أبو العود / فراس عبد الحسين

جالساً بباب المدرسة المنزوية عن القرية، محتضناً عوده ينظر لقرية قارع ونهرها من بعيد، بساتين فاكهة تعلوها أشجار نخيل فارغة، تحيط بها حقول حنطة شاسعة ذهبية صفراء متلألئة تحت أشعة الشمس، يخترقها نهرُ واسعُ بماء رقراق، كخاتم ذهب لامع بحجر زمرد كبير يغطي أصبعاً عاجياً رشيقاً لامرأة بيضا
يراقب الفلاحين يخرجون وينتشرون في حقولهم القريبة كل صباح، سعداء بسطاء متواضعين يأكلون مما يزرعون، يساعد أحدهم الأخر في أوقات الحاجة والشدائد.
يستقبل ابناءهم في مدرسة القرية الوحيدة، يحبه الجميع ويستشيره الصغار قبل الكبار، لثقافته الواسعة ورأيه السديد الحكيم، يساعدهم بمختلف أعمالهم، يغمر أفراحهم في فترات الزراعة والحصاد بالبهجة والسرور، يجتمعون عنده كل مساء بجلسات سمر يطربون لصوته الرخيم وأنغام عوده الذي لم يفارقه يوماً لذلك سمي المعلم أبو العود.
بدأت مناسيب مياه النهر تنخفض ذات يوم وأخذت تنحسر عن مستوى الحقول والبساتين، إلى ان جف تماماً نهر القرية الوحيد، جفت بجفافة حقول الحنطة الواسعة، يبست عرائش الكروم وأشجار الفاكهة المتنوعة، ذبلت وماتت حدائق الورد المنشرة، جاعت بجفافه بطون الفلاحين وهزلت ضروع حيواناتهم.
جمع المعلم أبو العود الفلاحين، قسمهم لمجاميع لكل مجموعة مسافة محددة لكري النهر يتناوبون على العمل اليومي فيما بينهم، عمل الجميع بجد واثمرت جهودهم عن وصول الماء لمزارعهم في أقل من شهر.
نزلت المياه عن مستوى الانهار الفرعية للبساتين من جديد، ماهي إلا أيام حتى جف النهر، عرفوا بعد حين أن اهالي قرية (البو كاطع) التي يمر في أراضيهم النهر، عملوا سدة وحولوا مجراه لداخل أراضيهم، بحجة أن المياه لا تكفي لسقي حقولهم. ترأس المعلم وفداً من أهل القرية وذهب معهم لشيخ عشيرة (البو كاطع)، وطالبوا بحصتهم من ماء النهر، كون العطش قضى على بساتينهم وحقولهم وجعلها صحاري جرداء مجدبة. طالب وجهاء قرية قارع بحصتهم من المياه ليومين فقط من كل اسبوع، تكفي لسقي محاصيلهم وأشجار بساتينهم، لم يصلوا لحل يقنع الطرفين، لم يحصلوا من شيخ العشيرة ووجهائها سوى الرفض القاطع والجفاء،. تأزم الامر كثيراً ما بين العشيرتين، نشبت الحرب وسقط الكثير من القتلى وسالت الدماء، كان صوت العيارات النارية من البنادق أعلى من صراخ المعلم أبو العود ومطالبته بالكف عن العنف والقتل والدمار الذي لحق بالقريتين. وطفأت نار الحرب وهدأت الاوضاع بعد أن أجبر المعلم أهالي قرية قارع على التنازل عن حصتهم بمياه النهر، سعياً منه لإنهاء الحرب التي أحرقت الاخضر واليابس للحفاظ على دماء ما تبقى من أبنائهم،. نمت وازدهرت نباتات الشوك والعاقول في كل مكان، بعد ان أقحلت أرض البساتين الخصبة وماتت الاشجار المثمرة. دخلت القرية عصابات من القرى المجاورة عاثت بمشاركة الكثير من رجالات القرية الفاسدين قتلاً ورعباً ودماراً، أشاعت الرعب، السلب والنهب، سفكت دماء الابرياء، حولت قريتهم الجميلة لمدينة مرعبة مسكونة بالأشباح.
أخذ الناس يترددون لجامع القرية القريب، تعالت دعوات الاستغفار وازدادت القرابين والنذور، باتوا يرشون قاع النهر الجاف يومياً لشهور بمختلف السوائل، أشكال التعويذات التي يصنعها لهم عراف القرية، عسى أن يعود ماء النهر لجريانه. هاجرت الكثير من العوائل للقرى المجاورة، يفلحون عند إقطاعيين بأقل وأبخس الاجور، يعملون بالمدينة القريبة بأصعب المهن مرغمين، كانوا يستصغرون من يقوم بها سابقاً. أمتعض المعلم أبو العود وأحزنه حال القرية وما حل بأهلها، أخذ يترجم ألآمه كل مساء بالحان حزينة تفطر قلب كل من يسمعها، بعد ان كانت تفوح بهجة وأفراحاً ومسرة. ظل يبحث عن حل ينقذ به ناسها الطيبين من عصابات القتل والجريمة، حزم أمره وقرر السفر لأقاربه في المدينة. هاجر والدمع مدراراً من عينيه، أحس بحبه للقرية والتصاقه بها، مثل جنين سحب عنوة من رحم أمه، فقد عالمه الهادئ الدافئ السرمدي، أخرجوه لوجود مجهول مبهم، عرف ساعتها سر تمسك الطفل الوليد برحم أمه، علم سبب بكائه الشديد عند ولادته، وخروجه لحياة غامضة المستقبل. بعد شهور من رحيله، كان يتذكر مع كل قطرة مطر تسقط على أسفلت الشوارع في المدينة، رائحة الأشجار وتراب البساتين الرطبة بعد المطر، أفتقد رؤية الحمائم، العصافير والبلابل المبللة التي تلوذ بأغصان الأشجار الندية، كان مع الاطفال بعد كل مطر يبحثون عن الفطر بالحقول القريبة،أشتاق لهم كثيراً هناك. لم يستطع الانتظار والصبر أكثر، أستدان مبلغاً من المال وقرر العودة من جديد. حين وصوله جمع أهلها، أخبرهم نيته أنشاء مشروع معمل الدبس، يشارك الجميع بالبناء دون مقابل لحين الانتاج، يستعملون ماتبقى لديهم من تمور كمواد أولية، يسدون به رمقهم ويبيعون مايفيض عن الحاجة، لحين التغلب على قحط الجفاف وعودة جريان النهر وزوال الغمة..! آمن به البعض القليل، بدأوا معه العمل بجد ونشاط، حتى اكتمل البناء وبدأ الانتاج، تضاعفت الأعداد شيئاً فشيئاً حتى شملت جميع أبناء القرية من نسائها ورجالها حتى الاطفال منهم، بدأ الحلم يتحقق ويتشكل في الوجود بعد ان تضاعف منتوجهم وتجاوز حدود حاجتهم، باعوا الفائض المتبقي للقرى المجاورة، تحسنت إثر ذلك حالتهم، بعد أن أمنوا لقمة العيش لهم ولعوائلهم. انتهت بذلك مظاهر القتل، أختفى السلب والنهب، بعدما أصبح الجميع مشغولين بعملهم يأكلون مما يصنعون. غسل المعلم بمساعدة الفلاحين كل آثار بقع الدم التي غطت طرقات المدينة، زرع الورود بمختلف الأنواع، فاح عبير الورد بدل رائحة الدم، أنقشع الحزن، أنجلى لون السواد وتبددت عتمة الخوف، عاد الفرح وبهجة الالوان للحياة من جديد. جمع المعلم المبلغ الذي استدانه من ايراد المعمل ورده لقريبه. بعد عودته جمع الفلاحين، وأخبرهم بأن المعمل أصبح ملكاً للقرية، مشاعاً للجميع، توزع ايراداته على العاملين بالتساوي. انتشرت المعامل في القرية بشكل كبير وازدادت خيرات إنتاجها، تعلم أهالي القرية أهمية العمل المنتظم لثمان ساعات بكل جد وإخلاص. أصاب القحط والجفاف لسنوات عجاف قرية (البو كاطع)، غاب عنها قطر المطر، تفطر قاع النهر، مما اضطرهم إلى طلب العمل في معامل قرية قارع الدبس، سمحوا لهم بذلك بعد طلبهم العفو والمغفرة ودفع الدية لأهالي من قتلوا. علم ابو العود الفلاحين، أن التعاون والمساعدة وتوحيد الجهود بين الجميع هو مفتاح لكل مشكلة وعقدة، وأجمل لحظات الحياة سعادة هي مشاركة الناس لقمة العيش. أوصاهم تعليم أبنائهم أهمية تغليب العقل وأتباع الحكمة في حل مشاكل حياتهم المستقبلية، لتوحيد كلمتهم كي لا يستطيع العدو الدخول بينهم والعمل على تفريقهم وتشتيت أصواتهم. بفضل أبي العود أصبحت قرية قارع محط انظار، ومثالاً يحتذى به من قبل الجميع.
أنتهى موسم الجدب والجفاف بعد أن تساقطت الامطار بغزارة، عادت بعودة جريان الماء في النهر، الافراح بالرقص والغناء، رجعت البسمة للوجوه كما كانت، على بهجة أنغام المعلم أبي العود.. في احتفالات الزراعة والحصاد.