فيصل عبد اللهلغاية 23 شباط الجاري، تحتضن قاعة مركز بيروت للمعارض التظاهرة الإستعادية الأكبر لإشتغالات الفنان التشكيلي العراقي جبر علوان في الشرق الأوسط. وفيها يعرض هذا الفنان المتفرد، أكثر من 60 عملاً فنياً تتراوح أحجامها بين الكبيرة والمتوسطة، والمنفذة أغلبها بمادة الأكليريلك على القماش. من عنوانه "حالات" يدعونا علوان إلى تأمل "ثيمات" محددة، اختار لها عناوين فرعية على صلة وثيقة بالحياة اليومية مثل؛ "حالات المقاهي" و "حالات الموسيقى" و "حالات الرقص" و "حالات المرأة" التي شكلّت مفرداتها الحضور الطاغي في مسيرة علوان الفنية. فما توفره هذه الأعمال، ذات النبرة الواقعية التعبيرية الباذخة، تضع تجربة الفنان في ميزان التحولات التي أصابت لوحته على صعيد ما تقترحه من خيارات بصرية وإبتكارات أسلوبية، مكرسة أياه كأحد الأسماء المهمة على خارطة الفن
التشكيلي العربي.
بين بغداد التي تعرّف إليها طالباً في معهد الفنون، ومن ثم إنتقاله الى مدينة روما ودراسته لفن الرسم والنحت في أكاديميتها في بداية سبيعينيات القرن الماضي، بدأ علوان مشواره الفني. تجربته اللاحقة شهدت تحولات عميقة في صياغة اللوحة، مقتربة أكثر فأكثر من الوقائع المرئية من جهة، والى الإستجابة الى هواجس الفنان ومخيلته الشخصية من جهة ثانية. فالخطوط غير المتصالحة، وعلاقة الضوء بالظل، وتكوين الكتل بالفراغ، بدت في هذه الأعمال أكثر رهافة وإقتصاداً. فيما تضفي الألوان، خصوصاً الحارة منها، قيمة إضافية الى نكهة اللوحة بما تختزنه من قوة تعبيرية. في إشارته الى اللون يقول الروائي الراحل عبد الرحمن منيف " بنبض على السطح من الشكل، مثل إنفجار بركاني، ينبع من فوهة سرية كخلاصة سرية للذاكرة والرغبة التي تحمل غنى جذوره الشرقية". لكن سحر الإختبار الشكلاني، وصنمية الشكل سرعان ما تركها الفنان وراءه. إذ بقي علوان وفياً الى شعور عاطفي قلق، يقترب من الواقع ويعيد صياغته بلغة ملونة أقرب الى النص الصوري المتخيل بكل ما يحمله من طلق الحركة وحيوية الموضوع.
لذا لا يمكن إدراج تجربة جبر علوان ضمن قاموس فني واحد، بل إنها تنهل من مراجع تعبيرية عدة في صياغاتها النهائية. ثمة شيء في مكان ما يدعو المتلقي الى تأمل خلاصاته، ولربما إشراكه في الإنغمار في عالم تفاصيل موضوعه. ما هو مبثوث على سطوح هذه الأعمال، كما في لوحات "حالات المقاهي" من كتل، مثلاً، يشيء بإلتقاط ما هو حميمي في سكنات رواده. أو ما تقترحه رسومات الموسيقي في "حالات الموسيقى" من شحنات موسيقية يكاد يتحسس المتلقي أصواتها، فيما تدخلك لوحات "حالات الرقص" في عالم طلق الجسد وإلتواءاته على إيقاع موسيقى خفية تتلبس تكويناتها. بينما يقتنص علوان في "حالات المرأة" ما هو حميمي، نافر، مرغوب، طلق، متخيل وبجرعات رغائبية وحسية في تكوينات نسائه. في مجموعة الأعمال المعروضه ثمة تكثيف متعمد، تكثيف يستدعي الفكرة ونقيضها. المفردة وما تولده من بهجة بصرية. الإحتفاء بلحظة عابرة مودعة على سطوح هذه الأعمال، وكأنها لقطة سريعة "سناب شوت" تحيل المتلقي الى زمان ومكان بعيدين عن رتابة أيامنا. تكوينات جبر علوان تضفي على الحزن والإنتظار والإنكسار، ولربما الشك، مسحة إنسانوية معبرة. لذا يمكن المغامرة بالقول ان مراجعه تقترب من حب الحياة بكل تفاصيلها وعبثيتها، أكثر ما تتبع مرجعاً مدرسياً بعينه. بصيرته اللونية تستحضر الذاكرة بكل إشراقاتها وطلقها، مثلما تستحضر خيالات الأحلام المشرعة على الواقع المرئي. لوحة جبر علوان مسرح تتراقص على سطوحه الألوان الزاهية وما تبوح به من إنفعالات تخضع الموضوع الى سطوة الصبغة وغواياتها. ضمن هذا السياق يمكن وسم لوحة علوان باللوحة المتصالحة او المتوازنة مع نفسها، الأقرب الى شخص الفنان والمثيرة للدهشة وسؤال اللون في آن.