ادب وفن

همس المدن أم صراخها؟ / حسين كركوش

كانت صالة السينما الواسعة داخل بناية "مركز بومبيدو" الثقافي الشهير وسط العاصمة الفرنسية التي عرض فيها فيلم المخرج قاسم عبد "همس المدن"، تقريبا ممتلئة بالمشاهدين. أغلبهم من الشباب وغالبية هؤلاء الشباب من الأناث.
ما لفت انتباهي هو بقاء الحاضرين دون ملل حتى اللحظة الأخيرة من العرض و البقاء داخل الصالة حتى انتهاء الأسئلة التي وجهت لمخرج الفيلم من قبل المشاهدين.
سألت نفسي: ما الذي أبقى المشاهدين حتى اللحظة الأخيرة وهم يشاهدون فيلما خلا من أي عنصر تشويق سينمائي؟، لا قصة مترابطة الأحداث ببداية ونهاية. لا مغامرات تقطع نفس المشاهد وتشده للفيلم. لا ترقب لأحداث تتسارع دقات قلب المشاهد انتظارا لحدوثها ويجعله متوترا لانتظار مفاجأة. لا حوارات يصغي لها المشاهد لتعينه على تفسير ما يراه من أحداث.
في "همس المدن" الكاميرا وحدها تتحدث. أعني لغة الكاميرا البصرية. مع كل ذلك كان "همس المدن"، سيمفونية سينمائية بدون قصة وحوار، كما كتبت الناقدة السينمائية الفرنسية المعروفة شارلوت غراسون.
نعرف أن المشاهد غالبا ما يريد من الفيلم الوثائقي أن يقدم له "المعرفة" الذهنية. و"همس المدن" نجح في تقديم المعرفة والمتعة البصرية في آن واحد. وحتى "السياسة" وبشكلها المباشر نجدها حاضرة في فيلم قاسم عبد، لكن المشاهد لا يشعر أبدا أن المخرج كان متعسفا فحشرها حشرا. السياسة حاضرة في المدرعات الإسرائيلية وهي تجوب شوارع رام الله لفرض منع التجول في المدينة خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية 2000-2003 ، والسياسة حاضرة في مشهد المدرعات الأميركية في شوارع بغداد، وأصوات الرصاص، وسيارات الأسعاف التي تنقل الضحايا، ودخان الغاز العراقي المهدور الذي نراه يتصاعد من مصفى الدورة.
كل هذه المواضيع السياسية يعرضها قاسم عبد بدون "تشنج" فني وبعفوية مؤثرة وبانسيابية.
وهنا تكمن مهارة قاسم عبد ورهافته الفنية ونجاحه في إبقاء المشاهدين حتى اللحظة الأخيرة. فالمادة الفيلمية الخام التي قدمها في فيلمه هي بسيطة وعادية قد نمر أمامها ونشاهدها يوميا و لا تثير اهتمامنا: منع تجول، باعة متجولون داهمهم المطر فجأة فأربكهم، عمال ورش بناء، سيارات أسعاف وسيارات عسكرية إسرائيلية و أميركية، تلاميذ مدارس يغادرون مدرستهم. لكن قاسم، بالحرية التي أعطاها لكاميرته المحمولة على الكتف وبمنظومة الأفكار التي يحملها ويريد إيصالها، حول تلك المشاهد اليومية المألوفة إلى نص سينمائي "بعيد جدا عن الطرح المباشر، مدهش للغاية، مضيء وغاضب"، على حد تعبير الناقدة الايطالية نينيا روث. قاسم قدم نصا سينمائيا مفتوحا محملا بتساؤلات وترك لكل مشاهد أن يجيب عليها كما يريد.
بالطبع، "همس المدن"، كفيلم وثائقي مثل بقية الأفلام الوثائقية، أراد به مخرجه أن يقدم وجهة نظره الشخصية عن مواضيع محددة في ثلاث مدن هي رام الله، بغداد وأربيل.
لأول وهلة لا يوجد ما يوحد بين المدن الثلاث. لكن عندما نحاول أن نقرأ ما بين السطور، أو ما بين المشاهد السينمائية التي تعرض أمامنا سنجد خيطا "خيطا من ذهب" يربط بين هذه المدن الثلاث: شقاء وتعب بسطاء الناس، وإصرارهم و عنادهم وتشبثهم بالأمل وتغيير الواقع نحو الأفضل. وربما هذا الجهد الفني الذي بذله قاسم عبد لخلق ترابط بين المدن الثلاث وجعلها "تتوحد" في موضوع واحد، هو الذي دفع الناقدة شارلوت غارسون أن تقارن بين قاسم عبد وبين مخرج الأفلام الوثائقية الروسي فيكتور كوسافسكي.
تستذكر شارلوت غراسون، وهي تتناول في نفس مقالها "همس المدن"، المخرج الفرنسي الكبير جاك تاتي "1907-1982" والمخرج الفلسطيني إليا سليمان فتقول:"بين جاك تاتي وإليا سليمان تتخذ مقاومة الشعوب للضغوطات المسلطة عليها أيضا شكل نبع ماء يشاكس حتى يشق طريقه". ونبع الماء الذي يحاول أن يتدفق ويشق طريقه، في "همس المدن" هم أولاءك العمال الذين ينهمكون في تشييد بناية وسط كل الخراب الذي يطوقهم في بغداد، وهم رجال شرطة المرور الذين يحاولون "تنظيم" المرور، أي تنظيم الحياة وسط فوضى شاملة وعارمة، وهم العراقيون الذين نشاهدهم يرقصون فرحا في "زفة" عرس على إيقاع أصوات سيارات الأسعاف والانفجارات. ونبع العين المشاكس العنيد، في فيلم قاسم عبد، هم الباعة المتجولون الذين يواصلون عملهم بإصرار، لا يثنيهم لا غضب الطبيعة "المطر في أربيل" ولا غضب السياسة. ولو كان لي أن أعيد صياغة عنوان "همس المدن" لأسميته: "تعالوا شاهدوا الأمل يسيل في الشوارع". ولولا خشيتي من التعسف و تحميل الأشياء ما لا تحتمل، ربما، لقلت كم كان مخرج "همس المدن" ثاقبا في رؤياه وهو يراهن على "الأمل" عندما نقارن أوضاع العراق المخربة لحظة تصوير الفيلم و أوضاعه الحالية التي تغيرت، أقله نسبيا، نحو الأفضل.
وإذا كان أي فيلم وثائقي، على العموم، وثيقة سمعية/ بصرية فأن المشاهد لا يحتاج لإذنه وهو يشاهد "همس المدن" فقد غاب في الفيلم العنصر السمعي وظل البصري وحده حاضرا منذ البداية حتى النهاية. وظلت حاضرة طوال مشاهدة الفيلم قدرة مخرجه على إثارة خيال المشاهد، ودفعه لطرح أسئلة. قاسم فرض منع التجول السمعي طوال فيلمه لكن كاميرته ظلت تتحدث بلسان ولا أفصح منه ولا أبلغ . ولهذا فان من يشاهد "همس المدن" ليس بحاجة ليتعب أذنه حتى يسترق السمع لـ "همس" المدن. فقد كان "صراخ" مدن قاسم حسن يكاد يسمع من بعيد. من بعيد جدا.
يقول قاسم في مقابلة منشورة بالفرنسية مع ماشا كرمبور:"ولدت فكرة الفيلم عندما ذهبت إلى أربيل عام 2002 بعد غياب طويل عن العراق. هناك تأثرت بالهدوء الذي يغمر المكان. وأعادني مشهد تلاميذ المدارس بملابسهم البيضاء لأيام طفولتي في بغداد. وأثر سقوط نظام صدام ذهبت لزيارة بلدي وشاهدت بغداد وما تعيشه من أوضاع. و بعد ذلك كنت في رام الله خلال الانتفاضة الثانية 2000/2003 وصورت من نافذة غرفتي في الفندق المشاهد في المدينة خلال منع التجول. و هكذا ومن هنا بدأت فكرة الفيلم. أردت ان يرى المشاهد وان يخلق علاقة شخصية مع هذه المدن بشكل مباشر دون وساطة".
وقد نجح قاسم بشكل باهر.
عندما انتهى العرض وانتهت إجابات مخرجه على أسئلة الحاضرين، سمعت في الطريق للخروج من الصالة شابة تقول لصديقتها: غريب. لا قصة ولا حوار. ليس سوى الكاميرا في هذا الفيلم، ومع هذا كان ممتعا ! وسمعت صاحبتها ترد: نعم، نعم، و هنا تكمن موهبة المخرج. أنا أرفع قبعتي احتراما لموهبته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* فيلم "همس المدن" سيعرض مساء اليوم ضمن فعالية ثقافية تقام في مقر مؤسسة "برج بابل" على شارع ابو نواس في بغداد.