مكتبة الطريق
من الذكريات الجميلة التي كشفها حمدي التكمجي في كتابه الفريد أن جاذبية العلاقة الثلاثية كانت قد انتجت أثراً كبيراً ذا دلالة عظيمة في الثقافة العراقية وفي ميدان "التنظيم" من أجل "الحرية" بتصور ايجابي في حق المواطنين بامتلاك الكتب الناشرة لمفاهيم ووسائل الحرية ومعطياتها حين بادر العبللي مقترحا تأسيس مكتبة تحتوي على كتب وطنية ويسارية وثورية لتوزيع وبيع الكتب ونشر الإصدارات الحديثة. بالفعل، وبالاشتراك مع حافظ التكمجي، اسسا مكتبة "الطريق" بشارع الأمين في بغداد بتشجيع من محمود صبري. انتقلت المكتبة في ما بعد الى شارع الرشيد مجاورة مقهى حسن عج?ي. ركزت جهودها في نشر وتوزيع الكتب التقدمية ومنها ترجمة وطبع وتوزيع كتاب "الحرية" للكاتب هاورد فاست وبسبب نشاطاتها الوطنية اغلقت المكتبة وكذلك اغلقت مكتبة بغداد لنشرها كتاب "ما هي الماركسية".
عملتْ "جماعة الطريق" على تأسيس نادٍ في المدرسة الإعدادية المركزية في العطلة الصيفية لعام 1945 كما أوضح حمدي التكمجي دور هذا النادي في "مكافحة الأمية" بتعليم العمال الذين لا يعرفون القراءة والكتابة. كان من جملة من عمل في تدريس طلاب دورات مكافحة الأمية هم كل من: عبد الله عباس، ويحيي الوادي، وعبد الرحمن الدايني، وسعد شريف، ويوسف شريف، وداود سلمان، وعدنان النقيب، وقد انتخب محمود صبري رئيسا او مديرا لهذه الدورة . كانت "جماعة الطريق" قلقة جدا من مخاطر وجود الامية في بلادنا وكانت تعرف ان مثل هذه الدورات لم ت?ن على مستوى الواقع تمثل قدرة عملية انتقالية واسعة، لكنها قد تستطيع تنبيه المعنيين إلى أن "الجهل" أحد اخطر الأمراض الاجتماعية مما يستوجب معالجته عاجلا أو أجلا.
محمد صالح العبللي فناناً
هل يمكن أن نتصور أن شاباً نشيطاً في الحزب الشيوعي كرّس وقته في العمل السياسي والجماهيري أن يجد فرصة أخرى لكي يلبي أمنياته بالعمل الفني أيضا رغم قلة إمكاناته؟، على هذا السؤال أجاب حمدي التكمجي في إحدى نقاط مقدمته المكثفة حين تناول مسألة لم يتطرق لها الكتاب المسرحيون ولا الأرشيف المسرحي العراقي وهي أن "مسرحية قيس وليلى" التي كانت مكتوبة بــ "اللهجة اليهودية الدارجة" ألفها محمد صالح العبلي وأخرجها ومثـــّلها. كان التكمجي على اطلاع بكل تفاصيلها حيث قام العبللي بدور "قيس" وقام شهاب القصب بدور "ليلى". قدمت المس?حية في ساحة مدرسة المأمونية وأعيد عرضها في الإعدادية المركزية. كما ذكر التكمجي ان العبللي ألف واخرج مسرحيات اخرى عرضت في مدرسة المأمونية ونالت استحسان المشاهدين والدوائر الفنية الرسمية مما يؤكد حضورها في الساحة الفنية آنذاك ساعياً إلى توجيه رفاقه بالقول: كونوا نشيطين فعـّالين في كل ميدان ومن الخطأ ان لا تقدموا كل ما تستطيعون.
في الحقيقة أن جسارة محمد صالح العبللي وقوة شخصيته واندفاعه نحو النشاط الفني التلقائي بما يحمله من محاسن الإرادة الذاتية جعلته قادراً على تنويع نشاطاته، العامة والخاصة، وتصريف جزء منها للعمل المسرحي ليكون مناضلا صالحا من اجل الشعب وحقوقه وتطوير ثقافة شبابه. بهذا فأن احدى فضائل هذا الكتاب انها كشفت للقارئ، وللمناضلين، القدماء والمعاصرين، صفة ايجابية من صفات الشيوعي العراقي بإيجاد رابطة واضحة بين النشاط العام والنشاط الخاص، بين النشاط الاجتماعي والنشاط الفني.
سيرة محمود صبري ورؤيته
كانت إستراتيجية حمدي التكمجي في هذا الكتاب تقوم على أساس تقديم العرض المكثف، المركز، في السيرة الذاتية لمحمود صبري لكي تمثل وقفات تنظيمية لا تشمل افتراضات بل هي وقائع محددة بالتواريخ والشهادات الموثقة لتجد تعبيرها المباشر في توثيق كتابه بالعديد من الاشكال والوسائل المتفوقة ، ذات القدرة على تزويد القراء بالعلاقات المشحونة في حياة الفنان محمود صبري الاجتماعية والسياسية الفنية. كانت صفتها الرئيسية أنها علاقات ذات بنى واسعة من الوجود الفعلي في الساحة العراقية، من المؤكد أنها ستكون اضافة حقيقية فعالة في الثقافة?العراقية بما استخدمه هذا الفنان من نشاطات سياسية واجتماعية وفنية بأشكال غير محدودة، سواء في التورية اللغوية او في الرموز الفنية أو بما يتعلق بتاريخه الفاعل في ميادين مختلفة.
رسخ حمدي التكمجي في كتابه خلفيات متجذرة تاريخيا في سيرة محمود صبري، منها:
1. عام 1953 كان محمود صبري أحد الاشخاص المهمين في اصدار مجلة الثقافة الجديدة. ما زالت هذه المجلة حاضرة حتى اليوم بما تحمله من التزامات وطنية وثقافية حرة، بما تحمله من قدرات لتعزيز مظاهر الثقافة التقدمية داخل المجتمع.
2. في مذكرات محمد حديد ورد ان لقاءات الرفيق سلام عادل "سكرتير الحزب الشيوعي" مع محمد حديد "القيادي في الحزب الوطني الديمقراطي" للتحضير لثورة 14 تموز كان بعضها يُعقد في دار محمود صبري.
1. في عام 1960 سافر محمود الى موسكو. كان هذا الانتقال خطوة رئيسية لسبر مراحل تفوق الرسم العالمي ورصد صوته ورؤياه وايماءاته من اجل رفع مستوى الرسم العراقي.
2. كان سلام عادل يتردد دائما على شقة محمود صبري في موسكو. بالإضافة للمشاعر السياسية والوطنية والثقافية المشتركة كان سلام عادل يحمل مشاعر كشفت عن حقيقة أنه يهوى الفن والادب والشعر والمسرح. كان يحضر الى شقة محمود صبري كل من صلاح خالص وغائب طعمة فرمان والشاعر عبد الوهاب البياتي وعدد من الفنانين العراقيين والسوفييت. كذلك كان سلام عادل يصحب معه محمود صبري لزيارة الطلاب العراقيين وتفقد شؤونهم ودراستهم.
3. حال الإعلان عن انقلاب 8 شباط 1963 كان محمود صبري أول المتحركين لإدانته سياسياً، حيث اجتمع في تلك الساعة العصيبة بشقة الدكتور صلاح خالص كل من حمدي التكمجي وعبد الوهاب البياتي وغائب طعمة فرمان. تمّ اطلاعهم على البيان الذي وضعه محمود صبري وترجم الى عدة لغات وأرسل إلى الأمم المتحدة ورؤساء دول عدم الانحياز والصحف العالمية. تم اثر ذلك تشكيل أول لجنة للدفاع عن الشعب العراقي واستمر محمود مع اللجنة في كتابة البيانات والبرقيات ضد الانقلاب ثم انضم الى هذه المجموعة الدكتور محمد علي الماشطة والدكتور عبد الرزاق مسلم والدكتور دارا رشيد جودت.
4. بالرغم من أن حمدي التكمجي قد تابع كل نشاطات وفعاليات صديقه محمود صبري إلا انه لم يترك متابعة نشاطه الفني الواسع فقد أشار في كتابه إلى ميزات العطاء في فن محمود، في رسمه لثمان أو عشرة ألواح جدارية ملوّنة بطول 5 م جسدت ملحمة نضال الشعب العراقي بعنوان "وطني" كانت أشبه بنصب الحرية على أساس أن يضعها خلف جدارية جواد سليم في حديقة الأمة. كانت هذه اللوحة انجازاً فنياً عظيماً.. عرضها في عدة مدن اوربية ونالت اعجاب كل من رآها. كان التكمجي قد شاهدها في أول عرض لها بمدينة كارلو فيفاري الجيكية بحضور الدكتورة نزيهة الدليمي والفنان يوسف العاني.
5. كذلك أنجز محمود صبري ألبوماً فنياً تضمن 12 لوحة تحتوي على رسومات رائعة لكل من فهد وسلام عادل ومحمد صالح العبللي وجمال الحيدري. كما كان قد رسم حمامة سلام لمؤتمر النساء العالمي قدّمها بواسطة وفد رابطة المرأة العراقية . كما رسم لوحة تل الزعتر، ولوحة تشيلي، وحامل الصليب.
استطاع الدكتور حمدي التكمجي ان يقدم سجلاً موثوقاً لقرائه بستة فصول من كتابه. كل فصل صار امتيازاً غنياً في رسم صورة بانوراميه تحليلية عن ثروات الفن العراقي المتجسدة ليس في لوحات وفنون محمود صبري فحسب، بل في كونه فناناً متجذراً في أعماق الشعب العراقي وبكونه جزءا كبيراً من الثروة الثقافية اليسارية في العراق، وفي كونه صاحب نظرية فنية كانت وستظل محور اهتمام الفنانين العراقيين وغير العراقيين، الذين يمتلكون فصاحة عميقة ونصاعة نشيطة، منظمة أو غير منظمة ، ليكونوا ضمن الظاهرة المتفردة ، التي ناضل من اجلها محمود صبري آملاً ان تكون محركاً لتغيير المجتمع العراقي نحو مستقبل أفضل. لتكريس صورة ظاهرة محمود صبري قام حمدي التكمجي بفهرسة أبواب الكتاب السبعة بصورة جعلها مرأة حقيقية أمام الناظرين الى سيرة محمود صبري، الخالد الذكر. الفصل الأول تضمن مقالات وأبحاث محمود صبري، الفنية والفكرية والسياسية، كان منها مقال بعنوان مشكلة الرسم العراقي، ومنها بيان واقعية الكم ،وملاحظة حول دور الفن في القضايا العربية المعاصرة، واقعية الكم وبرتولد بريخت، ودراسة حول المفهوم المادي للتاريخ وغيرها.
اما الفصل الثاني فقد تخصص بالمقالات المكتوبة عن محمود صبري بأقلام يوسف العاني، وفيصل لعيبي، وكامل شياع، وعبد الله حبه، وجاسم المطير، وثمينة ناجي يوسف، وصادق الصائغ وغائب طعمة فرمان وغيرهم
الفصل الثالث تمّ تخصيصه لكتــّاب تناولوا فيها نظرية "واقعية الكم" كان منهم مفيد الجزائري وعدنان الظاهر ومكية الشامي وعادل كامل ومحمد الجزائري وغيرهم.
الفصل الرابع من الكتاب تضمن مقتطفات من رسائل محمود صبري الى الدكتور حمدي التكمجي كان اغلبها يحمل مضمونا فكريا عن اهمية الفكر، وعن اهمية الاختبارات الصحيحة في الحياة، وحول الحداثة والفلسفة والدين والعلم، وغيرها.
الفصل الخامس تضمن نشاطات محمود صبري بأقلام مجموعة من المثقفين العراقيين أمثال مهدي الحافظ، الفريد سمعان، ساطع هاشم، امجد حسين.
اختتم الفصلان السادس والسابع بلوحات عن شهداء الحركة الوطنية العراقية وبصور شخصية للفنان محمود صبري.
ختاماً لا بد من القول ان هذا "الكتاب الموسوعة" المنجز بجدارة تامة من قبل الدكتور حمدي التكمجي يقدم للقراء العراقيين والعرب نموذجا فريدا من أمثلة الفن العراقي باعتبار محمود صبري واحداً من أعاظم نشطاء العناصر الفنية اليسارية في العراق قدمت للفن والتاريخ والثقافة العراقية عطاء لا يكف عن ممارسة تأثيره الفعال في المجتمع العراقي وفي بناء مستقبله.