عن الإنس والجن والجلاد والضحية

ثناء عليان*

لا، إن ستين عاماً لم تكن تكفي مبدعاً مثلك يا هاني، ألم تقل لك "سزي" في روايتك "شرخ في تاريخ طويل": "العمر المناسب خمس وسبعون، وأن الستين عمر قصير جداً، بل محزن جداً"، لكنك فعلتها ومضيت!، وكيف لنا أن نغفر لك، ولأنفسنا، وللموت المباغت هذا الرحيل المبكر؟، ألم يكن من حقّنا، وحق الحياة، أن تبقى لتكمل ما بدأته، تكمله بحضورك المتألق، المختلف الإشكالي، المرهف والمشاكس!، لقد خسرناك قاصّاً وروائياً عظيماً، ومثقفاً حقيقياً، وأستاذاً جامعياً نوعياً، ومترجماً متبحّراً، وقبل كل هذا وذاك صديقاً محاوراً وشريكاً لأحلامنا الشاسعة وخساراتنا الفادحة، وكما كنا نتحاور معاً طوال سنوات في الكويت، ها نحن نلتقي اليوم أيضاً، لنصافح عوالمك الروائية الاسرة ونحاول اكتشافها من جديد.

قامة إبداعية

بهذه الكلمات المؤثرة بدأ الناقد نذير جعفر حديثه عن الروائي هاني الراهب خلال المحاضرة التي ألقاها مؤخراً في المركز الثقافي العربي في بانياس؛ مؤكداً فيها أنه ليس بالأمر السهل الحديث عن رجل إشكالي واستثنائي كالمبدع هاني الراهب، ولاسيما أنه من أهم من اشتغلوا بالرواية، مستعرضاً أبرز الثيمات التي اشتغل عليها صاحب "الوباء" والتي لخصها بثلاث ثيمات وهي: ثيمة التحديث والتناص والصراع، فكان لثيمة التحديث في المضامين والتقنيات الفنية ليس مجرد ملمح عابر عند هذا الروائي، بل هو هاجس عميق وإستراتيجية أصيلة لديه، ظهرت في مجمل أعماله، مشيراً إلى روايته الأولى "المهزومون عام 1961" التي لم تنشغل بالتاريخ البعيد، أو بالعلاقة بين الشرق والغرب أو بالتبشير الإيديولوجي، كما كان شأن معظم روايات تلك الحقبة، بل انطلقت من معطيات الراهن الساخن، ومخاضاته وتحولاته الاجتماعية والسياسية، في لحظة مفصلية اتسمت بالمد القومي العربي، والنزعة إلى التحرر، والانفتاح على التيارات الفكرية الوافدة، مثل الوجودية، الماركسية، والفرويدية، وما يحسب لهذه الرواية- برأي جعفر- الحداثية الرائدة إضافة لجرأتها في مقاربة الواقع وتياراته المتصارعة على مستوى الموضوع، وجرأتها الفنية التي تمثّلت أولاً بتحطيم التتابعي، والحبكة التقليدية عبر تقنية الاسترجاع القائمة على التذكر، والتداعيات والانتقال من اللحظة الراهنة إلى الماضي، ومن الماضي إلى الحاضر، وثانياً بدينامية لغتها الجديدة والتي كانت متناغمة مع مدلولاتها، ومنقطعة عن لغة المنجز السردي المباشرة، والإنشائية، ساعية إلى التخييل، والتكثيف، وكسر المألوف، والشاعرية الشفافة في بعض المواضيع التي توحي فيها أكثر مما تقول.

الانعتاق التدريجي

يذكر الناقد جعفر رواية «الوباء» للراهب التي يبدأ فيها بالانعتاق التدريجي من المسار الواقعي العام الذي شكّل مرجعيته على مستوى الموضوعات، فيحافظ من جهة على ذلك المسار بأبعاده التاريخية والاجتماعية والسياسية، عبر رصد الريف الساحلي الممثل بقرية "الشير"، وتطوره وتشابكه مع المدينة "اللاذقية، دمشق" منذ مطلع القرن العشرين حتى منتصف السبعينيات، وتطعّمه بمنحى واقعي سحري يفتح آفاقه على التخييل والتأويل من جهة ثانية.
وتستمر مغامرة التجريب وتحديث الخطاب الروائي في روايته "بلد واحد هو العالم 1985"، ويبلغ خطاب الحداثة الروائية ذروته في روايته الأخيرة "رسمت خطّا في الرمال 1999"، التي تشكل قطيعة فنية مع مجمل نتاجه السابق، فتنفرد بالجمع بين الأرض والإنس والجن، والجلاد، والضحية والماضي، والراهن.

الموروث السردي

وفي ثيمة التناص يؤكد الناقد جعفر أن هذه الثيمة تبرز عند الراهب على مستوى العنونة مثل روايته "ألف ليلة وليلتان 1977" والتي تتناص مع عنوان "ألف ليلة وليلة" وتحيل عليه، متخذة من الليلة الثانية بعد الألف رمزاً لاستمرار نمط الحياة الشرقي بكل ما فيه من تخلف واستبداد وقهر، والتناص مع الموروث السردي يأتي عند الراهب بغرض تحرير السرد من دلالته المكانية والزمانية المتعينة، ومنحه بعداً كونياً مجرداً يخص كل الشعوب في كل زمان ومكان.
إن التناص عند الراهب- كما يوضحه جعفر- يأتي أحياناً بين عمل روائي وآخر، كما في عمليه الأول والثاني "شرخ في تاريخ طويل" و"المهزومون"، حيث زمن المبنى الحكائي واحد هو فترة الستينيات، وكذلك المكان واحد وهو دمشق واللاذقية، والأجواء والصراعات الفكرية والاجتماعية تكاد تكون واحدة "القهر الطبقي والجنسي، والنزعات الوجودية، والماركسية والمد القومي، والهزيمة السياسية والنفسية التي تتوج في النهاية مصائر الشخصيات".
في هذا السياق يبدو التناص - حسب جعفر- واضحاً بين أعماله التي تصور حال ومعاناة وشروط حياة المرأة، في كل من "خضراء كالمستنقعات 1992" و"خضراء كالحقول 1993" و"خضراء كالبحار 2000"، كما يتجلى التناص مع الموروث التاريخي والديني والاجتماعي في أسماء الشخصيات ودلالاتها، وغالباً ما يوظف هذه الأسماء للدلالة على الشخصية وسلوكها ومهنتها ومصيرها.
صراع كوني

عالم هاني الراهب الروائي قائم على الصراع الدرامي الحاد، بين الإنسان والقوى التي تقمعه، أو تحد من حلمه، وحقه، واختياره في الحياة.
ويأخذ الصراع في رواية "رسمت خطا في الرمال" طابع الصراع الكوني الأزلي بين قوى القهر والاستبداد والاحتلال والتخلف وحلفائها، وقوى الحق والجمال والعلم والتقدّم، ويستوي في ذلك الصراع على مستوى الأفراد والجماعات والدول؛ فثيمة الصراع بوصفها أُس العمل الروائي عند الراهب، غالباً ما تأتي مترافقة مع ثيمة الترميز، حيث هناك مستويان للعمل عنده، الأول سطحي والثاني رمزي يحيل على دلالات متعددة، ويتطلب قارئاً يملأ فراغاته، ويحاوره.
ويختم الناقد نذير جعفر محاضرته مؤكداً على ضرورة الالتفات إلى أدب الراهب ودوره في تحديث الخطاب الروائي العربي، وتكريمه كما يليق بقامته الإبداعية العالية.
ـــــــــــــــــــ
* كاتبة من سوريا