ادب وفن

محمد الجزائري مناضلا ومفكرا وانساناً / ألفريد سمعان

ليس الأول وليس الأخير، فقدخلت أكاديمية الأدب والفكر الانساني من الكثيرين الذين حملوا تبعات الايمان بالكلمة، وبمسؤولية الأديب، وافتقاد الحصانة والاحترام المطلوب من قبل الجهات الرسمية التي ينقصها العطاء الثقافي وهي تعيش على الرذاذ المتطاير من الأحلام والنبوءات البائسة والوفاء لجنون العظمة وهم يعتقدون أن الأقلام لا بد أن توظف لمصلحتهم، وأن تمهد لهم الدروب وتزرع الورود وترش أغصانهم اليابسة بالماء أو تلون حدائقهم بالخضرة لكي يستمتعوا بها.
هذه الكلمات أرفعها اليك أيها الحبيب محمد الجزائري، وأنا أستعرض بعض ما أعرفه عنك وهو جميل ورائع ومذهل رغم الاساءات التي القت عباءتها عليك وكنت مرغما على تقبلها بكل ما ترتب على ذلك من اتهامات ومحاولات للتركيع واخضاع قلمك الذي بدأ متحديا وأنيقا وصادقاً، وظل رغم كل ما فعلوه بك علامة فارقة مع قافلة الفكر التقدمي واللمحات الانسانية وجذوات المحبة، والآمال الكبار والسموات التي تضج بنجوم العمل وتحمل الشجون وشتى أنواع الاضطهاد والأحزان.
عرفت محمد الجزائري الطيب الدؤوب الذي لم يترك حديقة في اطار الأدب والمعرفة الا وكان فارسا مغامراً فيها، يمتلك روح التحدي ويسعى الى تثبيت الوقائع بالمعرفة والاتكاء على من سبقوه في عالم الفكر الانساني. لقد كان خزانا كبيرا للمعرفة، قرأ كثيرا لأدباء العالم: شعراء، وروائيين، وسيناريوهات الافلام وآراء النقاد الأجانب والعرب. كان مولعا بالبحث والتنقيب عن الكلمة الجميلة، عن الفكرة الوضاءة، عن الشجن المغروس في فيافي الزمن، وكان يعالج كل شيء، ويحاول أن يعرف كل شيء، ويجلس على مقعد الدراسة أمام كل المعلمين الكبار في مدارس الفكر الانساني، وحتى الذين يسلطون سيوفهم على رقاب الحقائق ويتجاهلون نوابض الحياة ومرافئ المستقبل ولسعات العقارب.
هذا البحث المتواصل أدخله في أروقة متنوعة بعضها مظلم والبعض الآخر بأضواء ساطعة، كتب الشعر، غازل القصة، تابع المسرح، دخل عوالم الفن، رج قلمه في أغوار النقد، رسم بألوان مختلفة، ولكنها رصينة في لوحات فكرية ناضجة وتتميز بالقناعات دون ان ينكر تأثيره بما اعطاه الكبار من النقاد واصحاب الاقلام الفضية والذهبية ولم يبتعد عن ملاحقة الأدعياء وتجار الكلمات المدفوعة الثمن.
كنا معا في اللجنة الثقافية في نقرة السلمان وقدمنا مئات المحاضرات في شتى المجالات وأخذنا بيد العديد من الكتاب الشباب والشعراء. من جملة تلك الوجوه جمعة اللامي، قدوري العظيم، ناظم السماوي، وكان من مبدعينا مظفر النواب وفائز العبيدي وسعدي الحديثي ومصطفى عبود، وفاضل ثامر، وكنا نتابع ما ينشر في مجلة الآداب التي حملت على صفحاتها مقالات وقصائد لأدباء السجون والمطاردات الفكرية، وكان عنصرا فاعلا ومؤثراً.
وتدور المناقشات، تحلق حولنا الضباط الذين كانوا يتطلعون لزيادة معارفهم ومشاركتهم في ميادين الفكر الجميل. وبعد ذلك التقينا أيضا في جريدة "طريق الشعب"، و"الفكر الجديد"، واتحاد الأدباء ومسرح بغداد وفرقة مسرح اليوم و(الستين كرسي) وفي مجالات أخرى، نتابع ونقرأ ونلوم بعضنا، يأخذنا الحماس والمغالاة أحيانا، ولكننا لم نتخل عن حب بعضنا ولم تفرقنا الظنون والهواجس.
وللتاريخ، كان بيت الجزائري موقعا لاستلام الرسائل الحزبية والبريد الشامل القادم من أنحاء العراق كافة، وكنت أقوم بهذه المهمة بعد أن أستلم هذه الرسائل وأودعها لدى "محمد" ليأتي أحد الرفاق المسؤولين لاستلامها، وبعبارة أخرى كان الجزائري يقوم بجهد كبير،رغم خطر عقوبة الاعدام لو كانوا يعرفون ذلك عنه، وعن العاملين في هذا المجال عبر تلك الأيام البعثية السوداء.. المضنية، المكتظة بالرعب والخوف والترقب الدامي.
وتصحيحا لما ورد في ببلوغرافيا محمد الجزائري عن كونه أحد مؤسسي اتحاد الادباء عام 1958 اعتقد ان في الأمر خطأ كبيرا غير مقصود، كما لم يكن عضوا في مجلة الاتحاد.
ان الجزائري يستحق منا كل الاحترام والاجلال لا لما قدمه فقط في مجالات الفكر وزرع البراعم على غضون الثقافة وتنوع العطاءات الفكرية والنضال الدؤوب وبلا كلل في خضم البحار الادبية الواسعة.
لقد كان الجزائري انسانا رائعا ومناضلا شهما وناقدا يشار له بالبنان وباقة من الطيبة والعواطف السامية والأفكار النبيلة رغم كل ما تعرض له من مآس وأحزان واعتقال لدوره الفكري وتأثيره على ساحة الثقافة العراقية وفي ساحات النضال الوطني.