فضاءات

صباح الدرة؛ سأستذكرك ولن أرثيك.. !. / حسان عاكف

منذ افترقنا قبل ٣٦ عاما في معتقل الامن العامة في بغداد تذكرتك وتحدثت كثيرا عنك أمام الاصدقاء في مناسبات عدة، وظلت ذكرى تلك الايام مرافقة لي طيلة السنوات العجاف الماضية، لكني لم اكتب عنك أكثر من اشارات عابرة في اماكن متفرقة.
انت ايضا من معدن اؤلئك الذين نسمع عنهم ونتعرف عليهم قبل ان نلتقيهم. بداية معرفتي بك كانت في سبعينيات القرن الماضي من خلال كتاباتك وما كنت اسمعه عن مواقفك.
تعارفنا أول مرة في احدى معتقلات الامن العامة “المشتمل”، بقينا فيه قرابة الشهرين سوية ثم افترقنا ولم نلتقِ بعدها. الظروف القاسية في المعتقل وعيوننا المعصوبة على مدار ال ٢٤ ساعة
في اليوم، وشرطي الامن الذي كان يجلس على كرسيه داخل الغرفة ذاتها لاكثر من ١٦ ساعة في اليوم، كلها امور لم تسمح لنا بفرصة للحديث والتعارف بالشكل الذي ينبغي ان يكون.
مع هذا فالذكاء وسرعة البديهية واللباقة والوسامة وخفة الظل صفات ليس من الصعب ملاحظتها عندك حتى في تلك الظروف القاسية.
كان ذلك هو الاعتقال الثاني لك في ذلك العام المشؤوم/١٩٧٩.
كنا نتمدد قبالة بعض على كاشي الغرفة والى جنبك كان د.عبد الصمد نعمان محاذيا لابنه زيد، ثم الشهيد نصير عبد الله المامون والى جنبه فارس كريم فارس(ابوحياة) ، كذلك كان معنا الصحفي جعفر ياسين مع عشرات الرفاق الاخرين الذين قادهم حظهم السيء الى تلك الدهاليز المظلمة.
اذكر جيدا كيف كنت تتحفز لاحتضان العائد منا من جلسة تعذيب بشعة بقلبك ومشاعرك قبل اسناده بيدك، وحين يحاول احدنا الحديث عما تعرض له على يد الجلاوزة كنت تطلب منه، وانت تقدم له قليل الماء المتبقي في “الدولكة” وكسرة الخبز اليابسة، ان يستريح اولا. وكنت تجهد نفسك في البحث عن الكلمات والعبارات التي تشد بها من أزر وعزم العائد للتو من غرفة التعذيب.

لن انسى ذلك الصباح التموزي الذي فتح فيه شرطي الامن باب غرفتنا وقال هناك احداث هامة حصلت ولن اخبركم بها، ومن يسالني ما هي لن ارحمه..!. ساد صمت لدقائق عدة، وعاد صوت الشرطي من جديد، كلا ساخبركم: «ليلة امس سلم الرئيس القائد السيف والراية للسيد النائب» !!.
بعد ان غادر الشرطي الغرفة بدأنا نناقش ما جرى. أخذت الحديث: هذا الرجل طول عمره جبان ويهرب في اللحظات الحرجة!. خضع لضغوط صدام وتنازل له، مثلما انقلب على حزبه بعد انقلاب تشرين الثاني عام ١٩٦٣، واصطف مع عبدالسلام عارف، وبعدها اعلن براءته من البعث واعتزاله السياسة وتفرغه لتربية الابقار.. !.
اطلق سراحنا وافترقنا في ١٧ آب ١٩٧٩ بالعفو الرئاسي الذي صدر حينها. غادرت العراق وبقي صباح هناك ليصلنا خبر اعتقاله للمرة الثالثة مع د. صفاء الحافظ عام ١٩٨٠…
ولد الشهيد صباح لعائلة ميسورة في بغداد عام ١٩٣٢، تخرج في كلية تجارة بغداد عام ١٩٥٣، بدأ نشاطه السياسي وهو في الجامعة، وبسبب من ذلك حكم عليه النظام الملكي بالسجن لمدة سنتين.. في بداية الستينات غادر الى المانيا لاكمال دراسته العليا، مواصلا نشاطه السياسي ضمن جمعية الطلبة العراقيين، عاد الى العراق عام ١٩٦٦، عين في شركة الزيوت النباتية. عام ١٩٧٣ عين استاذا في الجامعة المستنصرية لفترة قصيرة، قامت السلطات بعدها بنقله موظفا في وزارة التجارة.
خلال السبعينيات عمل في مجال العلاقات الوطنية واللجنة الاقتصادية الحزبية.
يذكر عنه الرفيق عبد الرزاق الصافي انه «تحدث في لقاء للجان الجبهة الوطنية في العام 1977 بجرأة ، بحضور صدام حسين ، وانتقد الكثير من جوانب العمل ، تنفيذاً لتوجيهات حزبية ، فحقد عليه صدام وجلاوزته . وصاروا يتحينون الفرصة للانتقام منه… وظل الرفيق صباح مع رفيقه صفاء الحافظ ورفاق آخرين يداومون في مقر طريق الشعب حتى ايامها الاخيرة».
اعتقل مجددا في شباط ١٩٨٠، وانقطعت اخباره بشكل نهائي عن عائلته عام ١٩٨٣. بعد سقوط النظام الدكتاتوري عثر في ملفه الامني على كتاب موجه من الامن العامة الى محكمة الثورة سيئة الصيت يطلب فيه الامن من المحكمة اصدار قرار باعدامه بتاريخ سابق، لغرض الرد على الضغوط الدولية التي كانت تطالب بمعرفة مصيره.
الشهيد متزوج وله ثلاثة ابناء” عمار، شيماء وثامر.