يدور أدب الرحلات في فلك تصوير المشاهد والأحداث المشوقة التي تحمل معالم فنية وقيمة نطبع آثارها في مخيلة وذاكرة الكاتب أثناء رحلته المكانية لأي منطقة يحل بها ويدوّن انطباعاته عنها في زمان محدد. وقد ظهر هذا النوع من الأدب منذ زمن طويل، لكنه انتشر وازدهر مع ازدهار الثقافة والحضارة العربية مقرونة بقيام بعض الرحالة العرب بتدوين ملاحظاتهم ودراساتهم التي تجاوزت البعد الجغرافي والتاريخي إلى الاهتمام بمجالات الحياة الثقافية الأخرى التي تحمل الكثير من المشاهد التي تصور الوقائع والأحداث المثيرة التي تعكس نمط الثقافة الاجتماعية لتلك المناطق وتبين مظاهر السلوك العام والعادات والتقاليد والطرق السائدة ?ي نظام الحياة الاجتماعية والسياسية. وبهذا يعد القرن الثاني عشر الميلادي من أكثر القرون عطاءً في مجال تدوين أدب الرحلات، وتعتبر المواضيع التي تناولتها الرحلات، لا سيما التي تناولت خصوصيات الحياة العامة للناس، من أهم المصادر التي زودتنا بحقائق ومعلومات لم تتناولها كتب التاريخ والجغرافية.
اتسع هذا الأدب وانتشر بشكل واسع من قبل الكثير من الأدباء والمؤرخين الذين درسوا المتغيرات الجغرافية والاستكشافات السلوكية وما وقعت عليه أعينهم من قضايا اجتماعية ومتغيرات سياسية مثيرة بحيث أصبحت سجلاً مهماً عن طبيعة حياة تلك المناطق. بالمقابل تعددت مؤلفات الرحلات في العقود الأخيرة نتيجة تطور معدات الطباعة وحركة التأليف والنشر، إضافة إلى التسهيلات الكثيرة في عالم السفر، ولاهتمام المؤسسات الرسمية بمجالات السياحة المتنوعة وتوفير وسائل الإرشاد التي يحتاجها المسافر. فأصبحت المكتبات العربية تضم العديد من كتب الأسف?ر التي تحتوي على معطيات غنية جداً تتضمن الكثير من الوقائع والخواطر والانطباعات والمغامرات.
وقد غطى أدب الرحلات الكثير من المجالات الواقعية التي تهتم بثقافات المجتمعات وتتعلق بالعادات والتقاليد والأعراف، وكذلك تناول رموزاً من الشخصيات الاجتماعية المتألقة، وغيرها من الأمور التي في جوهرها تحمل فكرة الرحلة بكل أبعادها المشتركة، بالإضافة إلى بعض قصص الأساطير الخيالية الشعبية.
وفي عالم اليوم أضحى السفر، باختلاف دوافعه، يشكل جزءاً مهماً في حياة الأفراد العادية بسبب ارتفاع الوعي والانفتاح على العالم الآخر، وبحكم الامكانيات المادية والمعنوية المتاحة بمختلف المجالات، ما دفع الكثير من المهتمين بأدب الرحلات الى تعزيز الجوانب الفنية والأدبية في كتاباتهم، وأن يتوسعوا في تصوير معالم الحياة الحديثة وما رافقها من تطور تقني وفني، فأصبحت كتبهم أكثر جاذبية ومتعة ودقة في تصوير مختلف المشاهد الحديثة بلغة رصينة وسلسلة، لأن ثمار الرحلة لا تقتصر عند حدود معينة في تصوير طبائع الناس أو تصوير الأماكن أو الأحداث التي تجسد حياة الملوك والأمراء، بل بضرورة تصوير ما تأتي به الحضارة من معالم علمية وتقنية مقترنة بما هو جديد يتعلق بطبيعة تطور نمط واسلوب حياة الناس الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
ويأتي الإصدار الجديد للكاتب جمال حيدر بعنوان: "حكايات مدن بين الهامش والمتن" الصادر في صيف عام 2013 عن مجلة دبي الثقافية، متناغماً مع هذا الأدب الرفيع، فهو يفترش المدن التي أحبها، يتعمق في معالمها ومفاتنها، يسير في دروب أزقتها وحاراتها، يفتش عن غرائب وعجائب الأخبار ليقف على جوهر أسرارها، ثم يبدأ في تطريز أفكار جديدة مستقاة من صور الواقع، ويجري مقارناته بما كانت تحمل مخيلته من أفكار وتصورات مستوحاة من رائحة وعبق التاريخ الغني بمشاهده المتنوعة ورواياته التي أهملت الكثير من الأحداث التي تمس حياة عامة الناس، ف?درك جيداً ذلك البعد الفاصل بين المخيلة والواقع. فنراه يرسم بقلمه صوراً مليئة بالعشق لتلك المدن، مشاهد ممزوجة بحلاوة الماضي العريق وثقافاته المتنوعة وبطعم الحاضر المليء بروحية العصر الحديث.
الرؤية الإبداعية في هذا الإصدار تكمن في الإحساس اللامتناهي للكاتب المنفي من مدينته الأولى بغداد التي لم يتشكل فيها وعيه الفكري والثقافي، لأنه غادرها قسراً في عمر مبكر، لذا نراه يبحث في كتابه في تلك المدن التي زارها وعاش فيها، عن مكانه الأول ودلالاته ليطرز عشقه لها من منافذ جديدة لا تتقاطع مع الصور المحفورة في جوف ذاكرته.
ورغم أن المدن قد بعثرته في كل الجهات، يقطن مدينة ويهجر أخرى، إلا أنه بقي متماسكاً ولم يفقد بوصلته، جعل في كل سماء مدينة يزورها نجمة تدله على دروبها تساعده في كشف أسرارها والإمعان في وصفها إلى درجة العشق والتعلق بها. فتنبعث تلك الهواجس المكنونة في دواخله التي تقوده إلى أجواء المقارنة مع مدينته الأولى التي تشكل حلمه الأبدي الذي يظل مقيداً به حتى الممات، والذي أطلق عليه وهم المخيلة أو وهم الذاكرة.
اختار جمال حيدر أربع عشرة مدينة، شكلت محور التأثير في علاقته بالمكان، وهي: بغداد، أثينا، غرناطة، دمشق، مومباي، الدار البيضاء، برلين، باريس، القاهرة، أمستردام، اسطنبول، دبلن، عمان، لندن. مبتدئاً بمكانه الأول "بغداد" ليختتم بمكانه الأخير مدينة "لندن" حيث يقيم، وصفها بأنها مدينة التناقضات وحاضنة أهم وأعرق الملكيات في العالم، اشتهرت وعُرفت بخصوصية تعدديتها الثقافية، مثلت له المكان الثاني الذي أحبه وارتقى فيه وعيه وتشكل فيه الكثير من أبعاد شخصيته، فتناولها بآفاق واسعة شملت الكثير من جوانبها الثقافية والاجتماعية?والاقتصادية والسياسية. أما المكان الأول والأجمل بغداد، الذي عشقه لأنه ملعب الطفولة وخزان المحبة الذي لا ينضب. فبعد غياب قسري طويل عاد الكاتب إلى بغداد.. مدينته الأولى، وبدأ باستقصاء الأماكن والأحداث المخزونة في عمق الذاكرة، فوجد نفسه بين الماضي الذي يمثل الحلم وبين الحاضر المأساوي، وجد مدينته قد غدت ريفاً كبيراً، أمتد إليها الريف وتطبعت بطقوسه وعاداته. فتقاطعت وتشابكت عنده كثير من الأمور، صور رسمتها أعوام الطفولة وضاعت ملامحها في منافٍ باردة وموحشة، وبين تبدلات جوهرية حلت في جسد المكان الذي أحبه، ومتغيرات ?ائدة وكبيرة في القيم والأعراف لم يألفها ولم يستطع التكيف معها.
دوّن الكاتب رحلته الأولى، التي استغرقت 45 يوماً، بوصف جميل ومشوق وبلغة بسيطة جاذبة للمتلقي، من نقطة انطلاقه نحو العراق عبر الحدود السورية - العراقية نحو المدينة التي شكلت حلمه الأول، ليجد كل شيء قد تغير في محيط وعمق المدينة، فلم يبق غير مشاهد الخراب والدمار، التي انعكست سلباً على الطباع البشرية التي تأثرت بشكل مباشر بالأحداث المريرة التي مرت بها المدينة. حيث يذكر بأن الجمال قد اختفى وانزوى، ولم يعد للجمال المتبقي مساحة بعدما اكتسح الفقر والعوز والمرض الوجوه وترك آثاره الواضحة. وأجرى الكثير من المقارنات بين الماضي والحاضر من خلال تسكعه في الكثير من شوارع بغداد التي وصفها بشكل دقيق بأنها غدت خائفة بعدما سارت عليها الأحداث الجسام لأكثر من ثلاثة عقود، شوارع انزوت عن الهوس الليلي الذي عرفت به. ويبدو حزن الكاتب كبيراً نتيجة الصور المؤلمة التي حلت بالكثير من الأماكن، لاسيما أعرق شارع في بغداد، شارع الرشيد الذي احتضن بين ذراعيه الأحداث الأهم في تاريخ العراق المعاصر.
وجد حيدر نفسه أمام مفردات وظواهر جديدة، شعباً متخماً بالقصص والحكايات عن الحروب والسجون والمعتقلات وأقبية التعذيب والمقابر الجماعية والمخطوفين والمغيبين وأسرى الحروب وقتلاها. وامتدت الحكايات إلى واجهة السلطة التي كانت تحكم قبضتها على حياة الناس: ضباط، مخبرون، لصوص، قتلة، تجار حروب، خاطفون، شيوخ عشائر، فنانون تحولوا إلى أبواق.. وغيرهم، لكل منهم حكاية.. حكايات متمايزة ومتشابهة، حكايات حزينة وأخرى مفرحة، إذن هناك ملايين الحكايات، ليتحول الشعب العراقي بأكمله إلى شعب الحكايات، تلك التي بلورها الكاتب بدراسة موضوعية عن طبيعة المجتمع العراقي الحديث الذي تعرض إلى متغيرات كثيرة تحت مسميات سياسية أو دينية أو عقائدية. ولم يغفل في الوقت ذاته دور التجاذبات السياسية التي وضعت العراق أمام تحديات كبيرة، وجعلت أولوياته تصب في دائرة ثقافة العنف وإلغاء الآخر المختلف في ظل سلسلة طويلة من الصراعات والحروب الداخلية والخارجية، بحيث أصبح موقع الثقافة في آخر سلم الأولويات الحياتية.
ويعد كتاب "حكايات مدن بين الهامش والمتن" إضافة جديدة إلى أدب الرحلات الذي يعاني قصوراً في الأدب العربي، في حين يشهد تطوراً وانتشاراً ملحوظاً في الآداب الغربية عموماً لما يمثله السفر من ثقافة وسلوك وطريقة حياة ومنفذ لسبر اغوار المخفي في ثقافة الآخر بقصد المعرفة.. وهي الخطوة الأولى والاهم في مسار التقارب والتعايش بين الشعوب.
والكتاب هو الرابع للمؤلف بعد "الصيف الأخير دراسة في أعمال يانيس ريتسوس الإبداعية" 1997 و"بغداد ملامح مدينة في ذاكرة الستينيات" 2002 و"الغجر ذاكرة الأسفار وسيرة العذاب" 2008.
ـــــــــــــــــــــ
أكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا