ادب وفن

دفاع القص.. اتهامات النقد / جاسم العايف

حوارات القاص "عبد الستار البيضاني" مع بعض القصاصين العراقيين التي سبق أن نشرها في كتابه:" الزاوية والمنظور"، الموسوعة الصغيرة، يتم عبرها إخضاع القصة العراقية القصيرة لقوس النقد، المبتدئ بالباحث عبد القادر حسن أمين، والمغلق بالدكتور عبد الإله احمد، الذي يضع القصة في دائرة الشكوك والخيبة وسطوة النقد المتعالي، ويرى أن القصة القصيرة، في العراق، لا تملك جدارة "الخروج للعالم العربي تحديداً ولا نقول للعالم, وتباهي الناس بها، مسوغاً ما يُعرف بالأسباب والنتائج: "نقد راقٍ.. لنصٍ راقٍ".
ومن هنا يكون النقد قد تجاوز صيرورته في إنشاء نص آخر، يحاذي أو يخترق، وقد يتقدم على النص الأول.
ويتكئ د. عبد الإله احمد على خيبات أمله الخاصة جداً، التي تقرر إن القصة العراقية لا تحقق ما يرجوه لها من فنية وتمكّن، بينما يؤكد بعض المتحاورون قصور النقد في العراق واستنكافه ونظرته الدونية للنص القصصي العراقي، وهو ليس سوى نزعات نقد شائعة تتميز بالاستعلائية والتذوق الصرف والانتخاب المنطلق من نزعة عشوائية أو ذاتية ، في اقل تقدير.
يعتبر عقد الخمسينات البداية الفنية للقصة العراقية وفي الوقت ذاته بداية النقد العراقي المعني بالقصة حيث ظهر أول كتاب نقدي متخصص في تاريخ القص العراقي والمقصود به كتاب "القصص في الأدب العراقي الحديث / لـ" عبد القادر حسن أمين" - صدر عام 1956 - وهو الأرضية التي استندت إليها أغلب الدراسات النقدية أو ما يقع في محورها من كتابات خاصة بالقصة العراقية لاحقاً. يحدد الراحل عبد القادر حسن أمين السبب الذي دفعه إلى هذه الدراسة في:"الولع بالقصة أولا ثم الاستجابة لدواعي الدراسة الأكاديمية ثانياً". أما بالنسبة للمناهج التي اتبعها في دراسته وتطبيقاته فيذكر:" لم أحاول تطبيق أي منهج كان.. أفكاري ذاتية، وإحساسي هو الذي يقودني"!!. وتقود تطبيقاته "ذائقته النقدية" التي نمّاها بالاطلاع على القصص العالمية والعربية. ويبدي الأستاذ عبد القادر، أسفه الشديد لإغفاله كاتباً غزير الإنتاج لم يذكر اسمه واعتقد انه الراحل "جعفر الخليلي" كما يمتد الأسف إلى الراحل جبرا إبراهيم جبرا الذي يؤكد أنه عاتبه فيما بعد كثيراً على إغفاله في دراسته تلك. وفي الواقع لا يمكن اعتبار نتاج جبرا القصصي منذ أكثر من ربع قرن أي في فترة الدراسة تلك من ضمن الإنتاج القصصي العراقي حتى وان كتب الراحل جبرا قصصه عند مجيئه إلى العراق بعد الهزيمة في حرب فلسطين واستقراره فيه.
والأستاذ عبد القادر حسن أمين يردد في الغالب "إن جهوده سُرقت"، وكان يذكر ذلك كثيراً في كل المقابلات الأدبية التي أجريت معه والتي استطعنا الاطلاع عليها، وأهمها الحوار الذي أجراه معه الشاعر فوزي كريم وسبق نشره في مجلة "ألف باء". ويؤكد فيه، أمين، انه تم التنكر له ولجهوده في دراسة القصة العراقية . لكنه لم يوضح الكيفية التي تمت بها سرقة جهوده؛ ولا الذين سرقوه؟!.
أما التنكر فلا أساس له لأن كثير من الدراسات حول القصة العراقية أشادت بجهوده في تلك المرحلة. يتفق المعنيون بالبحث في القصة العراقية على إن عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي هما من أسّسا للسمات الفنية فيها. ومحاورة، القاص البيضاني، مع القاص فؤاد التكرلي كانت ضرورية خاصة بعد تعذر محاورة عبد الملك نوري، لأسباب عدة. ما يميز التكرلي هو لغة القص لديه لذلك يقول:"كنت أفكر بالقارئ قبل الشروع بالكتابة".
وحول الشكل القصصي يرى بأنه: يُبتنى "باللغة والأحداث" وان على القاص الوعي بضرورة اتخاذ منهج في كتابة القصة.
يُعرف القاص التكرلي مصطلح "اللغة الثانية" بأنه إشارات ترتبط بصورة, وتُكون علاقة مع القارئ ومخيلته حيث الصور تنمو بتتابع واللغة تختفي والقارئ يرتبط بمسار يتألف من صور متحركة ذات خلفية إنسانية، هذه "المسارات- العوالم" تتقدم وتتقاطع في ما بينها خلال الزمن الروائي مكونة بالنتيجة البناء الروائي لأنها ليست هي اللغة كما نعرفها بل الصور المتكونة في مخيلة القارئ والتي اكتسبت أو منحت حركتها بواسطة هذه المخيلة.
يشكل الراحل مهدي عيسى الصقر الوجه الآخر للتأسيس الفني في القصة العراقية، وهو أكثر كتاب جيل الخمسينات تواصلاً وغزارة. عن مفهومه للقصة يقول:"القصة يجب أن تقف على قدميها!. كيف؟. لم يتطرق لذلك؟. لكنه يضيف:"يجب أن تشد القارئ وان يكون فيها حس إنساني". عند مرحلة الستينيات أو مرحلة الإشكالات والأسئلة لا بد من التوقف عند القاص محمد خضير، الذي يحبذ إخفاء مرجعياته الثقافية.مؤكداً:" كل الكتاب يفعلون ذلك.. أنهم لا يقولون الحقيقة". ويستثني من ذلك بورخيس.
وحول تأثره به يقول القاص محمد خضير معرِّفاً التأثير بأنه:" الاستعداد المشترك بين المؤثر والمتأثر وثمة ثلاثة شروط لذلك حيث العقول المتكافئة وعدم القصدية وعامل الانجذاب". إلا انه يرى إن الأهم تحويل التأثير والانجذاب إلى سياق خاص وان على الكاتب أن يستمر "بتعجيله الخاص"، تحت مؤثرات أخرى تتعلق بنموه العقلي والخيالي ونشاطه وتأمله بعالمه الخاص.
يرى القاص محمد خضير إن تطور القصة العراقية قد خضع للتداخل بين الأساليب وليس للانقطاع وان تيار القصة الستينية لم ينته حتى الآن؟. ويضيف:"قصاصو ما بعد الستينات يضيفون إعمالاً مهمة ومتقدمة إلى إنجازات القصة العراقية في سياق متداخل غير منقطع".
القاص الراحل جليل القيسي الذي نحا في تجريب الموضوعات والإشكال يقرر ان"ليس ثمة خلود ما بمواجهة ديالكتيك الحياة". والراحل محمود جنداري الذي يعتمد المغايرة, وتشكل قصصه نموذجاً لتحولات النص الستيني, والذي بدأبه المستمر على التحول من رؤيا إلى أخرى يعزو ذلك إلى القلق في المرحلة الواحدة. ويتساءل:" لماذا نصل بالواقعية حد الإسفاف في الوقت الذي يمكن استخدام الرمزية وتوصيل همومنا بشكل معقول"؟
وعن النقد والنقاد يتحدث د. عبد الإله احمد بعد أن يجهز على منجز القصة العراقية كما ورد في مقدمة مقالنا هذا، ويوسع اقصاءاته لتشمل النقد العراقي الحديث ، والمعني بالقصة العراقية تحديداً، ولا يرى فيه غير اتجاهات نقدية لم تتبلور بعد وإنها وصلت عن طريق الترجمة حيث شاع الكثير من الخلط والإرباك في المصطلحات والرؤية.
تأسيساً على حديث الدكتور عبد الإله احمد عن القصة و النقد والنقاد في العراق وكون د. عبد الإله احمد باحثا مهماً في تأريخ ونشأة القصة العراقية ولأهمية موقعه في النقد القصصي العراقي, يحق لنا ، مع علمنا بأننا لن نحصل على جواب منه بسبب رحيله، أن نتساءل: انه إذا تم إقصاء واستبعاد الدراسات النقدية والبحوث الحديثة التي صدرت خلال أكثر من عقدين عن هذه الخارطة فما الذي سيبقى من مساحتها ؟. وما هو الشكل الذي ستكون عليه تبعاً لذلك؟!