المنبرالحر

حاضر البصرة لوحة صحراوية لمدينة حضرية ! / رزاق عبود

اتابع بأسى الصور القادمة من البصرة الفيحاء. الميناء الوحيد، بوابة العراق البحرية، ونافذته على العالم. المدينة التي هام بها اهلها، وانشغف بها زائريها، وسحرت داريسيها، وطلاب جامعاتها، فاصبحوا ينتمون لها روحيا، ويتفاخرون بعلاقتهم بها. مدينة عشقها، حتى المنفيين اليها. وانا اطالع الصور المؤلمة، واسمع الاحاديث المقلقة، والشكوى القاسية، واقرأ ما يكتب عن بصرتنا الحالية من مراثي. تحضرني صور الاصدقاء، والمعارف، والاقارب القادمين من المدن الاخرى، او القرى، والارياف، ومراكز الاقضية. كانوا يلتصقون بك خوف الضياع في الزحام، او يضعون اكفهم على اذانهم اتقاءا لضجيج السيارات، وصريخ الباعة المتجولين، ونداءات الحمالين، او "سواق" السيارات، ومساعديهم "السكن". كان القادمين من الزبير، او الفاو، او القرنة، او المدن الجنوبية الاخرى، اومن امارات الخليج، ومشايخها يظنون انفسهم خارج الشرق. بنايات عالية، عمارات شاهقة، شناشيل بديعة، وكورنيش منعش. محلات تجارية كبيرة، اسواق حديثة. بضاعة، وسلع من كل انحاء العلم تتكدس بتباهي على رفوف المحلات الصغيرة، والكبيرة. حتى البضاعة المهربة كان لها شارعها الخاص. شوارع، وطرق جديدة، بيوت عامرة، شط يتبادله المد، والجزر دون ان يؤثر على تدفق جريانه، وازدحام ملاحته. وسائل نقل، وسيارات حديثة فخمة. جامعة لها سمعتها، وتفخر بانجازاتها، واساتذتها، وتفوق طلبتها، وفروع جديدة لم يسمع بها التعليم العراقي سابقا. نساء، قويات، متحررات، يرفضن الوصاية، يدرسن، يعملن، بثقة عالية بالنفس، ويشاركن بنشاط في الحياة الاجتماعية، والسياسية، والثقافية، والفنية للمدينة، والبلاد. مراوح، واجهزة تبريد حديثة تقاوم الشرجي الثقيل. مسابح عصرية مختلطة في نوادي النفط، والميناء. جوامع قديمة، ومآذن شاهقة تشق الفضاء باذانها عبر مكبرات الصوت. كنائس تطرب الاذان بنواقيسها، وتشرح الروح ببهحتها، وانفتاحها. اديرة تاريخية تصارع الزمن، اسواق تقليدية تمتد للعصر العباسي، واخرى للعثماني، واسواق عصرية تضاهي ما في مدن الغرب الاوربي. الشيخ زايد في زيارته للمدينة في بداية ستينات القرن الماضي، تمنى ان تكون امارة ابو ظبي تشبه البصرة في يوم من الايام. المستشفيات الرسمية، والخاصة يتعالج فيها المرضى من كل بلدان الخليج، وايران، بل حتى من اليمن، والهند، وغيرها. فروع الشركات الاجنبية ترفع اعلام بلدانها، واسماء شركاتها في كل شوارع البصرة. وسائل اتصال متطورة بناها اليابانيون خلال ايام، وظلت تخدم لسنين. بيوت عالية، و"احواش" فسيحة، وقصور، وحدائق وارفة تعكس غنى التجار، والمترفين، والتطور المدني الدائم. ابراج كنائس تشق عباب السماء مثل المآذن بتصافي، وتصالح، وتعايش. اسواق الصابئة الذهبية تزين الشوارع، والواجهات قبل البيوت، واعناق، واصابع، ورسغ العرسان. سوق الهنود، سوق الصياغ، سوق الاقمشة، سوق التجار. اسواق لا عد لها، ولا حصر يتعامل فيها ابناء المدينة بتساو تام. كنائس المسيحيين، مقابرهم، نواديهم، حفلاتهم، احتفالاتهم، واعيادهم الدينية. المندي الصابئي، وكنيس اليهود، ومحلات زلخا، وساعات زكي زيتو، واسواق عبد المسيح، ومكتبة فرجو، وصيدلية قيصر، وصياغة زهرون، سوق حنا الشيخ. البان البچاري، تجارة جيتا، شركة سيمون كاريبيان، الداغستاني، الچقمقچي، الموسوي، المزروع، الانصاري، كانت هذه الاسماء بصرية عراقية. لايلحق اسماء مالكيها توضيح، او تعريف: مسلم، مسيحي، يهودي، صابئي. كان يعوضها: صديقي، جاري، شريكي، ابن محلتي، استاذي في المدرسة، تاجر اقمشة، صائغ، طبيب، قابلة، معلمة، مدرسة، طبيبة...الخ. كان الناس يعرفون بوظائفهم، باعمالهم، بمحلاتهم، بشهرتهم، بصنعتهم، بحرفتهم، بمهنتهم، باعمالهم، بالرياضة التي يبرعون بها، باخلاقهم، بدورهم الثقافي، والاجتماعي، والسياسي، والفني. اشهر ساعة في البصرة سميت باسم مصور شمسي ارمني كان يقف عندها. ساعة سورين. لم يجبر احد المسيحيات، اوالصابئيات، او اليهوديات على ارتداء الحجاب. لم يفرض حتى على المسلمات. لم يكن الحجاب موجودا اصلا. لم تكن ابواب الجوامع السنية مغلقة بوجه الشيعة، ولا الشيعية بوجه السنة. كانوا يصلون الجماعة في نفس الجامع ذاك "مسبل" وهذا "متكتف". لم يمنع احد المسلمين من دخول الكنائس، ولم يطرد احد أي مسيحي، او صابئي اراد التغسل، او التضلل من شمس الصيف، او نوم القيلولة في جامع الامير. كانت محلاتهم، مثل بيوتهم متجاورة دون حواجز، ولا القاب، ولاحمايات، ولا ضغائن. يتناولون طعام الغداء سوية دون خوف، او شك، او حذر!
كانت مدرسة حداد الاهلية تضم الجميع رغم انها كانت في الاساس لابناء اغنياء المسيحيين. كانت البارات، والنوادي، والسينمات يملكها، ويرتادها الجميع، ومن كلا الجنسين. لم يكن نادي "التعارف" مقتصرا على الصابئة. وعندما تاتي لميعة عباس عمارة لتلقي شعرا هناك كانت البصرة الثقافية تنقل قبلتها الى النادي. في المدارس اليهودية درس اول المتعلمين، والمتعلمات من ابناء العوائل المعروفة. الفرق، والنوادي، والالعاب الرياضية كانت تعرف اسماء ارا، جورج، كاظم، احمد، عبدالله، عبد الاحد، عبدالحسين، وعبد المسيح، شمعون، حسقيل. مدير المدرسة، المعلم، المدرس، استاذ الجامعة، الطبيب، المحاسب، المهندس، الضابط، معاون، او مفوض الشرطة، المحامي، النجار، الصباغ، العامل، الاسطة، الخلفة، السائق، يمكن ان يكون مسلما، او مسيحيا، او يهوديا، او صابئيا، عربي، او كردي، او ارمني، او تركماني، او من اصول ايرانية، او هندية، او باكستانية، اوافغانية، او بلوشية. لم تكن هناك مقاهي، او مطاعم، او كازينوهات، او نوادي، او مكتبات، او مدارس، او اماكن "خاصة" مغلقة للمسيحيين، او اليهود، او الصابئة، او غيرهم. الكل يشارك الكل في كل شئ مشترك. المسارح كانت عامرة، والفرق الموسيقية عديدة. لايوجد نادي، او مدرسة، او مؤسسة، او جمعية تخلو من فرقة فنية. كنت تسمع اصوات ام كلثوم، وعبدالوهاب، وفريد الاطرش، وحضيري ابو عزيز، ورضا علي، ومحمد القبنجي، وصديقة الملاية، وعفيفة اسكندر، ومائدة نزهت، سليمة مراد، وناظم الغزالي، وعوض دوخي تتآلف مع اصوات الخشابة، ورقصات الهجع، ودگ الكاولية. شارع الوطني، وغيره من الشوارع المشهورة يقدم لك الشاي السيلاني المهيل، والقهوة البرازيلية المحمصة، وعسل الشمال الصحي، وعرق "مسيح"، ومستكي، وبيرة فريدة، او شهرزاد. مكتبات، وكتب العالم. البضاعة الراقية، واشهر الاكلات، واخر التقليعات، وكل الصحف والمجلات.انواع العطور، والتحف، واحدث الكماليات. واجهات انيقة، ومصابيح بلورية، نيونية، بهية تنير ظلمة الليل، وتزين واجهات المحلات، وتبعث البهجة والاطمئنان في نفوس المتجولين.
اليوم انتشرت المهفات، بدل المبردات، والحفر، و"الطسات" بدل الشوارع الحسنة التعبيد. مستنقعات المياه الاسنة، والبرك العفنة، والمجاري الملوثة، بدل النافورات الملونة الجميلة المنعشة، واحواض اسماك الزينة في الحدائق العامة. بيوت الصفيح، والكارتون، والتجاوزات بدل العمارات، والمدن المنسقة التنظيم. الانهر الجميلة صارت سواقي، وسواحلها، جرفها، حواشيها صارت مكبا للنفايات. الاطفال الذين كانوا يسبحون في الانهر النظيفة، صاروا باعة متجولين، وجوهم كدرة، وثيابهم متسخة، وعيونهم، واجسادهم تعبى مرهقة. يحيط بهم الخطر، والمخاطر، والتسول، والتشرد، والضياع، والتسرب من المدارس في كل مكان. الساحات، والملاعب التي كانوا يلعبون بها صارت مستودع نفايات، ومقالب قاذورات. يبحثون بين فضلاتها عن مادة للبيع، او الطعام. الاطفال الذين يتنافسون اليوم على العلب الفارغة، كانوا في زمننا يلقون قطع الخبز في الانهر ليتمتعوا برؤية تنافس الاسماك مع النوارس "الغاگ" على الفتات، واسراب الزوري. يتنافسون من يغوص اطول مدة، ومن يقفز من اعلى غصن من الاشجار المحيطة بالنهر. بدل النوافذ المزينة، والواجهات المزركشة، والاقواس الفنية، تعترضك بيوت طينية عشوائية، وصرائف بائسة. بدل المتنزهات، والواجهات الحضارية، وغابات النخيل، وانواع التمر، واشجار الكالبتوس، وسياج الرازقي، والياسمن. بدل النبگ، والعمبة، والرمان، والجمّار، والليمون، والرطب بانواعه، تصدمك نخيل مشنوقة، واشواك صحراوية، وغبار يعمي العيون، وشوارع بلا ارصفة، وطرق بلا تعبيد او تنظيف. كان عطر النسوة يختلط مع عبق الورد، وعبير الزهور، وشذى الريحان، وانواع التمور، والحنة، تواجهك اليوم مزابل عفنة، واسواق متسخة، وشوارع محفرة. بواخر، ومراكب، وسفن، وزوارق، وابلام كانت تحمل الناس من كل مكان، والى كل مكان، صارت مجاريها مقابر للالات الحربية، وبقايا القنابل، والالغام. اختفت الاسماك، وهاجر الصبور مع الطيور. عادت السطول، واختفت الحنفيات. مياه عكرة بدل مياه رقراقة منتظمة. فوضى مرورية، و"خبصة" سوقية، بدل التعاون، والانسياب، والانسجام. بالامس: "حبيّب تفضل، تعدة، خو ما كلش مستعجل"؟! اليوم: "ولك انت منين جاي؟ انت من ياعشيرة"؟!
رائحة البهارات، والسمبوسة، والفلافل، والطرشي، والعمبة، والياسمن، وصابون الرگي، والهيل، والزعفران، ومطاعم هندية، وباكستانية، وكبة موصلية. اختفت وحلت محلها رائحة البارود، والرصاص، والاجساد المحترقة، والاطراف المقطعة. كنا نتقي البعوض، والحرمس، والناموس بالناموسيات "الكلة" فوق السطوح الرطبة. اليوم نحتاج لمفارز، وجنود، ودوريات، وسيطرات لاتقاء التفجيرات، والارهابيين، والمفخخات، ولا نفلح. هدوء الليل البصري العذب، لم يكن يخدشه غير دوي مكائن الطحين في الطويسة، أودقات ساعة سورين، أومكينة الثلج قرب "الباورهوز"، او اذان الفجر، او نواقيس الكنائس، وغناء البحارة المغتربين، ودگات الخشابة في بساتين الطرب. اليوم، ليلا، ونهارا يزعجنا، ويفزعنا دوي القنابل، والانفجارات، واطلاق الرصاص، والمفخخات. عواء الذئاب البرية، ونباح الكلاب السائبة، وهدير عجلات الهمر، وصريخ رجال الميليشيات، وجعجعة السلاح يعكر سكون الليل، وهدئة الحياة.
الطبخات البصرية كانت تخلط تمن العنبر بالدهن الحر، والزبيدي، الروبيان بالبسمتي، ولحم الغوزي، والگطان المشوي، وطيور الماء، الكشمش، بالماش، والعدس. طرشي ابو الخصيب، والنجف، بطيخ الگرمة، والزبير، ورگي الهارثة، ولبن المعدان، و"خريط" الهور. تختلط عباءات النسوة الريفيات، وزوار العتبات من الهند، والباكستان، وايران مع ازياء الراهبات من دير القديس يوسف في اسواق القشلة، والخضارة، ومحطات الباصات الخشبية للسفر، والسفرات. الان تختلط دماء، ولحوم البشر، والجثث المجهولة الهوية مع الاخشاب، والرماد، واطراف الاطفال، وبقايا الاجهزة الناسفة.
اختفت الشوارع الجميلة، والساحات المنتظمة، والحدائق الغناء، واحتلتها المزابل، والجيف، والقطط، والكلاب السائبة، والنافقة. جمال اخاذ اختفى مع الفساد، والاهمال، وتغير الاحوال!
حتى المتسولين كانوا احسن هنداما!
ثغر العراق هجرته الابتسامة!
هل يعقل ان يكون هذا حال اغنى مدينة في العالم؟!
ملاحظة مهمة : لم تكن الحياة والصور، كلها وردية بالكامل، لكن ذكرياتنا تقودنا الى الجوانب الجميلة، مقارنة بالخراب، الذي نعيشه اليوم!