المنبرالحر

في نقـد "ثقافة" الاتبـاع والتقلـيد (1): أسـئلة الثقافـة وصـدأُ العقــل / حمـيد الخاقاني

أصلُ هذه الدراسة كان في البدء موضوعات قدمتُها موجزة في ملتقى ثقافي قبل سنوات، ونُشِرتْ بإيجازٍ أكبرَ، في حينها، في مجلة بغدادية هي (تواصل). وبعد انتفاضات الشباب في بلدان العرب، وما انتهت إليه وأعقبها من خراب وموت، عدت للاشتغال على تلك الموضوعات وتوسيعها وتعميقها، ساعياً للمساهمة في إثارة الجدل حول الجذور الفكرية والثقافية لخراب حياتنا وموتها في هذا الزمان، فكانت هذه الدراسة التي ستُنْشَـرُ أقسامُها تباعاً.
السؤالُ، في معانيه اللغوية والفقهية والفلسفية العميقة، اسـتدعاءٌ لمعرفةٍ، أو لما يؤدي إلى معرفة. فهو بهذه المعاني منطلقٌ أساسٌ لتحري الحقائق والظواهر واكتشافها وتقويمها، وإعادة صياغة الحياة والنفوس والعقول على ضوء ذاك الاكتشاف وهذا التقويم. وإذا كان تحرّي الحقائق يشترط إخضاع الأشياء للتساؤل، فهو يشترط الشكَّ العقلاني المُعافى والتجريبَ كذلك. فبدون شكٍّ وتساؤل وتجريبٍ لا يُمكن أن يتحقق اكتشاف شيئ جديد، ولا اعادةُ اكتشافٍ لشيئ قديم ما يزال يحتفظُ بجِدَّة الحياة. فالتساؤل، بهذا القَصـد، ثقافةٌ ومُوَلِّدٌ لثقافة جديدة تستولدُ هي الأخرى، بالضرورة، أسئلةً جديدة.
إذَنْ يظل سؤال (الثقافة) السؤالَ الأكثرَ جوهريةً، كما أرى، في حياة أية مجموعة بشرية. فهو سؤال (الوعي) الفردي والجمعي على السواء، وأشكال تعبيره عن نفسه. فهو إما أن يكونَ سؤال العقل الحُرّ الناقد وفضولِه إلى معارف وحقائق جديدة، أو العقلِ التابع المُتَلَقّي لما يُقالُ له، والقابل بما يتلقاه دونما تأمُّلٍ فيه. وهو بالتالي سؤال ما يتولَّد عن هذين العَقلَيْن من طرائق النظر في الأشياء والظواهر، البسيط منها والمُرَكَّب، وتأملِها والتعاملِ معها (العقل التابع ليس بعقلٍ، والثقافة التي تصوغه ليست بثقافة، في تقديري). وهو، في صورته هذه، سؤال الوجود البشري في مختلف مظاهره وتجلياته ومعانيه : سؤال النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي. سؤال الدولة بنيةً ومفاهيمَ، وقوانينَ ووظائف: دولة الحريات والحقوق الذي يتساوى فيها الجميع، أم دولة العسف والتراتبية الدينية والاجتماعية والحزبية؟.
وهو سؤال الهوية بأبعادها المختلفة. أهي الهوية المغلقةُ على نفسها، الغاطسة في وهمها بأنها غيرُ مشوبة بآثار الغَير. هوية الانكفاء على النفس، والتي يظن أصحابها نقاوتَها وتفوُّقَها على غيرها، أم أنها الهوية المنفتحةُ، المتحركةُ، المتغيرةُ في عملية أخذٍ وعطاء لا تكاد تتوقف؟
وسؤال (الثقافة) هو، في الوقت نفسه، سؤال العلاقة بين الحاكم والمحكوم. مَن يتبعُ منهما الآخرَ، ومن يتحكَّمُ منها بالآخر ويحدّد مصائره؟ وهو سؤال السلم أم الحرب، بناءِ الحياة أم خرابها. سؤال الديمقراطية بوصفها آلياتٍ وفلسفةَ حياة وحَكْمٍ، ورؤيةً نقدية متواصلة للنفس، بوجوهها الفردية والجماعية، وللآخر بالمعاني ذاتها، أم الوقوف عند آليات هذه الديمقراطية وخطابها فقط، أي البقاء عند قشرتها، حيث لا تعود ديمقراطيةً أبداً، بل تصبح ورقةَ توتٍ مثقوبةً تغطي نفاق عقلية فردانية نزَاعةٍ للتسلط، وتسترُ عورة نُظُم استبدادٍ تُنتجُها ثقافة شمولية، ترتدي لباساً دينياً عند هذا، ودُنيوياً عند ذاك. شواهد التاريخ على نمطَي الاستبداد الشمولي هذَينِ كثيرةٌ، وهي ماثلة أمامنا ماضياً وحاضراً.
وهو سؤال النظام التعليمي عقولاً ومناهجَ وأدواتٍ، أهدافاً ومؤسسات، حركةً متغيّرةً أو سكوناً لا حركةَ فيه. وهو كذلك سؤال الحرية: حرية الناس أفرادا وجماعات، أدياناً وطوائف وأحزاباً، حرية الأفكار والعقائد، حرية تقليبِ الحقائق على وجوهها المختلفة والبحث فيها عقلياً وعلمياً، أم تقييد هذه الحرية، واعتقال العقل في زنازين حقيقة واحدة، لا ترى الحق إلا فيها ومعها .
وسؤال (الثقافة) هو سؤالُ التاريخ والموروث أيضاً، وأشكالِ التواصل معهما. سؤال الاستسلام للمفاهيم والأحكام الثابتة التي تتخذ صور الأيقونات المحاطة بهالات التقديس، ولا تتغير قراءتُها بتغير الأزمان والأحوال، أم الجدل المفتوحِ معها، وعرضها على العصر وأسئلته وحاجاته وتطور المعارف فيه.
وهو سؤال المرأة مكانةً في المجتمع، ودوراً فيه وفي الحياة عموماً. سؤالُها بوصفها أصلاً مساويا للأصل الآخر (الذكَر) ومكافئا له، لها ما له، وعليها ما عليه. سؤالُ: هل خُلِقَتْ وإياه من نفسٍ واحدة، لم ينشأ الجنسُ البشري، ولا يتواصلُ وجوده، إلا بهما معاً، أم أنها فرعٌ منه، قُـدّ!َتْ له من ضلعٍ أعوج فيه لا يستقيم، مثلما يوهِمُنا (العقل التقليدي) ومنظومته الفكرية؟
وسؤال (الثقافة) هو سؤال العلاقة مع الآخر، أفكاراً وحضارةً، وعيشاً مشترَكاً، سواء شاركني هذا الآخر في المواطنة أم لم يشاركني فيها. جانسني أو لم يُجانسني. قرُبَتْ مَواطنُه من مَواطِني أم بُعُدَتْ عنها. أقليّةً كان هذا الآخر أو أكثريةً. خالفني في الفكر والعقيدة والنظرِ للأشياء وناقضني فيها جميعِها، أو قاربني في بعضها، واجتهد غيرَ ما اجتهدتُ في بعضها، أو في الكثير منها.
وسؤال (الثقافة) هذا هو سؤال الإيمان الديني الحُر، المُحَرِّرِ للعقل والروح، والإيمانات الأخرى كذلك، وأشكال تَلَقِّيها وتَمَثُّلها وتمثيلِها أيضاً. أهي إيمانات (الإكراه) والتشدّد والعبودية لغير الله ممن يتغطَّون باسمه، ويرون أنفسَهم ممثّليه بيننا، أم إيمانات (لا إكراه في الدين) والمجادلة بالتي هي أحسن، أي إيمانات الحرية وقد صدرت عن العقل، وفاض بها الوجدان، وتطابقَ فيها المرء مع ذاته؟ هل يكون الايمانُ بالعقائد ومنظومات الأفكار، على اختلافها، مدخلاً للحرية، أم سبيلاً آخر للإستيلاء على الناس وعقولهم، واستعبادهم وسَوقِهم إلى زرائب تبعيةٍ عمياء؟
وسؤال (الثقافة) هو سؤال نقد الذات، فرديةً وجماعيةً، وتأمل أحوالها وعقائدها، قبل نقد الآخر وإطلاق الأحكام عليه. وهو سؤال القيم الأخلاقية الكبرى في السياسة والاقتصاد والاجتماع. سؤال الانسانية، بمعناها الكوني، ليس فيما يخص البشرَ وحدهم، وإنما فيما يشمل البيئةَ كذلك: أرضاً ومياهاً وهواء، حيواناً ونباتاً.
وسؤال (الثقافة) سؤال الحُمق والفطنة كذلك، حمق الأفراد والجماعات وفطنتهما. سؤال ما هو قائمٌ وبدائله. وهو سؤال أشياءَ أخرى كثيرةٍ، غيرِ هذه وتلكَ.
صيغُ الإجابة على هذا السؤال الجوهري هي ما يُحدِّد، في زماننا هذا خاصة، إنْ كنا نوجد في الحياة حقاً، أم لا. هل نعيشها أحياءً، خالقينَ لحياتنا، مالكينَ لمصائرنا بأيدينا، كما نختار ونريد، أم نحيا فيها أمواتاً تُقَلِّبُنا الأهواء حيث شاءت، وشاءَ أهلُها؟ هل نحيا بعقول نقدية تتفاعل مع الحياة وحركتها، أم بعقول تستحوذ عليها الخرافةُ والأوهام والهَوَس، ويعلوها صـدأُ القرون الفائتة؟
على صيغ الإجابة هذه تتوقف حقيقةُ أن نكون أناساً أحراراً حقاً، مستقلينَ عقلياً، أو نظلّ أتباعاً تهتَزُّ أردافُنا كلما سمعنا "سادَتنا" الأيديولوجيين والسياسيين والعقائديين والطائفيين والقبليين والقوميين يقرعون طبولَهم، وينفخون في مزاميرهم. وعندها لن نكونَ بشراً حقيقيين، بل مجازَ بشرٍ. لن يعودَ الواحد منا أصلاً بذاته، بل يُصبح خيالاً وصدىً لمن يتولى الأمرَ عنه أو عليه. نكون قطيعاً أو بعضَ قطيع!
صيغُ الإجابة على سؤال (الثقافة) هي من تقول لنا، ولمن يشاركنا العيشَ على هذا الكوكب، إن كنا ننتسبُ للعلم والمعرفة ولعصرنا فعلاً، وندرك أنفسنا وأحوالَ عالمنا بدراية ووعي، أم أننا ما نزال غارقين في جهلنا المُتوارَث وسباتنا القديم، متوهمينَ أن هذا يقظةً، وذاك معرفةً تفوق المعارفَ جميعَها!
وسؤال (الثقافة) هذا قديم ـ جديد في حضارتنا العربية ـ الإسلامية، مثلما هو حاله في حضارات أخرى، شُغِلَ أهلها بالبحث عن أجوبة ناجعة عليه، وما زالوا. وقد اختلفت الأجوبة بشأنه، عندنا، كما عند غيرنا، باختلاف مرجعيات المنشغلين به والمُشتغلين عليه، وتبايُنِ مصالحهم، وما يعتقدون أنهم مدعوون إليه، ومنذورون له. فكان لمن مرجعيته العقلُ والتفكُّرُ، والعلمُ والاعتبارُ بتحولاتِ الأيام، سبيل مغايرٌ فيه لذاك الذي لا يُصغي إلا لما قاله القدامى، ولا يصدُر إلا عن النقل عنهم، ولا يرجع إلا إليه، ولا يذهب عقلُه لغير فكرة (الإجماع) وواحدية الحُكم والتفكير والسلوك في الدولة والمجتمع. وهو يمضي وراء هذا كله دونما تأمّل فيما نقلَ عن الماضين، أو تمحيصٍ لما قالوه، وفي أي حالٍ تاريخي واجتماعي وثقافي نطقوا به.
الأول يجتهد في أن يعود بالناس إلى واقعهم وإدراك حقائقه، وتقلُّبات أزمانه، ويدلَّهم على السبل المفضية إليها، ويبعثَ فيهم عطشَ البحث عنها، وتشكيل حياتهم على هديها. في حين يجِدُّ الآخرُ في البقاء على الساكنِ التقليدي، وإبقاءِ الناس معه عليه، والتماهي مع الموروث دون فحصهِ نقدياً، متوهماً وموهِماً بني الانسان معه، بأن سعادتهم وخلاصَهم، في الدنيا والآخرة، في البقاء على الساكن وتقليده، فيأخذَ في تعميم دوغما الوصاية على الناس وتكريسها عقيدةً رسمية تُحدِّد لوائحُها لواقع البشر، ولوجودهم، مبتداهُ والمنتهى!
يعلّمنا التاريخ أن الثقافات والحضارات، حتى الكبرى منها، تهْرَم وتَرِثُّ، ويأخذُ زمانُها بالأفول، حالما تتخلى عن مواجهة أسئلة الثقافة الجوهريةِ هذه، وتتوقف عن الجدل الحر المفتوح بشأنها، ومُعاينةِ نفسها في إطار موقفها منها. فكم من ثقافةٍ أتت لتخرجَ بالناس من الظلمات إلى النور، أصبحت بمرور الأزمان، وعلى أيدي ذوي العقول المُقفلَة من "كهنتها" و"علمائها"، مصدراً للظلمة هي الأخرى. وغالباً ما يحدث هذا حين ترى ثقافةٌ ما أن معنى وجودها ورسالتِها يتحقق في تكرار نفسها والبقاءِ في الغابر: زماناً ورؤىً، مقولاتٍ وأحكاماً.
تَصْنيمُ الماضي ومقولاته ورموزه تحنيطُ للأفكار وتحجيرٌ لها، مثلما هو تحنيطٌ لهذه الرموز، والانتقال بها إلى مقامات الحجر. وهو تحنيطٌ للحياة في النهاية. وهذا التصنيمُ هو ما يجعلُ الثقافات تَبْلى، وتنتهي إلى الوقوف عند ضفاف الأشياء وسطوحها.
والثقافات البالية بلاءٌ وبلوى على نفسها ومجتمعاتِها، وعلى الآخرين كذلك. هرَمُ هذه الثقافات والأفكار التي تُنتِجها يُفضي إلى هَرَم المجتمعات التي تحكمُها هذه الثقافات وموتِها في آخر الأمر، حتى وإنْ واصلت العيش قروناً، وظلّ أهلُها يتوهمون فيها القوةَ والعظمةَ وصُنْعَ المعجزات، وخلاصَ العالم. مواصلتها العيشَ تُشبِه، في الحقيقة، حالةَ موتٍ سريريّ. تُشبِه حالةَ ذلك (الرجل المريض) الذي ظلّ، قبل غروبه النهائي، غائباً عن الزمان وحركته من حوله، متوهماً أن رقوده على مضيق البوسفور عهوداً طويلة علامةُ حياةٍ وقوة. لم يُدرك أنْ لا شيئ بقيَ له غيرُ دلالة الرمز البائس لآخرَ خلافةٍ وامبراطورية اسلامية، كانت الأكبرَ يوماً. البعد الرمزي لهذا السقوط لا يطالُ الفكر السياسي التقليدي الذي أفرز مؤسسة الحكمِ التقليدية تلك (الخلافة)، وإنما يشمل المنظومة الثقافية التقليدية التي قامت عليها مؤسسة الحكم تلك ومجتمعاتها قرونا طويلة.
الأحوال التي تعيشها غالبيةُ بلاد العرب والمسلمين هذه الأيام تشهدُ على أنَّ هذه المنظومة ما تزال هي الفاعلة في تشكيل جهل الغالبية من الناس بزمانهم، وغيابهم عن عصرهم. هذه الأحوال تؤكد أننا ما نزال عاجزين، حتى بعد مضي مائة عام على ذاك السقوط المُدوّي، عن إدراك ما يرمزُ إليه حقاً. وما عطالةُ الإدراك هذه إلا إشارة إلى عطالة العقل النقدي في الثقافة التقليدية السائدة في مجتمعاتنا. الثقافة التي ينسِبُ لها وُعّاظُها القدرةَ على استبصار حركة الأكوان قبلَ خلقها، وما بعدَ زوالِها، تعجز عن استبصار حقيقةِ وأسبابِ ما آلَتْ إليه أحوالُها ومجتمعاتُها من انحدار وانحطاط لا يكادان يتوقفان، وأنّ ما تغيَّر فيها، وفي مجتمعاتها، لم يتعَدَّ الظاهريَّ، في الحقيقة. لم يتجاوز القشورَ إلى ما تحتها!
صحيحٌ أنّ هذه "الثقافة" ومجتمعاتِها تواصلان العيشَ، لكنّ مواصلة العيش، في أحوال الرقود العقلي هذه، تُصبحُ ذاتَ طابع ميكانيكي، تُحرِّكه العادةُ في الغالب. وحركةُ العادة لا تشير إلى وجودٍ حيٍّ، فاعلٍ ومبدِعٍ، لهذه الثقافات ومجتمعاتها الهرمة. حركةُ العادة دورانٌ متواصلٌ في مكانٍ وزمانٍ فارغَيْن في الحقيقة. نحن، هنا، إزاء وجودٍ استهلاكي، هامشيّ وعاطلٍ، نضُبَتْ آبارُه من زمانٍ، وأخذ العقلُ يعيشُ فيه مراحلَ سُباته. والعقول تشرعُ في السُبات، فردياً وجمعياً، كما هو معروف، إن كان غذاؤها الفكري عتيقاً، بالياً ومتحجِّراً، هو الآخر. أما العقولُ الفاعلةُ الحيّة فتصنعها ثقافة حية، تراجع نفسها ومقولاتها نقدياً باستمرار، وتثير أسئلةً جديدة تفتح الوعي والعقلَ الاجتماعيَيْن لأفكار جديدة دائماً. العقول الحية تقوم، فيما بعد، بدورها في إعادةِ خَلْقِ ثقافاتها ومجتمعاتها الحيّة، بأناسها الأحياء حقاً. أناسُ هذه الثقافات والمجتمعات لا يوجَدون في الحياة والعصر بالمعنى الشكلي والإحصائي، كما هو حالنا، وإنما بروح الصانع، المُغَيِّر للحياة والعصر معاً.
تغيير الحياة والعصر لا يمكن إنجازُه دون ذاكرة نقدية حية، ذاكرةٍ منفتحةٍ على الثقافات الأخرى، متفاعلةٍ معها دونما حساسياتٍ عقائدية أو قوميةٍ مَرَضيَّة. الذاكرة الحية تختزن تجاربَ الماضي والحاضر الثقافية والاجتماعية والسياسية، توَثِّقُها وتُراكمُها، وترصدُها نقدياً، لتُقصيَ ما فَنِيَ منها وخَلِقَ إلى المتاحف، مُبْقِيَةً على المتراكم الحيِّ وحده مُنطلَقاً لبناء جديد.
غيابُ الذاكرة النقدية الحية تغييبٌ لأية موازنةٍ، أو مُقابلةٍ ثقافية وفكرية، بين الخطأ والصواب في التجارب الجمعية والفردية على السواء، بين عناصر التقدم والتخلف، الارتقاءِ والانحطاط، الحركة والسكون، في هذه التجارب.
والذاكراتُ تُشبِهُ أهلَها والثقافةَ التي شَكَّلتْ وعيَهم. ثمةَ ذاكرةٌ ثقافةٍ نقدية حية، وذاكرة ثقافةٍ أيقونيةٍ، خاملةٍ وساكنة. الأولى ذاكرة ثقافةٍ حرة وأناسٍ أحرار. تجادل نفسَها وسواها، على الدوام، وتغتني بهذا الجدل. تُفْسِحُ في المكان للعقول الأخرى ومناهج التفكير الأخرى، تحاورها، تؤثر فيها وتتأثرُ بها. وهي تُعيد تقويمَ تجاربِها، لا لتمنحَ أهلَها مفاتيحَ الوعي بما ينبغي أن تكون عليه صورُ الحاضر فقط، وإنما لتجعلَهم يدركون ما ياتي، حتى في لحظات دبيبه الأولى، ويقرؤون شفرات المستقبل كذلك.
أما الثانيةُ فذاكرة امتثالٍ وطاعةٍ وتبعية واجترار. ذاكرةٌ أنتجتها "ثقافةُ" مقولاتٍ أبدية مُغلَقَة، تُحيطُ أهلَها بأنطقة التحريم وجدرانه المسدودة. وهي ذاكرة تلوك أسئلةَ الماضي ورواياته وأحداثَه، تعاليمَه وشِقاقاتِه، أصواتَه وأهواءه وعصبياتِه، مُسقطةً إياها على حاضر أهلها ومستقبلِهم. بِنْـيَةُ الموروث إذنْ، وما أفرزته من منظومة فكرية، شمولية وكُلِّيّانية، في السياسة والثقافة والاجتماع، هو ما تظل تطوف "ثقافةُ" هذه الذاكرة حوله قروناً طويلة. مقولاتُ هذا الموروث هي وحدها الشرعيُّ الثابتُ عندها. هي وحدها من يأتي بالاستقرار، ويُؤَمِّنُ إعادةَ انتاج الماضي "الذهبي التليد!".
مثلُ هذه "الثقافة" وذاكرتها لا تُقيمان وزناً للجديد والعصري المتحوّلِ من الأفكار، ولا تكترثان لتجاربِ العيش والعلمِ الانسانيين التي ترى في هذا الوجود موطناً لمشاريعَ حياتية متغيرة، ومتطورة باستمرار، يتحرك واقعُها وحقائقُها ويتحوَّلانِ، في هذا الزمان خاصةً، أسرعَ بكثيرٍ مما يتحرك الوعي العام.
هذه الذاكرةُ وخزينُها الفكري لا يُنتجان، في الحقيقة، حياةً حرةً ولا أناساً أحراراً حقاً. العقل النقدي الحرّ، في تاريخ هذه "الثقافة"، عقلٌ هدّامٌ، وافدٌ وملعونٌ وكافر. ولا غرابةَ، في مثل هذه الحالة، أن يكون أتباعها من رِثاثِ الناس وحمقاهم ورَعاعِهم، يسوقهم كهنتُها، أمامَهم أو خلفَهم لا فرقَ، إلى حيث يشاؤون. ولا يُغَيّر من هذه الصورة أن يكون بين هؤلاء الأتباع مَن يحملُ هذه الشهادة الدراسية أو تلك، أو هذا اللقبَ "العلمي" و"العلمائي" أو ذاك. زينةُ العقول وتحرُّرها، وإضافاتها الابداعية للثقافة والحياة عموماً، لا تدلّ عليها كَثرَةُ المؤلَّفاتِ، ولا مثلُ هذه الشهادات والألقاب دائماً. صور الحياة في مجتمعات هذه "الثقافة"، ومنها مجتمعنا العراقي، تأكيدٌ آخر لهذه الحقيقة.
مثلُ هذه الحقائق تجعلُ من نقد ثقافةٍ ما نقداً اجتماعياً، في الجوهر، أي نقداً للمجتمع الذي أنتج هذه الثقافة، وأتاح لها أن تُعيدَ انتاجه وصياغتَه على صورتها، فيما بعد، وطبقاً لمقاييسها.
والثقافاتُ غالباً ما تؤسسُ لرثاثتها بنفسها. جراثيمُ الرثاثة تُزْرَعُ في جسد هذه الثقافات وعقلِها حالَما يركبُ الوهمُ أقطابَها، التقليديين خاصةً، بأنَّ ثقافتَهم هي وحدها "ثقافةُ" الحقِّ المطلَق والحقائق المطلَقَة، حقائقِ السماء والأرض، القديمِ منها والآتي، وأنها تَجِبُّ، أي تقطعُ وتستأصِلُ، أثَرَ وأحكامَ ما سبقَها من ثقافات وما يجيئ بعدها. هذا الاعتقادُ ـ الوهمُ، وهو اعتقادٌ أصيلٌ في الجزء الغالب والسائد من ثقافتنا العربية ـ الاسلامية، لا يرى للثقافات الأخرى غير سبيلَيْنِ: الاستسلام "لثقافته"، والتسليم بها، أو المواجهة معها. تراث هذه "الثقافة" حافلٌ بمثل هذه الثنائيات الحادة، القاطعةِ التي تُقَسِّمُ العالمَ والبشَرَ إلى دارَيْنِ وفسطاطَيْن: دار الاسلام ودار الحرب. فسطاط الإيمان وفسطاط الكفر. وليس نادرا أن نجد بين فقهاء هذه "الثقافة" وفِرَقِها من يرى حتى إلى أهل (دار الاسلام) و(فسطاط الإيمان)، ممن خالفوهم في المذهب، وفي بعض العقائد، بمنظور هذه الثنائيات نفسها. وقد رأينا أنّ هناك من أخرج الشيعةَ والصوفية والخوارج من الملّة، وما يزال!
الفِرَقُ والتيارات الأكثر تشدّداً في هذه "الثقافة" ما تزال تجدُ غذاءها الفقهي والفكري، ومبررَ أفعالها الوحشية، في مثل هذه العقائد العمياء أساساً. وليست (داعش) و(القاعدة) و(طالبان) و (بوكو حرام) مثلاً، سوى أحد افرازاتها الفظّة في هذا العصر. تاريخ هذه "الثقافة" شهد، في الماضي، افرازات مماثلة كثيرة!
مثل هذه الأحادية الفكرية تأخذ أصحابها وتياراتها، بالضرورة، إلى ملاحقة الأفكار والاجتهادات الحرة وأهلها. وقد حفل تاريخنا بالكثير من المقابح والشرور والمآسي في هذا السياق، وهو ما سنستعيد بعض مشاهده في الجزء التالي من هذه الدراسة.