ادب وفن

المخرج رياض جابر: الصورة شغلت طموحي وفيها أجد الخيال الذي أنتمي اليه؟ / حاورته: شهد مولود الرفاعي

بين الإخراج والصورة الفوتوغرافية والتراث والقصة القصيرة تتوزع اهتمامات رياض جابر وتنحاز إلى كل ما هو إبداعي ومتميز وهو لن يتوقف عند نوع من الفنون حتى تجده يهرع إلى نوع آخر وفي هذا اللقاء الموسع تحدث عن رحلته مع الحرف واللون والصورة وأفاض في الكشف عن رحلته اﻻبداعية.
سألناه أولا:
 كيف كانت بدايتك مع الحرف واللون والصورة؟
 قد لا أغالي إن قلت إن ولعي بالثيمات التي ذكرتها "الحرف واللون والصورة" قد بدأ معي منذ وقت مبكر من طفولتي البعيدة، ولعل محيط عائلتي المتكونة من والدي المعلم، وأمي المولعة بأيام طفولتها بحواري وأزقة تكريت القديمة وبيوتها وعشقها الذي لا تكل من الحديث عنه لتلك الأيام الهانئة الهادئة المفعمة بالطيبة والمحبة والعافية، أثرت بشكل مباشر بإهتماماتي المبكرة بتلك الثيمات، فقد حرص والدي اطال الله عمره على أن يعلمني حب الأدب والثقافة والفنون منذ أن تعلمت القراءة والكتابة، فكانت مجلات "مجلتي والمزمار"، وكتب المغامرات والرحلات وسير الأبطال العرب والمسلمين والقادة لا تكاد تفارقني.
أما حكايتي مع الصورة فلها قصة أخرى، فكان هنالك محل في السوق القديم للعم الراحل "عايد العموش"، وكانت جدتي لأبي ترسلني أحيناً لأشتري لها "لفة سكائر مزبن"، وعند العم عايد العموش وجدت "ظرفا صغيراً" يضم عددا من "فريمات الأفلام العربية والهندية التي تم تقطيعها"، كان سعره 25 فلساً، أوحت لي تلك "الفريمات" أن أقوم بعمل سينما داخل البيت وأجمع لمشاهدتها أبناء عمي وأقراني من محلتنا "محلة القلعة" فكنت أجمعهم في "غرفة الخطار".. ونطفيء الإنارة.. ليصبح الظلام دامساً.. والهدوء يعم المكان.. ليبداُ عندها العرض.
من تلك الحادثة أحببت الصورة ... اللون .. السينما .. حتى قررت أن أصنع كاميرا، كانت تلك الكاميرا علبة معدنية "تنكة دهن الراعي"، أثقبها من الوسط، وأضع خلفها قطعة مقوى بيضاء، وأغطي رأسي، لآحصل على مشهد رائع "مقلوب" لحديقة البيت ولأصدقائي.
 مع تنوع اهتماماتك الفنية في فن الفوتوغراف واﻻخراج وكتابة القصة القصيرة، أين وجدت نفسك؟
 الحقيقة التي اؤمن بها دائماً إن المثقف و مهما تعددت إهتماماته المعرفية يشده الواقع الى الالتصاق بالعمل الذي يجد فيه متعة مطلقة تعوض فيه النقص تجاه الكمال الذي يبتغيه لهواياته الأخرى، ولأنني أعشق كل الإهتمامات التي ذكرتها إلا إنني أعتقد أن الصورة بنوعيها شغلت حيزاً مهماً من طموحي الشخصي، ففيها أجد مساحة واسعة للخيال الذي أنتمي اليه ومنه ، مع أن كتابة القصة القصيرة أضافت لرؤيتي المتواضعة في الإخراج بعداً ثالثاً تمكنت من خلاله وبفضل الله أن أنجز الكثير من الأعمال بمفردي وتلك الأعمال عادة تتطلب جهداً جماعياً لإنجازها ، وذلك ليس من نرجسية الإبداع التي تتملكني ولكنها محاولة لإستخراج الكوامن الداخلية لذاتي في تحقيق ما أنا مقتنع به أولاً ..!
أخرجت العديد من اﻻفلام الوثائقية كان آخرها فيلم عن المكان وخصوصيته عند القاص فرج ياسين.
 كيف تكونت الفكرة لديك وكيف نفذت العمل؟
 ذكرت سابقا إنً علاقتي كانت مبكرة بصناعة الأفلام الوثائقية ، فقد تجاوزت حتى الآن اكثر من 35 فيلماً بين طويل ومتوسط، وأغلب تلك الأفلام كانت تتحدث عن تراث وثقافة محافظة صلاح الدين ومدينتي تكريت، إلا أن الفيلم الأقرب لقلبي بين كل تلك الأفلام هو الوثائقي "رماد الأقاويل"، حيث حاولت من خلال هذا العمل أن أقدم سيمغرافيا حكائية عن علاقة القاص العراقي الكبير د. فرج ياسين بالموطن الاول له. مدينته تكريت التي نهل من خبايا تراثها وتأريخها الكثير مما أنتجه على مستوى القصة القصيرة التي أصبحت بإبداعه عالماً آخراً يستحق التوقف أمامه طويلاً .. رماد الأقاويل يحمل الإسم ذاته لأبرز مجموعات د. فرج ياسين القصصية.
 كنت من اوائل مؤسسي لقناة صلاح الدين الفضائية وكان لك دور بارز في تطوير تقنياتها الفنية واﻻخراجية...ماذا اضافت لك الرؤية اﻻخراجية والعمل في الفضائية؟
 منذ إنطلاقة قناة صلاح الدين الفضائية حاولت جاهداً من خلالها خلق نمط معين يماشي اهتماماتي التي ذكرتها آنفاً، ولذا فقد حرصت أن يكون لمدينتي تكريت ولمدن محافظتي الحبيبة الأخرى حضور فاعل على الشاشة الصغيرة ، لأنني كنت أؤمن أن القناة يجب أن تكون مشبعة بواقعها المحلي الذي من خلاله نستطيع أن نقدم صورة واضحة المعالم لواقع المحافظة ... تأريخها .. تراثها .. سيرة أبنائها .. تلك الرؤية كانت محط اهتمام إدارة القناة التي دعمتني بقوة في كافة المجالات .. ومعي نخبة خيرة من المبدعين الكبار الذي تربطني معهم علاقات أخوة وزمالة ، فقدمنا من خلالها الكثير من البرامج الهادفة، السياسية والثقافية والفنية، والكثير من المسلسلات الشيقة التي جسدها عمالقة الكوميديا العراقية.. معظم تلك الأعمال تم تصويرها فيمدينة تكريت وناحية العلم، وحاولنا من خلالها إضافة طابع المنطقة عليها ولذلك كان أغلبها ناجحاً ومازال في ذاكرة الناس منها على سبيل المثال شخصية "أبو زكي"، التي جسدها الفنان المبدع الأستاذ أياد توفيق والمسلسل الكوميدي "حكاية مثل".
 أقمت العديد من المعارض الفنية للصورة الفوتوغرافية داخل العراق وخارجه وانت تمتلك بصمتك الخاصة التي تميزك ..بمن تاثرت من رواد هذا الفن وكيف تطورت تجربتك؟
 الفوتغراف حكايتي الخاصة.. ولع وهوس مستديم يعيش في داخلي .. حتى إنني لاأكاد أفارق الصورة حتى في أحلامي .. ففي البيت والسيارة والعمل والسوق .. تلاحقني زوايا التصوير لأرسم معها فكرة للقطة ما .. حتى أتهمت أحياناً بأني أسرح بعيداً في مواضع لاينبغي لي إلا أن أكون واعياً فيها .. وكل ذلك بسبب متعتي الروحية الخالصة عند تأمل مشهد من الحياة أتمنى أن أحوله إلى صورة فوتوغرافية ..
تشدني وجوه الأشخاص الذين ألتقيهم ، مشاعرهم .. ملامحهم .. إنعكاسات الظل والضوء التي تشكل رؤيتي اليهم .. تلك العلامات حولتها الى أعمال فوتغرافية "متواضعة بتقديري"، أقمت لها عدداً من المعارض الشخصية في قصر الثقافة والفنون في المحافظة والعاصمة بغداد والموصل وديالى .. لكن الأنتقالة المهمة كانت معرضي الشخصي الذي أقمته في المركز الثقافي العراقي في واشنطن عاصمة الولايات المتحدة الأمريكية ، والذي حقق حضوراً لافتاً لدى الزوار العراقيين والأجانب ، حتى إن صحيفة الواشنطن بوست نشرت إحدى صوري على صفحتها الأولى ومعها عبارة "العراق .. الصورة تكفي" وكانت تلك الصورة تتضمن عامل صيانة للكهرباء غارقاً وسط فوضى أسلاك الكهرباء المتدلية من العمود وهو يدير ظهره للكاميرا .. تلك اللقطة على مايبدو شكلت مفارقة جعلت إدارة الصحيفة تعتمدها في صفحتها الأولى ..
 اهتماماتك بالموروث الشعبي لمدينة تكريت وتوثيقك الارث التاريخي والفني لها خير دليل على هذه اﻻهتمامات.. ما الذي يشدك الى التراث والموروث؟
 الموروث الشعبي هوية المدن وصورتها الحقيقية والحفاظ عليه مسؤولية وطنية وإنسانية مهمة ، كل الدول المتقدمة رغم قصر زمن حضارتها تهتم بالموروث الشعبي ، فكيف الحال بمدننا التي يعود زمن نشوئها الى أكثر من 500 عام؟
ولأنني مولع بتراث مدينتي الحبيبة تكريت فقد حاولت جاهداً توثيق تراثها المتنوع ماإستطعت،وكان لعملي في "جريدة تكريت الإسبوعية"، حتى عام 2003 الأثر الكبير في صقل ذلك الإهتمام فقد نشرت الكثير من الموضوعات التي تتحدث عن تراث المدينة وتأريخها ، وفي السنوات الأخيرة أسهمت بمراجعة و تصميم وطباعة عدد من الكتب التراثية لمدينة تكريت على حسابي الشخصي منها كتاب "تكريت ذاكرة ومدينة" للأستاذ المؤرخ منذر الكلاك ، وكتاب "تكريت .. صفحات من الماضي الجميل" للأستاذ المؤرخ عواد علي الحميدة وكتاب "تكريت في ذاكرة الأجيال" للأستاذ المؤرخ والشاعر حسين السميط وهو من الأعمال التي توقفت عن إنجازها بسبب ظروف النزوح القسري الأليم الذي مررنا به ..
 بعيداً عن الاخراج والفن ماهي هوايات رياض جابر ومن يسلطن سمعه؟
 يقول عبدالرحمن مولين "إن الموهبة أساسية في الإخراج، لكنها غير كافية"، مضيفا أنه "على الفرد من أجل صقل الموهبة أن يعضدها بالتكوين والعلم والمعرفة والدراسة حتى يجمع الحسنيين" فهل كانت الموهبه دافعاً لرياض جابر في الاخراج ؟
اعتقد أن الإخراج كحال أي نوع من الفنون الأخرى يتطلب موهبة كامنة ، تلك الموهبة يتم تطويرها بثلاث طرق ، الأولى هي المتابعة الجادة للأنتاج العالمي في مجال الأفلام الدرامية والوثائقية ومنها تحليل الفيلم وحركة الكاميرا والتقنيات الإخراجية المستخدمة ، والثانية هي تطوير الموهبة عبر الدراسة الأكاديمية إن توفرت "أقول إن توفرت" لأن معظم كبار المخرجين العالميين لم يكونوا أكاديميين أبداً .. بل قادتهم الصدفة والموهبة لتقديم إبداعاتهم التي أذهلت العالم ، مع ضرورة أن تتم تنمية ذلك بالمتابعة الدؤوبة للأعمال السينمائية ومعرفة لغة السينما والإخراج والتمرس على إستخدام المصطلحات الفنية الخاصة بها.
 أخيرا.. أمنية رياض جابر؟
أن أعرف طعم الحرية ، الإنسانية ، الكرامة ، الأمل ، الرفاهية .. بعيداً عن العراق .. أقولها بقلب محترق .. وغصة تكاد تخنقني .. لكنها الحقيقة .