مدارات

الحزب كضرورة للوطن وللديمقراطية* / د . ثامر الصفار

عندما داست اقدام العالم عتبة القرن العشرين ظل العراق بمدينته العريقة بغداد يمثل واحدا من اهم مناطق العالم عند الاوربيين وحتى الأمريكان؛ لا بسبب حكايات الف ليلة وليلة ومغامرات السندباد البحري بل لأنه «تحول الى مسرح لحرب دولية من اجل الهيمنة السياسية والتجارية على الشرق الأوسط وبغداد هي مركز لمراقبة الأحداث» "مارغريت سمبنج، حيث عاش آدم وحواء، مجلة ناشيونال جيوغرافيك، 1914، العدد كانون الاول/ ديسمبر، ص 552".
لكنه ظل ايضا يعيش ظلمة حضارية نتيجة لسنوات الهيمنة العثمانية التي امتدت أكثر من ثلاثة قرون، حتى وصفه الدكتور علي الوردي بأنه كان عهدذاك «اكثر المقاطعات العثمانية تخلفا» فقد انيطت ادارة البلاد بالولاة المحليين والقوى الاجتماعية التقليدية، ما جعل السكان يتمسكون بالعصبية والقيم البدوية، حفاظا على انفسهم وأموالهم وقد طال ذلك حتى سكان المدن الذين بلغت نسبتهم حوالي 24 %، في حين كان البدو والفلاحون يشكلون 76 % "مصادر متنوعة".
تتمثل اهم مميزات الحكم العثماني في المقاطعات البعيدة عن اسطنبول في ضعف الإدارة، الفساد، اعتماد القوة العسكرية فقط لحل اشكالاتهم، ما فاقم التناقضات الاجتماعية/ الاقتصادية، النهب المستر للثروات، فسح المجال للتغلغل الرأسمالي بما فيه الأمريكي؛ حيث كان حجم التبادل التجاري مع بريطانيا قد وصل في السنوات العشرة الاولى من القرن العشرين الى 5 ملايين جنيه استرليني، ومع البدء بالتنقيب عن البترول جرى استخدام شركات اميركية للحفر مع استيراد الانابيب من اميركا، حيث بلغت كمية شحنة واحدة منها حوالي 20 الف طن، اضافة الى استيراد الحديد بكميات هائلة منها مع بدء العمل في منطقة المسيب "مارغريت سمبنج، مصدر سابق".
وقد ادى كل ذلك اضافة الى عوامل اخرى الى نشوء حالة من التناقض مع الرغبة في تكوين وعي وطني للخروج من قوقعة القبيلة والعشيرة الى هوية وطنية موحدة قائمة على السمات المشتركة بين العراقيين.
بيد ان التطور امر لا مفر منه؛ اذ شق طريقه خصوصا مع التعديلات الدستورية في تركيا التي حدت من صلاحيات السلطان عبد الحميد، والتي وقف كبار الملاك والتجار وشيوخ العشائر ورجال الدين ضدها لشعورهم بتهديدها لسطوتهم على سكان البلاد. وبعد قيام الحكم الملكي ورغبة الملك فيصل في تثبيت سلطته والتقليل من سلطة الاخرين ظهر قانون الاحزاب في صيف عام 1922، وتمت على اساسه اجازة ثلاثة احزاب إلا انها كانت مجرد تجمعات فضفاضة للتكتلات الشخصية التي لا تتعدى جذورها القشرة العليا للمجتمع، وفي داخل تلك القشرة كانت الاحزاب مجرد ادوات لنفوذ النخب الصغيرة. وبرغم ذلك شنت القوى التقليدية هجوما باعتبار ان تشكيل الاحزاب هو بدعة تخالف التقاليد والأعراف الدينية.
ان من الثابت عمليا ان قيام حزب سياسي حقيقي يرتبط بدرجة معينة بالتحديث والتنمية، يمكن الشعب من انشاء وصيانة وإدامة اشكال تنظيمية قادرة على القيام بالوظائف الجديدة التي يستلزمها المجتمع الحديث الذي يستلزم بدوره قيام نظام تعليمي حديث. وفي هذا السياق يكون الحزب السياسي نتاجا منطقيا للمجتمع في صيرورة تطوره ويغدو وجوده ضرورة حتمية بدلا من ان يكون مجرد نتاج لقرارات تتخذها السلطة القائمة في البلاد او خارجها.
وفي حالة العراق كانت الضرورة تحتم قيام حزب سياسي يكون بمثابة البوتقة التي ينصهر فيها الفلاحون مع سكان المدن خصوصا وان اغلبية السكان تعيش في مناطق ريفية وتعمل بالزراعة، اضافة الى حقيقة ازدياد سكان المدن بمعدلات تفوق سكان الريف بفعل الهجرة من الريف الى المدينة. اضافة الى تلبيته حاجات الشعب بكل اطيافه وتحديدا العيش في وطن ذي سيادة حقيقية (حر) والتحكم بثرواته من خلال قيام حكومة وطنية ديمقراطية توفر الحق للجميع وتوزع الثروات بعدالة، اي ان يكون الشعب (سعيد). ويمكن التنبيه هنا الى ان ادخال الخدمة الالزامية في الجيش العراقي الذي بدأ تطبيقه عام 1936 قد ساعد في تخفيف قوة الانتماء الى العشيرة لصالح الانتماء الى الوطن إلا انه لم يكن كافيا لوحده.
هذا هو الأساس او السبب الأول لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي الذي تبني شعار «وطن حر وشعب سعيد» الذي استمده من الحزب الشيوعي السوري حيث كانت سوريا تعيش حالة مشابهة لحالة العراق تماما.
ولكن لماذا حزب شيوعي يستند الى الماركسية كمنهج له والعراق بلد متخلف صناعيا؟ ولماذا توسع ليصبح في ما بعد اكبر قوة سياسية في العراق؟
الجواب عن هذين السؤالين يكمن، باعتقادي، في واقع المجتمع العراقي ذاته وليس في الماركسية كأيديولوجيا، بكلمة اخرى ان التراث الحضاري/ الثقافي لشعوب المنطقة كان هو العامل الاكثر اهمية. نعم ان ماركس وخلال السنوات الاخيرة من حياته وبفعل اهتمامه بأدب الشعبيين الروس كان قد توقع قيام الثورة في روسيا الفلاحية بدلا من بريطانيا الصناعية، إلا ان شحة المنشور من الادب الماركسي باللغة العربية في العقود الثلاثة الاولى من القرن الماضي لم تكن لتسمح لأغلبية الشعب بالاطلاع على الماركسية بلغتهم الام باستثناء مجموعة من المتعلمين المتمكنين من لغات اخرى شكلوا في ما بعد الحلقات الماركسية الأولى. ويمكن القول انه حتى هؤلاء كانوا قد انجذبوا الى الماركسية بفعل قوة المثال حسين الرحال مثلا كان شاهدا على ثورة شباب سبارتاكوس خلال دراسته في المانيا واستمع الى خطب روزا لوكسمبرغ وكارل ليبيخت. اضافة الى الافكار الاساسية التي تعرضها الماركسية والمثال الذي قدمته ثورة اكتوبر التي مثلت نموذجا لبناء الجنة الأرضية، اي الحلم الذي تعيشه كل شعوب الارض ومنها الشعب العراقي.
وهذا هو الأساس، او السبب الثاني، لتأسيس الحزب الشيوعي وتبني الماركسية كطريق لتحقيق حرية الوطن وسعادة الشعب.
وكان على الحزب ومنذ بداية انطلاقه ان يتحول الى مدرسة وان يعمل في جميع مجالات الحياة اليومية ووسط جميع مكونات الشعب لا ليعزز روح الانتماء للوطن الشامل للجميع فقط بل ليفتح ابواب الحضارة الانسانية امام المجتمع العراقي. فالعمال والفلاحون هم حملة شعلة الثورة، والطلبة والشبيبة هم المستقبل، والمرأة نصف المجتمع وبدونها لا يمكن تحقيق الحلم، والمثقفون والأدباء والفنانون هم حماة الحضارة وحاملو مفاتيح ابوابها. بكلمة اخرى كان على الحزب ان لا يركز على العمل السياسي فقط بل على نواحي الحياة الاخرى التي هي من مهام منظمات المجتمع المدني التي كانت الساحة تفتقر الى وجودها آنذاك.
وبالتالي غدا الانتماء الى الحزب طريقا للفرد العراقي لتحقيق حلمه الشخصي من خلال تحقيق الحلم العام. وهذا الايمان بتحقيق الحلم هو الذي مكن الحزب من الاستمرار برغم ما تعرض له من ضربات وحملات تصفية. فقد ذاب الحلم الشخصي ضمن الحلم العام بحيث غدا الالاف من اعضاء الحزب مستعدين للشهادة من اجل ان يتمكن غيرهم من رؤية الحلم وتحقيقه فوصف الحزب «مثل الثيل كلما ينحش يكبر اكثر».
في اعقاب انهيار «الاتحاد السوفييتي» ظن الكثيرون ان نهاية الحزب قد أتت، فهؤلاء كانوا قد بنوا قناعاتهم على ان تأسيس الحزب كان وفقا لقرارات جرى اتخاذها في موسكو - الطريف ان البعض منهم لا يزال الى يومنا هذا يكرر نفس الاسطوانة - لكن الحزب واصل نشاطه ولم يتعرض الى هزات فكرية، لا لأنه جبل شامخ لا تهزه الاحداث العالمية بل لان همه اولا وأخيرا كان هما عراقيا مرتبطا بالواقع العراقي، والماركسية بالنسبة له هي المنهج الذي يحدد منطق افعاله ونشاطاته وهي بحاجة، نعم، الى اعادة قراءة وفهم جديدين.
ثم سقط الصنم وعاد الحزب ليمارس نشاطه العلني عام 2003. وفوجئ البعض بسرعة الحزب في بناء تنظيماته رغم صعوبة الظروف المحيطة وحالة الدمار التي تعيشها الطبقات الشعبية والوسطى من الشعب بفعل الحروب والحصار الاقتصادي. ثم جاء الاقتتال الطائفي ليزيد الطين بلة، فالهم الاساسي للمواطن اصبح البقاء على قيد الحياة وعادت الاوضاع الى ما كانت عليه في بدايات القرن الماضي من ضعف الولاء للدولة مقابل تعززه لصالح العشيرة والمذهب والقومية. وفي خضم ذلك كان لا بد ان تظهر الدعوات مجددا الى ضرورة حل الحزب او تغيير اسمه فالواقع الجديد لن يسمح للحزب بالتأثير على مجريات الأمور». وهذه الدعوات تغفل عن عمد او بحسن نية طبيعة الدور التاريخي للحزب، فإذا كانت الطبقات موجودة فلماذا تنتفي ضرورة وجود حزب شيوعي. وإذا كان الاستغلال الرأسمالي قائما بل انه يرتدي اليوم اكثر الاشكال وحشية ليشمل الانسان والطبيعة، وإذا فشل التطور الصناعي وثورة المعلومات في تقديم العاملين فيها لقمة خبز او قطعة لحم إضافية، ولم تتغير مكانتهم وحصتهم من عملية الإنتاج، وإذا كان العامل المتعلم وغير المتعلم كلاهما يبيع قوة عمله، جسدية كانت ام ذهنية، فتحول كلاهما الى شغيل، وإذا كانت الدولة الديمقراطية لا تزال بعيدة عن متناول اليد، وإذا كان الشباب والطلبة لا يرون مستقبلهم، وإذا كانت معاناة المرأة مستمرة، وإذا كان المثقفون والأدباء والفنانون لا يتمتعون بحرياتهم، اذا كان كل هذا، لماذا يطلب منا التوقف وإخلاء الساحة؟ ولمصلحة من؟
ان ظروف اليوم تتطلب اكثر من أي وقت مضى وجود حزب شيوعي عابر للطائفية والمذهبية يحترم الديمقراطية ويعزز من روح المواطنة والولاء للوطن، حزبا يحقق الحلم في وطن حر وشعب سعيد.
ــــــــــــــــــــــــــــ
*عن عدد اذار للثقافة الجديدة