر العسكري البروسي كلاوفتز، الحرب امتداد للسياسة بوسائل أخرى. وبالتالي، فأن أي رواية حربية هي رواية سياسية بالضرورة، حتى لو أصر كاتبها على رفض هذا التصنيف. وفيما يخص الحرب التي تتحدث عنها رواية "الطيور الصفراء"، أي الحرب الأميركية ضد العراق عام 2003 فأن الولايات المتحدة شنتها بدون شرعية دولية، أي بدون موافقة الأمم المتحدة. تلك الحرب كانت "غزو" للعراق، والقوات الأميركية كانت قوات احتلال، وأثناء تواجدها هناك حدثت مواجهة مسلحة ضدها، وتلك المواجهة تسمى "مقاومة"، قُتل بفعلها عسكريون أميركيون ومقاومون عراقيون وكذلك مدنيون عراقيون. هذه حقائق رسمية يقرها القانون الدولي وأقرتها الولايات المتحدة نفسها. وقد يختلف اثنان إزاء هذه الحقائق فيعتبر واحد منهما أن ما حدث كان تحريرا للعراقيين من نظام ديكتاتوري أذلهم، ويقول الآخر إن ما حدث هو غزو واحتلال للعراق، وقد يرى البعض أن الذين قاوموا القوات الأميركية هم إرهابيون ومن بقايا رجالات البعث، بينما يرى آخرون أن الذين قاوموا القوات الأميركية هم أشرف الناس وأكثرهم غيرة على وطنهم. لكن مؤلف رواية "الطيور الصفراء" لا يتوقف عند هذه "الحقائق". يقول باورز في مقابلة إذاعية أجرتها معه أحدى المحطات الإذاعية ألأميركية " في الحرب تتراجع التفاصيل السياسية إلى الخلف" ولهذا فأن باورز لا يتوقف في روايته عند الحرب ذاتها، أي عند الأسباب والنتائج السياسية. باورز يتوقف عند "الحروب" التي خلقتها تلك الحرب عند بسطاء الجنود الذين شاركوا فيها وتلك "الحروب" التي تعاني منها أمهات الجنود بعد التحاقهم في الحرب الحقيقية وبعد مقتل البعض منهم، وعند بسطاء العراقيين الأبرياء الذين اكتووا بنار الحرب. رواية باورز من بدايتها حتى نهايتها مضادة للحرب الأميركية في العراق، لكن ليس، بالضرورة، لأنها حرب "أميركية" وليس لأنها تحدث في العراق، وإنما لأنها حرب وكفى. لأن أي حرب هي فعل تدميري بالضرورة، وفقا لمؤلف الرواية. يقول باورز في مقابلة معه :" إن أي شخص يكتب بأمانة ذهنية وعاطفية عن الحرب، أي حرب، فلا بد أن تكون كتابته مناهضة للحرب. فأنا لا يمكن أن أتصور أن هناك موقفاً، مهما كان، يدفع الإنسان أن يكتب كتابا مؤيدا للحرب. هذا أمر غير ممكن".

أممية الألم

ولأن "الطيور الصفراء" لا تدافع عن "قضية" ولا تناصر جهة محددة، ولأنها ترى أن " الألم واحد لا يختلف عند كل البشر، والاختلاف في التفاصيل"، فأنها قد لا تعجب كثيرين وفي مقدمتهم قادة المؤسسة العسكرية وصناع القرار السياسي في أميركا. وقد لا يتحمس لها كثيرون في مقدمتهم مناهضو الحرب الأميركية في العراق. وقد يحرقها البعض وفي مقدمتهم العراقيون الذين قاوموا الاحتلال الأميركي وخاضوا عمليات عسكرية لطرد القوات الأميركية. والسبب في كل ذلك هو أن الرواية لا تدافع عن "قضية" ولا تنتصر لطرف دون آخر ولا تتحدث عن أبطال ولا عن بطولة، ولا تبجل طرفا وتشتم طرفا آخر، ولا تهتف: يعيش.. يسقط، ولا ترفع راية وطنية وتنكس أخرى، ولا تتغنى بأمجاد. "الطيور الصفراء"، تمجيد للحياة ورفض للموت، وبالتالي رفض للحرب، أي حرب، لأنها تبيد الحياة. ومثلما هوجمت رواية ريمارك "كل شيء هادئ في الجبهة الغربية" من قبل النازيين والشيوعيين، في آن واحد، لأنها، في رأي الطرفين خلت من أي "التزام"، فأن "الطيور الصفراء" لن تُعجب جهة بعينها.

نقد لاذع لإدارة بوش وللمحافظين الجدد

لكن "الحياد" هنا لا يعني أن مؤلف "الطيور الصفراء" يقف على مسافة واحدة بين "صناع القرار" الأميركي وبين بسطاء الجنود الأميركيين الذين ينفذون، ولا بين أصحاب القرار الأميركي وبين بسطاء العراقيين المكتوين بنار الحرب الأميركية. حياد المؤلف يعني أنه ينقل الوقائع بأمانه وينقلها بعينيه لا بعيون الآخرين مع تعاطف واضح مع ضحايا الحرب، أميركيين بسطاء وعراقيين بسطاء. فمؤلف "الطيور الصفراء" يوجه، بسخرية مرة، نقدا لاذعا لأفكار الرئيس بوش ونظريته حول الصراع بين الخير والشر، وتصريحه وقتذاك بأن "الله أمره بضرب العراق وأنه يتحدث إلى الله وهو الذي يقود خطاه"!. وبموازاة ذلك نجد سخرية مرة مضمرة، بل معلنة، من أفكار كبار مساعدي بوش، بول ووليفتز، ريتشارد بيرل، أليوت براهامز، روبرت كاغان وغيرهم من المحافظين الجدد "دون أن يسمي أحدا، بالطبع"، الذين اعتمدوا على الرؤيا التوراتية و أفكار الطائفة الانجيلية الأصولية المتشددة، في تبريرهم لشن الحرب على العراق. ففي بعض الصفحات من الرواية "نشاهد" ولا نقرأ لوحة سريالية، لكن كأنها يوم القيامة لشدة رعبها، حيث يختلط عويل العراقيات النادبات أعزاءهن وهن يجررن شعورهن على الطريقة العراقية، ورعب الجنود الأميركيين البسطاء واستعانتهم بالخمر لخلق سعادة وهمية عابرة تبعدهم ولو مؤقتا من شبح الموت، وهلع العراقيين الفارين من منازلهم على غير هدى، والحرائق المشتعلة في كل مكان والدماء التي تسيل في الشوارع. وسط هذا الدمار الشامل الرهيب يظهر جنرال أميركي تبدو على محياه سيماء العزيمة وهو يقترب منا "بارتل وزملاءه الجنود" "لكن" عندما بدأ يتحدث غابت الابتسامة عن وجهه "ثم" سحب ورقة وراح يقرأ منها... ناظرا بين لحظة وأخرى للإعلامي الذي جاء معه، سائلا إياه أن يسجل ما يقوله، فيجيبه المصور التلفزيوني المرافق: أستمر سيدي، استمر. تظاهر كأني غير موجود. "..." قال الجنرال: يا أولاد، سيُطلب منكم فورا أن تمارسوا أفضع أشكال العنف لكي يسود الخير. أنا أعرف أن لا حاجة أن أخبركم أي عدو هذا الذي تقاتلونه. إن هذه هي الأرض "العراق" التي دفن فيها النبي يونس (Jonah) الذي طلب من الرب تحقيق العدل. ونحن هنا لتطبيق العدل "!!"إذا كان هؤلاء الأوغاد يريدون القتال، فليكن. نحن لها. أفتحوا أبواب جهنم أمامهم... إن شعب الولايات المتحدة يعتمد عليكم، وعليكم أن تعرفوا أن عملا عظيما كهذا الذي تؤدونه الآن قد لا يحالفكم الحظ أن تقوموا به مرة أخرى طوال حياتكم كلها".

تأنيب ضمير لا يهدأ في غياب يقين دوغمائي

بالإمكان صياغة جميع الأسئلة التي تعذب "بطل" رواية الطيور الصفراء بسؤال واحد: لمَ تحدث الحروب؟ هذا السؤال الأعظم، والذي تتفرع منه كل الأسئلة الأخرى، وتتحول في ذهن بارتل إلى "نار تلتهب في رأسه "، لا يجد لها أجوبة يقينية وحاسمة. ومما يزيد من "لخبطة" بارتل وعذابه الروحي هو، أنه لا يملك "يقين" سياسياً أو آيديولوجياً أو دينياً، يهتدي به ويفسر على ضوءه الأمور. فهو "ليس كاثوليكيا مؤمنا "، ولا عنصريا متطرفا، ولا قومانيا متشددا، ولا سياسيا ملتزما، ولا حزبيا منتميا، ولا "أي شيء" أخر سوى أنه إنسان. يعترف بارتل: "إن اليقين تخلى عن كل مكانه في دماغي. أنا في فوضى، ولا أظن أن بمقدوري أن أميز بين الأمور". اليقين الوحيد الثابت، والحقيقة الصلدة عنده هو "إنسانيته" وعلاقاته العاطفية الشخصية، علاقته بأمه مثلا: "العالم كله لا يهمني. أمي وحدها هي التي تهمني 109". "العالم" يدير بارتل ظهره له، باحتقار وبلامبالاة وبلا انتماء. بارتل يدرك أن هذا "العالم" المتابع لأخبار الحرب الأميركية على العراق، والمتورط بها حد النخاع، بساسته وبمؤسساته وبأجهزة إعلامه وبكل الكارتلات التي تدير شؤونه، ينظر للحرب بمنظار البورصات المالية وبمنظار الأرباح والخسائر الجيوبوليتكية الإستراتيجية، لا بمنظار الوجع الإنساني للأفراد، ولا بمنظار الفواجع التي تسببها الحرب لبسطاء الجنود المشاركين فيها. يقول بارتل وهو ينظر لجثة زميله وصديقه ميرفي: "سيُدفَن وسينساه الجميع. أمه وحدها التي لن تنساه. ستقعد على كرسيها وحيدة كل مساء تتذكره بوجوم وقد فارقتها عادة الاستحمام اليومي ويؤرق جفونها السهاد. ستقعد على كرسيها ساهمة شاردة الذهن، تدخن السيكارة تلو الأخرى، ولشدة وجومها تنسى أن تطفئ أعقاب سكائرها فيتكوم الرماد على قدميها 208". بارتل نسخة من بطل "كل شيء هادئ في الجبهة الغربية". يقول "بطل" ريماك: "أنا شاب. أنا في العشرين من عمري، مع ذلك فأنا لا أعرف من الحياة سوى اليأس والموت والرعب والحزن... أنا أرى شعوبا تتقاتل فيما بينها، بصمت وبجهل وبحماقة وبطاعة عمياء، وكل شعب يذبح الآخر بكل براءة". لو كان بطل رواية ريماك "بطل" حقا، ولو كان يؤمن بـ "قضية"، ولو كان يملك "يقين" راسخاً، لما فكر بهذه الطريقة "اللامنتمية". كذلك بارتل في "الطيور الصفراء".

حقائق لا يتوقف عندها النقاد الغربيون

وحتى يكون أمينا ومحايدا في نقله للواقع فأن مؤلف "الطيور الصفراء" يبدو في حالات ليست قليلة أكثر أمانة وأكثر شجاعة من كثير من النقاد الغربيين الذين كتبوا عن روايته. فضمن ما توفر لي شخصيا من مقالات كتبت بالانكليزية والفرنسية عن الرواية، لم أجد ناقدا غربيا توقف عند مشاهد في الرواية، أراها شخصيا في غاية الأهمية. فالمشهد الذي نرى فيه بارتل داخل كنيسة دخلها عن طريق الصدفة وهو في ألمانيا عائدا من العراق، وكيف يؤكد أمام القس بأنه ليس كاثوليكا ولا مؤمنا ولا أي شيء، لم يحظ باهتمام النقاد. ومشهد العراقي العجوز المتنسك المطمئن روحيا والذي يحتقظ بسجادة الصلاة في العربة التي يقودها، والذي قتله فيما بعد العريف سترلنغ لم يتوقف عنده النقاد. ومشهد عجرفة وسائل الإعلام الأميركية ومحاولاتها تزييف الحقيقة المرة لم يتوقف عنده أحد من النقاد الغربيين. ولم يتوقف النقاد الغربيون عند طريقة استخدام الأساطير الدينية "النبي يونس" في الرواية وكيفية توظيفها من قبل المؤلف لدحض أكاذيب إدارة الرئيس بوش والمحافظين الجدد.
فرجال المؤسستين السياسية والعسكرية في أميركا يستخدمون الأساطير الدينية لتبرير الحرب، بينما الجنود الأميركيون البسطاء يستخدمونها رمزا للفجيعة. وتقريبا، جميع الذين كتبوا عن الرواية باللغة الانكليزية وخصوصا في أميركا ركزوا كثيرا وتوقفوا عند معاناة الجنود الأميركيين، القتلى منهم خصوصا، لكنهم لم يتحدثوا عن تصوير الرواية لمعاناة العراقيين.