خير... ونعمة.... ودولة / علي أبو عراق

مع موكب حافل من وصيفاتها السمر.. كانت تتمايس بمشيتها في حالة ابعد عن الغنج كثيرا وأقرب إلى الرقص.. جسدها المكتنز الأبيض البض يهتز بشبق مخيف على إيقاع خطواتها الدافقة بالكبر والاعتداد والشموخ.. ووجهها النير الذي يشرق بحسن ريفي آسر مثل شمس صغيرة في صباح وضييء فيغمر القرية التي استيقظت منذ ساعات بالألفة والافتتان.. وصيفاتها يتعقبنها بخفة وإذعان.. لا تجرؤ أحداهن على المشي بمحاذاتها أو التقدم عليها.. وحده عطرها يسبقها فواحا نافورة من العبير... فهي الشيخة زوجة الشيخ الأكبر واقرب نسائه لديه وأكثرهن أثرة عنده.. بل هناك أقاويل لا يجافيها ا?صدق بأنها هي التي تحكم.. وتتحكم بالشيخ ونساء الشيخ وأولاده وزرعه وفلاحيه وعبيده وقريته وحتى حيواناته... لأنها الأجمل والأعمق غورا اجتمع لديها الجمال الآسر والعقل النافذ.. حولها إلى ملكة.. ملكة تأمر وتنهى وتوعد وتتوعد تسلب الحرية وتمنحها تعطي وتأخذ.. كما أسلفت هي ملكة لا يعوزها إلا التاج. وفي مثل هذا اليوم ارتأت التجوال في القرية للترفيه عن النفس والخروج عن روتينها اليومي والإطلاع على أحوال بعض النساء في القرية التي تكن لهن ودا أو عطفا أو بينهن ماض مشترك.... تمشي وتنزاح عن دربها الرجال ويهرب من أمامها الأطف?ل... ووصيفاتها السمر اللاتي لا يخلو بعضهن من وسامة أو جمال بل منهن اللواتي يطلق عليهن (المولدات)1 على الرغم من لون بشرتهن السمراء لهن عيون خضر وشعر أشقر.. يتبعنها كظلها.. هناك أقوال متواترة تفيد أن بعضهن من محظيات الشيخ بعلمها أو دون علمها.. لكنها تتغاضى.. لأنها وعلى ما يقال تتصرف على ذات النحو.ففي ليال عابقة برائحة الطلع حين يتمطى جسدها بعد أن يسرف الشيخ في الغياب او السفر أو الانكفاء عنها أو الولع بأخرى.. وتشتعل عندها جذوة الجسد في ليال يغيب فيها القمر.وينحسر الضجيج وينشغل عنها الجميع.. تستدعي أكثرهم صحة وفحولة..وتختاره فتيا أمردا بلون الكحل وبخفة التيس... ليمسد جسدها بيد كالأبنوس تغوص في متاهة من الزبد الرجراج... في فضاء طقس تفوح منه رائحة البخور القوية (يهمزها) بلغة ذلك الوقت..ويعمل لها مساج بلغة عصرنا الحالي... وحين يتوغل في ثنايا الجسد وتضاريسه.. بعد أن يغرقه بزيت الورد ويمسح ويمسح كأنه في طقس سري.. ورويدا رويدا تشتد قبضته تشنجا وارتعاشا على لدانة الجسد المشتعل بالحنين الى جسد آخر.. تتراسل الأجساد وتفح نداءات الرغبة وتتصاعد التأوهات. مع أبخرة اللذة الملونة في فضاء الغرفة المحكمة الإقفال والتي تحولت الى?بحر هائج من التاهوات والفحيح يوغل في احتدامه حتى تتشظى النجوم وتتهاوى النيازك وتترنح المجرات ليعقبها صمت مطبق... فيسيل الليل انهار من اللذة السحيقة على جسدين احدهما نير كالصبح والآخر حالك كالليل... هي الملكة في كل الحالات حتى في الحب والخطيئة..تفعل ما تشاء وتقول ما تشاء.. لا احد يملك عليها سلطانا ولا حول ولا قوة، قالت لنفسها سأستبدل هواء البيت الفاسد بهواء الخارج الطلق وخصصت هذا الضحى للتواصل مع رعيتها... وانطلق موكبها مهيبا فخما النساء يقابلنها بكل خشوع واحترام هذه تقول (فدوة غديتلج) وأخرى تقول (يا بعد طو?ي طولج) وثالثة تغمرها بحنان جارف وتقبل يدها وتقول (من عمري على عمرج)... وهي تتفضل عليهن بابتسامات متكلفة على الأغلب.. الموكب يتضخم وهي تتقدمه كعمود من نور يزيد من إشعاعه وصيفاتها السمر...الفضول يعتري الجميع ولا احد لا ينضم إلى هذا الموكب الاحتفالي... موكب الشيخة الفاتنة... حيثما تتجه يتجه ويكبر مع كل مجموعة من البيوت... ورأتها واقفة بباب خصها المصنوع من القصب والبردي..هي ذاتها (سنية) لم تتغير ملامحها كثيرا.. صحيح أنها صارت أجمل وأكثر امتلاءا ووجها المدور يغمره الفرح والرضا كما يبدو..لكنها لم تتغير... بين ر?ليها طفل جميل بعمر 3 سنوات وعلى يديها طفلة عمرها اشهر... عرفتها عن بعد وصاحت... (ها ولج سنية أنشاء الله ها لمرة حظك زين)..إجابتها سنية منطلقة الأسارير وصوتها يزغرد فرحا (خير...ونعمة...ودولة....بفضلك يا بعد أهلي". وتقدمت لها وانحنت لتقبل يدها بقوة...سمع جميع من في الموكب صوت قبلتها... (يا بعد روحي..يا بعد أهلي..غديت فدوة لطولج) قالت الشيخة: ها سنية أنشاء الله مرتاحة...؟ قالتها وكأنها تشير إلى سر بينهما..فضحكت سنية بصوت عال...وقالت لها (وروح ابوج الزاجي3 يوميه يسكي الكاع... ولا يعدي ليلة...مريعه مريعه وروح ا?وج......).. فضحكت الشيخة من القلب... بالله هاي الخير... زين والنعمة شني..؟.إجابتها سنية (رجلي الجديد زلمه زين هم فلاح وهم صايود ومعيشينا بنعمة)... ضحكت الشيخة مرة أخرى... وقالت لها زين (والدولة شني):- أجابت بسرعة (هذوله الدولة جبار هذا البين رجليه يسوه الدنية وما بيها.. وجبره هاي البين اديه شوفيها شحلاتها).. استمرت الشيخة بالضحك... واستمرت سنية تلهج بالدعاء لها والثناء عليها.. وتقبل يدها بين الفينة والأخرى.. رجعت الشيخة إلى الوراء بذاكرتها الفارهة.. ولاح لها وجه سنية الصبية... القمحي الذي يحاكي سنابل الحقو? وقت الحصاد.. حين جاءت لها (سنية)متوسلة متضرعة والدموع تهطل من عينيها... قبل خمس سنين جاءت بهذه الحالة.. لتحكي لها قصة حرمانها بل قصة حرمان الكثير من نساء الريف اللواتي يفرض عليهن الزواج من رجال لا يكونوا أكفاء لهن سواء من ناحية العمر أو مستوى الفاعلية الجسدية او العقلية.. فيقعن في هذا الفخ المخيف فخ الحرمان والوحدة والتعاسة والعيش مع أشخاص ليس بينهم وبينهن أي ترابط أو انسجام. والإطار العام لهذه الكارثة هو العشيرة وصلة القرابة والعرف السائد الذي لم يزل ساريا عند بعض العوائل ذات الأصول الريفية على وجه التحد?د... قالت بصوت كالنحيب لها (صيهود) زوجي وابن عمي الذي زوجوني له قسرا. زوجوني له وأنا بعمر أبنته... زوجوني له بعد أن توفيت زوجته التي هي عمتي صيهود.. هذا فعلا (مصيهد)4 لا يهش ولا ينش.. خمس سنوات ولم يرفع ذيل ثوبي...خمس سنوات وكأني أنام بجانب عمود من خشب... أتقلب مثل المصروعة أصارع أحلامي وأجهد في ترويض رغبتي.. وجسدي موقد جمر..وفتوتي تنتفض مثل لبوة.. وحينما يتحدثن صويحباتي عن حكايا الليل وتوقيتات الحب التي يمارسنها والحب الذي يمطره أزواجهن عليهن... أموت مع كل حكاية ولكني أعود لأحيا على أمل... على الأمل فقط..?لكن الليالي تمر باردة.. باردة جدا.. كأن حياتي شتاء لا ينتهي.. باردة ومعتمة وبلا أمل.. لا تطرزها نجوم.. ولا تضيئها أقمار.. ولا يزورها دفأ... أحاول وأحاول.. ادلل وأداري وأتزين وأتغنج.. أنام عارية ربي ما خلقتني.. وأتقلب بأوضاع تستفز الموتى.. اتهارش معه... الكزه بمرفقي.. أتعمد الحديث بصوت عال أدوس على رجليه.. أيقظه نصف الليل بسبب او بدون سبب ولكن لاشيء يحدث، هو يشخر ويشخر حينما يكون في أحسن حالاته وكالميت في أحيان أخرى...وانا أتلظى كجذوة بمهب ريح... وتذكرت الشيخة توسلاتها الصادقة المثقلة بالدموع حينما راحت تقول لها.... (الله يخليك... أمشيه عليج العباس خلصيني من صيهود.. ترضين اكضي عمري ويه رجال ميت... ترضين يروح شبابي هدر.. هاي سنين وياه.. ما مره جدح زناده)...
تذكرت الشيخة كيف رق لها قلبها... وكيف تأثرت بصدق دعواها ودموعها.. فأمرت الشيخ الكبير (زوجها) أن يجبر صيهود على تطليقها..فأرسل له احد الخدم... وانتحى به ركنا قصيا من المضيف..وسأله السؤال الشائع عندهم.. هل تسقي أرضك يا صيهود..؟ عرف صيهود المغزى... فأطرق خجلا.. وراح ينبش الأرض بعود استله من الحصير القصبي.. أتريد الصدك محفوظ.. لا والله محفوظ لا اسقيها فأنا رجل كبير ومريض....فقال له الشيخ.. اذا لماذا تظلم شابة صغيرة من الحياة والخلفة... فأطرق الى الأرض ولم يرفع رأسه.. حتى سمع الشيخ يقول له آمرا... (صيهود طلكها انطيها زنامتها5....) فقال له دون اعتراض (تؤمر محفوظ)... وطلقها صيهود اعترافا بعجزه...وتزوجت بعد اشهر... وأنجبت طفلين وهي تلهج بالدعاء للشيخ وللشيخه...وها هي الشيخة تقف أمامها بكل فتنتها وعزتها وجبروتها... فأشبعت يديها لثما مع سيل من دعوات لا تنقطع... (صحيح اللي تكولين... ومبين على وجهك.. انت (بخير... ونعمة... ودولة).