المنبرالحر

رفعت السعيد .... لم ترحل! / تحسين المنذري

أتيحت لي فرصة التعرف على الدكتور رفعت السعيد للمرة الاولى عبر مذكراته التي قرأتها بشغف عام 2000 وكانت مكتوبة بلغة جميلة وبسيطة تشد القارئ وتسيح به في تاريخ مصر منذ أواسط اربعينيات القرن المنصرم حيث بدايات الوعي السياسي للصبي آنذاك رفعت السعيد، وقد إستوقفتني حادثة يرويها الراحل عن زوجته الراحلة ليلى الشال حيث كان عضوا في المكتب التنفيذي لمجلس السلم والتضامن العالمي وكان معه في المكتب المدعو( نعيم حداد) ممثلا لحكومة البعث العراقي وقد عُقد إجتماع لهم في بغداد يوم كان حداد وزيرا للشباب والذي يقول عنه رفعت السعيد بأنه أكرمه أيما إكرام واحتفى به بشكل مختلف عن الاخرين مما جعل السعيد يشعر بضرورة رد الدين له عندما زار نعيم حداد مصر حيث دعاه ضيفا في بيته ، إلا إن عقيلته الراحلة السيدة ( ليلى الشال) رفضت تقديم أي شيئ من واجبات الضيافة وقالت له إن ضيفك هذا أحد قتلة رفاقنا في العراق !!!مما أستدعى الدكتور رفعت السعيد كما يقول هو لجلب كباب من أحد مطاعم القاهرة وعمل الشاي بيديه وإخبار نعيم حداد بحقيقة كل ذلك!! وحال إتمامي قراءة المذكرات كتبت له رسالة عبر البريد العادي أثنيت فيها على المذكرات عموما وعلى موقف زوجته هذا حيث كان موقفا تضامنيا معنا كنا بأمس الحاجة اليه ، فجاء الرد منه عبارة عن رسالة بخط يده ومجموعة كتب من مؤلفاته كتب على بعضها إهداءا لي ومخاطبتي بلقب الرفيق ، شكرته حينها بالتأكيد وبقي الموقف عالقا في ذهني حتى زرت القاهرة أواخرعام 2006 حيث زرته في مكتبه بمقر حزب التجمع المصري ويومها كان رئيسه ، وبعد لقاء قصير للمجاملة والتحيات طلبت منه أن يعطيني من وقته قليلا لاجراء تحقيق صحفي معه للنشر في جريدة " طريق الشعب" وافق على الفور وضرب لي موعدا على أن يكون اللقاء لمدة ساعة ! إلا إن اللقاء هذا إستمر لثلاث جلسات وكل جلسة تستغرق أكثر من ساعتين!! وكان كريما معي في ضخ المعلومات والاجابات على كل أسئلتي بما فيها تلك الاسئلة المشاكسة أو المناكدة والتي كان يعرف مغزاها فيبتسم قبل أن يجيب مع قفشة مصرية من قبيل" يا واد يا مشاكس أنت" وغيرها من القفشات الاخرى ، وكان عندما يستقبلني يطلب من موظفي مقر التجمع عدم إدخال أي شخص عليه وغلق الاتصالات التلفونية تفرغا للمقابلة الصحفية مع "طريق الشعب" ، وكان حينما يريد البوح ببعض المعلومات الخاصة يطلب إلي غلق جهاز التسجيل أو هو يقوم بذلك بنفسه قائلا " المعلومات دي ليك أنت بس" وبالفعل حافظت على ذلك الى الان ولحين أن ألتحق به .وقد تم نشر التحقيق معه بصفحة كاملة في طريق الشعب مع صورة تجمعني به لم أكن أنا راغبا بنشرها!!
لقد وجدته، وهو رئيس الحزب اليساري المصري الوحيد ـ المجاز رسميا آنذاك ـ وبنفس الوقت عضوا في مجلس الشورى المصري لم يكن سوى إنسانا بسيطا جدا يتمتع بروح الفكاهة المصرية وألفة يشعر معها المرء وكأن علاقته بهذا الرجل تمتد لعقود وليس لسويعات قليلة، فلم يبخل بأية معلومة ولم يتكلف في جلسة أو إشارة ولم يقل لا لأي طلب، وكان خاتمة اللقاءات تلك هدية عبارة عن مجموعة من مؤلفاته خط بيده إهداءا على بعضها. كنت وأنا أتابع سلاسة حديثه وتواضعه في ذكر بعض المواقف النضالية وشيئا عن هذا وعن ذاك من أعلام اليسار المصري أو العربي أو حتى بعض قادة الاتحاد السوفيتي وحواراته الجادة مع أي منهم لا يخطر ببالي سوى إنني أمام شيوعي حقيقي لم يتوان ولم يهدأ ولم يهادن فكل ما أشيع عنه من مهادنة لنظام مبارك لم يكن سوى محاولات تجريح فاشلة فقد كان ينبري قبل غيره كما تسجل الحوادث عنه للتصدي للمشاريع التي تريد أفقار المواطن أو إنها بالضد من حاجة المجتمع ولمصلحة الفئات الطفيلية والحاكمة وحدثني كثيرا عن محاولات ثنيه عن ذلك بما فيها إشارات من حسني مبارك نفسه بضرورة التخفيف أو التهدأة إلا إنه لم يستجب لاي منها، هذا الشيوعي المخضرم قاد مفاصلا في العمل الحزبي للحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو) وهي بمثابة الحزب الشيوعي المصري في حينها في ظروف غاية في التعقيد والخطورة وبسبب ذلك دخل المعتقلات لمرات عدة وفي أزمنة مختلفة ، إلا إنه وهو يتذكر الاعتقالات والسجون كان يقول " طبعا إحنا مانجيش حاجة لنضال ومعاناة رفاقنا العراقيين" بهذا التواضع وهذا الكبرياء كان يتحدث ، رجل لم يتوان في اي لحظة عن أي عمل يخدم الطبقة العاملة المصرية ولم يتخل عن شيوعيته حتى في مؤتمر حل الحزب الشيوعي المصري وكان آنذاك عضوا في لجنته المركزية فلم يحضر المؤتمر ورفض مسبقا كل ما سيخرج عنه لانه عرف قبل غيره نية القيادة اليمينية آنذاك في حل الحزب. هذا المناضل العنيد كان حينما يتذكر من سبقه في (حدتو) من المناضلين فإنه يتحدث بكل خجل لانهم كما يقول "قامات لن تتكرر ". فهل لمثل هذا المناضل الشيوعي الصلب أن يُنسى؟ لا أشك لحظة واحدة في الجواب بـ "لا" لن ينسى لذا فهو لم يرحل فمثله باقٍ في الذاكرة والوجدان، وليبق إسمك أيها الكبير فخرا لاهلك ولشعبك ولكل من عرفك .