«حصار العنكبوت».. التواتر السيكولوجي المتواصل / جاسم المطير

أول شيء تمكنتُ من التقاطه بعد انهائي قراءة رواية "حصار العنكبوت" للكاتب العراقي كريم كطافة هو أن مؤلفها قال أشياء كثيرة ليس لقرائه العراقيين من الأنصار البيشمركة فقط، ليس إلى غير الأنصار المقاتلين لنظام صدام حسين فحسب ، بل انه أراد لروايته ولأقوال شخوصها وأبطالها حول حادثة معينة من حوادثها الفاجعة أن يكون لها وزن في تقييم حالات النضال السياسي والثوري في فترة صعبة من فترات النضال العراقي. معنى ذلك انه أراد تقديم معطيات اختبارية من سيرته الذاتية حيث كان قد دفع ثمنا باهظا من أيام شبابه مقاتلا مع رفاقه من شعب كردستان العراق في ثمانينات القرن العشرين.
ذات يوم قال أرنست همنغواي: أن النصير هو الإنسان الوحيد الذي يعيش على حافة حادة دقيقة بين الموت والحياة، بين النجاة والقتل، وهو بكل الأحوال أقرب للموت أكثر من الحياة. كان ارنست همنجواي يعمل مراسلا حربيا لإحدى الصحف الأمريكية في الحرب الاسبانية الأهلية عام 1936 اكتسب خبرة كبيرة عن الجو الاجتماعي حين وجد فئة من الناس المناضلين يقدمون أحد أهم الأمثلة المفصّلة عن بطولات خارقة في التضحية بالنفس في القتال.

رواية الحقيقة الصعبة

هنا نجد عند كريم كطافة أمثلة مفصّلة عن حوار الأنصار العراقيين في لحظات صعبة من لحظات الكفاح الانصاري، من خلال إيقاع حوار حاد في علاقات إنسانية داخل العلاقة الانصارية العائلية الواحدة وهي علاقة مأساوية، غير متوازنة. كان البناء الروائي في حصار العنكبوت قد أجبرني كقارئ على الإصغاء التام، بشوق حار، الى صراع المتحاورين. تجسد الحوار، بقلم كريم كطافة، وبكتابة فنية، وبقدرة روائية، كنوع من انواع "الثورة النفسية" بين النصير وأفراد عائلته من المحاصرين، الذين كانوا يواجهون الموت في أية لحظة ، مما جعل الكاتب ان يص?ع رواية قادرة على قول الحقيقة، أي أنه قام بإنجاز "عمل شاق" حاول فيه ان يمجد كرامة 194 نصيرا لا زالت مقبرتهم الجماعية غير مكتشفة حتى صار أمر زوجات وأطفال مجموعة كبيرة من الأنصار المذبوحين بخناجر أو رصاص نظام صدام حسين حالة مجهولة الى الابد . هذا الإنجاز يذكرني ان همنغواي هو القائل:" الكتابة تبدو أمرا سهلا غير انها في الواقع من اشق الأعمال في العالم". معنى ذلك ان العمل الشاق الذي قام به كريم كطافة في عمله الروائي بتلخيص بعض تجارب الأنصار البيشمركة كما هي تجارب الأنصار في مختلف بلدان العالم ان التضحية بالنف?، هي الأمر الاساسي الاول في عملية استنفار المناضلين الشجعان في حركات قتالية أنصارية ضد قوى الظلم والظلام . كان مؤلف هذه الرواية سقراطياً أكثر منه همنجوائياً حين قدم للأنصار كثيراً من "الاسئلة الشائكة" ثم قدم الكثير من "التلميحات الذكية" لمساعدة عناصر الأنصار للحصول على الاجوبة . بهذا تتميز الموهبة الروائية الإبداعية لهذا الكاتب العراقي.

بين كولن ولسن وكريم كطافة

حين التحق كولن ولسن بالقوة الجوية البريطانية عام 1949 كان شابا يقرأ بنهمٍ لبعض الروايات العالمية. لم يكتفِ بتلك القراءات، بل حمل معه بعض الكتب باختيار دقيق أراد قراءتها في أوقات فراغه أو استراحته بعد التدريب العسكري الشاق، كان من بينها روايات "دكتور فاوست" لتوماس مان و"ستشرق الشمس حمراء" لهيمنغواي وبعض كتب جيمس جويس، وقد أُثــّرت عليه هذه المجموعة من الكتب وغيرها إلى حد جعلته ينغمس في كتابة روايته الأولى "طقوس في الظلام" وهو في عمر الثامنة عشرة نشرها بعد عقد من زمان كتابتها.. كان هدفه من الكتابة ان لا تكون?فيها تعابير قابلة للتأويل . لا ادري ماذا حمل كريم كطافة معه من كــُتب وماذا قرأ أو كتبَ خلال وجوده في جبال كردستان مقاتلا من اجل حرية شعب العراق، الذي كان يواجه واقعا في غاية القسوة. الشيء الواضح الآن هو أن رواية "حصار العنكبوت" نُشرت بعد أكثر من عقدين من المعاناة السيكولوجية في تلك الحقبة ومن ثم معاناته في الغربة، ليكسب سعادته الشخصية من خلال مساهمته مع نخبة مناضلة في تدوين بعض صفحات تاريخ الكفاح المسلح في بلده العراق وليدخل في "التاريخ" من باب الفن الروائي حين وجد ذاتَ يومٍ لاحقٍ أنه أمام مجموعة من الأ?راق قال عنها:"رزمة أوراق قديمة، كتبتها حين كانت الأحداث لم تزل طازجة يتصاعد بخارها من أجسادنا، من تنظيراتنا، من احتفالات عدونا بنصره علينا، من هذيان مذيعين ومذيعات وصحف لم تنصفنا يوماً. لاحقتُ فصولها حين كان كل شيء لم يزل ينبض بدمه وبحرارة مراراته وملابساته الكثيرة. حكاية تصاعدت لولبياً مع صعودنا وهبوطنا على تجاعيد وأخاديد تلك الوديان الناظر إليها من فوق لا يجد فيها غير هاوية الجحيم. حكاية تلك الكهوف التي كانت قبل أن نسكنها للوحوش. تلك الغرف التي نحتناها بنضيح عرقنا وهواجس جنوننا بموقد النار في حصارات الثل? التي لم تكن تمزح مع اهمالنا المديني.. حكاية الحرب التي كانت فيها زوجاتنا وأطفالنا وأمهاتنا وأخواتنا وآباؤنا هم الأسرى والأسلاب وهو الثمن الذي لم تختلف حول خمسه او سدسه قبائل الأمن والمخابرات . تقاسمت رفاتنا خارطة الدفن الجماعي التي افترشت البلد والتهمت المنافي القريبة والبعيدة ومن قاوم عوامل فنائه وفاض على حفلات الدفن".

التفاصيل الروائية

تغلب كريم كطافة على خوفه ككاتب وتشبث بشيء من القوة التعبيرية الروائية ليثير انتباهنا نحن القراء الى حالات مدوية في داخل المناضل المقاتل وهو يواجه أشكالا مختلفة من المعاناة اشير الى بعضها وأهمها:
1 يعاني من نفسية الانسان المحصور بشِباكِ وحشية النظام الدكتاتوري حيث بلوغ الظلم والمعاناة حد الذروة .
2- يعاني المقاتل من اجل الحرية في تلك الجبال من حالتين متناقضتين بذات الوقت ، حالة الضبط التنظيمي النظامي، وحالة التنصل من هذا الضبط نتيجة بعض نزوات اصيلة في اعماق المقاتل نفسه او نتيجة نزوات العنف الواقع عليه من المدافع والطائرات المعادية.
3 يعاني المقاتل من قسوة الظروف الطبيعية والحياة الجبلية ، خاصة لدى المقاتل القادم من المدن العراقية او من المدن الأوربية التي كان مقيماً مرفهاً فيها .

مشاعر التوجس والقلق

هذه المعاناة في حالاتها الثلاث نجدها مرسومة في عدد من صفحات ووقائع الرواية ومنها، مثلاً، نجده في الصفحة 143 : حين انقشع الظلام تماما وكانت اصوات القصف المدفعي ما زالت تـُسمع حيث سادت مشاعر التوجس من شيء خطير ومجهول قد يواجه سكان القرية من الزيباريين وغيرهم مثلما كان يواجه قمم سلسلة جبال تلك المنطقة واكتافها الصخرية الوعرة النازلة الى وديان "الكًلي" التي كان فيها مجموعة بشرية من النساء والاطفال والشيوخ والبيشمركة من مجموعة "النصير حاتم" وهم يرددون كلمات القلق الشديد عن مدى تقدم العدو الحكومي نحوهم. كان المو? متربصاً بسكان القرية وبمجموعة الأنصار المصاحبة له. كان الأنصار في حالة ليست متيقنة من خبر وصول وحدات الجيش الحكومي الى مواقعهم، لكن بذات الوقت ربما يكون الخبر مجرد إشاعة.
المقاتل هنا رسمته رواية "حصار العنكبوت" الصادرة عن "دار نون الامارات العربية المتحدة" 2014 رسما دقيقا على ضوء الرؤى السيكولوجية الناتجة عن قلق فئة قروية يصحبها مقاتلون انصار لا يحملون غير اسلحة ضعيفة امام فئات من الجيش العسكري الحكومي حاملين منتجات الصناعة العسكرية المتقدمة ، حديثها إلى جانب قديمها، والعدة الاكبر منها مستعدة لمستوى القصف والقتل الجماعي بمعنى ان كفاية العدو في الحركة والتسلح غدت هي الاساس الذي يجبر وحدات البيشمركة الانصار وقادتهم على اتخاذ القرار السريع وهو في العادة قرار خطير له نتائج ساكولوجية متعمقة.

التجربة والتوازن

ربما الواقع المفروض هو الذي خلق هذين البعدين الروائيين لكن التوازن الروائي حققه كريم كطافة نفسه في هذا الواقع نصيرا من مقاتلي البيشمركة على مستوى عال من الرؤيتين القتالية والروائية ولو لم يكن مالكا وعيا عميقا من علم الاجتماع الجدلي المنطلقة من تجاربه الشخصية الميدانية التي استحضرها في ميدان صياغة روايته نفسها "حصار العنكبوت" حيث امتدت تجربته بمجملها لتحديد أين كانت اخطاء الأنصار مرتفعة واين كانت منخفضة..؟، لعل القضية المركزية في الرواية هي محاولة تحديد عناصر إرادة التحرك الانصاري لتحقيق نصر جزئي في المقاوم? هنا في هذا الجبل او ذاك الوادي. كان كريم كطافة منتبها لكل حركة على كل لسان او شفة من المحيطين به للتعرف على الحركة الاجتماعية في روايته حيث يكشف العراك بين القائد سهراب وزوجته نازين احدى ملامح هذه الحركة الاجتماعية حول قضية اساسية حادة من تلك القضايا التي واجهها الانصار البيشمركة.
تضمنت احداث الرواية صورا عديدة بقدر كبير من الدقة عن توافقات واختلافات وتمايزات في افكار المقاتلين وقد استحضرها روائيا بصورة طبيعية وملموسة - وهذا اهم عنصر من عناصر قوتها- ان كاتبها اعتمد على البنيوية الكاريزمية في تحدي الرمزية الروائية كاشفا عن المنطق الأساسي لرسم ومعالجة كاريزما أبطال روايته وشخوصها الأساسيين والفرعيين لإيصال القارئ الى متغيرات احداث الرواية ووقائعها وفقا لبساطة الكاريزما او تعقيداتها على أساس النظرة الموضوعية بميزان دقيق للغاية بين رغبات المقاتلين ومخاوفهم من جانب وبين الحركات الأنصارية?الذاتية والخطوات الأنصارية العشوائية من جانب اخر . عالج بفكر روائي مدروس حركة مختلف انواع الكاريزما المناضلة وفقا للتشخيصات التالية:
1ــ كاريزما (الغضب) في بعض مواقف أو حوارات المقاتلين.
2 ــ كاريزما (الحماس) في بعض فعاليات الانصار وقد وجدت النصيرة في الرواية تتمتع بمكانة خاصة بين الجميع.
3 ــ كاريزما (الشجاعة) القتالية اعني الشجاعة الشخصية النادرة التي تميز بها بعض الانصار والنصيرات.
4 ــ كاريزما (البطولة) التي كشفتها الرواية لدى بعض المقاتلين ممن امتلكوا هالة خاصة، وميزات خاصة، اثرت بشكل مباشر وغير مباشر على جميع الانصار من الشجعان او المترددين.
5 ــ كاريزما (الجاذبية) الثقافية لدى مجموعة الانصار المثقفين وكان لها بصورة او اخرى تأثير على الانضباط الفكري الانصاري.
هذه الأصناف من الكاريزما نراها عند مجموعة ابطال الرواية وشخصياتها من أمثال حاتم وابو منيب، وافي ،كمال الزيباري، زيكو، ونجاتي ،حيدر ،حسام وخديدة، وانور ،ومناف. يضاف إلى ذلك أسماء نساء عديدات وغيرهم استطاعت الكاميرا الروائية بعين كريم كطافة ان تصورهم فرداً فردا، ليحكي بواسطة تفاعلاتهم وانفعالاتهم النابعة من نتائج فوتوغرافيا كل انواع الكاريزما في روايته . ربما كان قد اطلع على السلسلة الشعبية الهولندية المعروفة بعنوان (حرب الجرذان على الهر) المرسومة عام 1797 حين احتلت القوات الفرنسية هولندا. الجرذان سيئة?والهر في الكثير من قصد التورية كانت في رواية العنكبوت مصحوبة بوسائل اشد قسوة رسمها مؤلف الرواية رغم ان قلمه كان صريحاً فصيحا بلغته.

نص مكتوم ليس غامضاً

قدّم كريم كطافة ــ ربما بمحض خياله ــ أمثلة موجزة عن تصوير قمع وهجوم عسكر صدام حسين على عائلات بعض المناضلين الأنصار اختطفوا أولادهم وشيوخهم ونساءهم لدفنهم في مقابر سرية جماعية لم تُكتشف حتى الآن . رسم للقراء صوراً شبيهة بإحدى الصور الشعبية الهولندية تلك حيث الجرذان القذرة تحيط بالهر المتحفز من كل مكان . على ما اعتقد ان نص كريم كطافة قد لا يكون مقنــّعا بالصور الشعبية الهولندية، بل اتصور انه بخلاف ارنست همنغواي الذي ما روى تفاصيل تجربته الصحفية في الحرب الاهلية الاسبانية ومجايلة الانصار في روايته (لمن?تقرع الأجراس). مؤلف خيوط العنكبوت كان يملك خلال 30 عاما نصا روائيا ، تفصيلياً ، مكتوما ،ليس غامضا ولا مقنــّعا، بل هو جزء اساسي من التراث الانصاري البيشمركي المكتوم في تجارب واعماق الآلاف من الانصار الشيوعيين ما زالت واقفة خلف المسرح بانتظار الفرصة للتعبير المستقل عنها بنفس جراءة كريم كطافة في التعبير عن تجارب كانت فيها العربة مربوطة بالحصان أحياناً ، بينما في وقت اخر شاهد بعينيه وتجاربه ان العربة تجر الحصان ..!