الحب والحرب والهزائم الملحمية في «شرق الأحزان» / عبد العزيزلازم

يتميز السرد العراقي بتوفره على مصدر عالي الثراء من مصادر الإلهام الواقعي بأحداثه العامرة بنشاطها. بل ان هذا المصدر يتمتع بأحداث استثنائية تغري الكاتب على استخلاص مدلولات تقع خلف حدود الوقائع اليومية. فبين ظاهرة الفقر الهائل المناقضة لخيرات البلاد والقمع الاستثنائي للسلطات السياسية وبين الحروب العدوانية يتم تشييد المواقف والسلوكيات المختلفة من قبل انسان أدمن التعرض للضغط متعدد الأشكال فأنتج ذلك ظهور أنماط من الشخصيات تلعب ادوارا تتوزع بين البطولة والشجاعة وبين التخاذل والجبن ورداءة المقاصد والمرامي.
إن انهيار الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وتحطم البنية النفسية للأنسان قد وضع هذا الكائن العراقي المشحون بمشاعر الكرامة والأعتزاز الذاتي بالنفس في اختبار بالغ الوعورة. إن استمرار هذا الإختبار الدامي الذي لا زال ساريا عرّض طاقة التلقي لديه الى الإلتباس وفقدان التوازن.
تأتي رواية "شرق الأحزان" للروائي عباس لطيف لتشرح من العنوان إن الفواجع التي يعيشها الانسان هي فواجع شرقية، في مسعى من الكاتب لإكسابها هوية خاصة منقوعة بالهموم النوعية للشرق بكل تاريخه وتراكماته التاريخية والحياتية، وكأن المكان الذي جرت فيه الاحداث وهو العراق هو كينونة مكثفة لتاريخ الشرق وسواء اتفقنا مع الروائي حول نسبة ما حدث ويحدث في بلاد الرافدين هو من طبيعة ما يجري في الشرق ، الا إن مفردة "الشرق" هي مفردة عائمة وواسعة، فهل إن العراق ومصائبه يمثل الشرق كله؟، ام إن الشرق هو العراق؟ ويمكننا حسم الجدل حول نسبة احزان العراق الى الشرق بالذهاب الى التاريخ لنجد إن أولى واقدم حضارات الشرق بله العالم نشأت في وادي الرافدين، وبذلك يكتسب العراق الأهلية لتمثيل الشرق. بذلك نكون قد وطنّا انفسنا على ذلك واسترحنا من عقدة العنوان ومن الجدل حولها، وربما اراد الكاتب قرص ذاكرة المتلقي من خلال تحديد هوية للحزن.
تتوزع البؤر السردية في الرواية بين بؤرة رئيسة وبين بؤر ثانوية مرتبطة بها مباشرة أو غير ذلك عن طريق تمدد حركة الشخوص من البؤرة الرئيسة الى البؤر الثانوية وخلق تاثيرها عن بعد. البؤرة الرئيسة تتمثل في عائلة توفيق وزوجته أم محسن وابنائه محسن وحامد وكامل والطفلة شروق إضافة الى الأجيال التي انحدرت عنهم. اما البؤر الثانوية فتتمثل بشخصيتي شاكر وحبيبته فاتن، سوبولينا الروسية التي تحول اسمها الى سعدية الروسية التي احبت سليم الذي غيبته الحرب الى الأبد ومكثت هي وابنها تنتظر عودته دون طائل، بل اندمجت في المجتمع العراقي وراحت تمارس تقاليده واصبحت "ملاية" تحيي المجالس الحسينية. البؤرة الثانوية الأخرى هي بؤرة إحسان صديق كامل توفيق ومعه مجموعته المكونة من سهام وسراب وابنتها. نضيف الى هذه البؤر بؤرة رشاد السجين الشيوعي صديق الابن الاكبر محسن ومحمود الرشيدي/ صاحب الحقل. وثمة بؤرة أخيرة تتمثل بشخصية فرحان الحارس الذي صنع إطلالة العمل السردي على الموروث الشعبي للإغتراف من كنوز الحكمة الشعبية لتعزيز الدلالات المبثوثة في المتن السردي.
إن اتصال بؤرة عائلة توفيق وابنائها بجميع البؤر الثانوية يعزز القناعة بأن تلك العائلة هي البطلة الحقيقية للعمل وقد يكسبها قوة اليغورية تتعدى كونها عائلة بسيطة ومسحوقة قدمت ابناءها وقودا للفقر والحرب والحرمان وقضايا كبرى. ما يغذي هذه القناعة هو إن ام محسن كثيرا ما تبث شكواها الى الله على إن المصائب والنكبات قد صممت لغرض سحق هذه العائلة المسكينة دون غيرها، وهي شكوى معادلة للانسان العراقي الذي كثيرا ما يتساءل لماذا العراق فقط يتعرض لتلك المآسي؟
إن هذه البؤر تتفاعل ضمن اردية سردية ثلاث هي الفقر والحرب والحب وتكون النتائج النهائية لحركة السرد ضمن هذه الأردية، الموت والفقدان والهزائم وإنعدام الحيلة. يكتسب السرد حيوية باهرة بسبب استجابات الشخصيات المختلفة لظروف الحرب والثقافة والحب فضلا عن التعامل مع الفقر باتجاه تخفيف وطأته على عيش السكان بفضل التدبير المصرار والكفاح اليومي ، بعيدا عن الفساد وانهيار الذمم. واضافة الى التعامل مع نتائج الحرب وتأثير العوز على حياة الشخصيات، بقيت الطيبة العراقية متأججة تحت رماد الأنشغال العام، فشخصية "شعلان البعير" الذي اضطر لممارسة اعمال مشبوهة بما فيها التعاون مع قوى أمن النظام السابق لكنه ساعد في إنقاذ احد احفاد كامل توفيق الذي كان مراقبا من قبل الأجهزة الأمنية التي كانت تسعى لاعتقاله.
ومن أجل تنشيط المزيد من البث السردي، انفتحت الرواية على ثلاثة ابواب دلالية هي الفلسفة والموروث الشعبي والادب العالمي. يتغذى الباب الفلسفي على العديد من الأفكار الفلسفية التي تنطلق على لسان الأبطال المثقفين، فيقول والد ساهرة الحبيبة الثانية لكامل توفيق، وهو تاجر الشورجة الذي يهوى الموسيقى:"... وإذا لم تحصل على اسباب السعادة الكبرى، ابحث عن السعادات الصغيرة. سعادة التفاصيل، الموسيقى. الأطفال. محبة الآخرين. كلها سعادات، لكننا كسالى والحزن افيون الفاشلين. اما الباب الأدبي فيشهد الحضور المكثف للشاعر المصري من اصل يوناني "قسطنطين كفافي" خاصة مقولته الشهيرة "والآن... ماذا نفعل بدون برابرة!، لقد كان هؤلاء نوعا من الحل". يتكرر حضور كفافي في استشهادات الصديقين كامل توفيق وشاكر عبر احاديثهم. ويحضر الأدب العالمي أيضا في مقولة ماركيز "من لا يعشق يشيخ بسرعة"، ومقولات أخرى لنيتشه وايرنست هيمنغواي.
اما باب الموروث الشعبي فقد تركز على حكايات فرحان الحارس الذي سكن مع عائلته متجاورا مع عائلة ابو محسن في حقل الدواجن الذي يملكه محمود الرشيدي. تعرض محمود الرشيدي الى مضايقات السلطة القمعية فاضطر الى الهرب خارج البلاد حيث ادى ذلك الى خراب الحقل بعد استيلاء الوكيل القانوني عليه وبالتالي خراب فرصة العمل الوحيدة التي حصلت عليها عائلة أبي محسن. فرحان الحارس يقدم نفسه كخزين للحكايات الشعبية ذات العظة والحكمة، فكثيرا ما يأنس له ابو محسن في جلسات الشاي. يلتقط الحدث اليومي ويبني عليه حكاية تتضمن درسا مشوقا لمن يستمع اليه. ولم تغب شخصية فرحان عن تفكير من عرفه بمن فيهم ابن الثقافة وصنيع الكتب كامل توفيق، فبعد افتراق عائلة ابي محسن الإضطراري عن فرحان وعائلته أطلق عبارته "الحي لابد ان يلتقي مع الحي"، ثم أضاف حكمة أخرى: "البشر الذي لا يضحك كثيرا لا يعيش طويلا"، وهي أقوال يتداولها الناس لشد عزيمتهم ومقاومة ضغوط الحياة اليومية.
يرى الناقد بشير حاجم ان هناك إشكالية في عمر تلك الفتاة الذي لم يحسب جيدا كي تكون مؤهلة لعلاقة حب مع رجل يكبرها كثيرا، ولم ينتبه الكاتب الى تأسيس المنطق الذي يبرر علاقة الحب الجديدة مع كامل. العلاقة الجديدة تسببت في صدمة للبطل الرئيس كامل مثّلت هزيمة جديدة له، فبعد ان اشترطت الفتاة الجديدة عليه أن يطلق زوجته ويترك اولاده كي توافق على الزواج منه سارع الى تنفيذ طلبها مضحيا بعلاقته مع عائلته الكبيرة اضافة الى زوجته، الا ان تلك الفتاة قررت مصارحته بانها ابنة المرأة التي تركها فريسة لزواج قسري دون ان يدعمها بالهرب معها وانقاذها من مأزقها الذي ادى بها الى الانتحار حرقا مرتين ثم تبعها ابوها حزنا وكمدا في النهاية. اضافت في رسالتها: "والآن جاء يوم الحساب الذي لا مفر منه، هذا ما استطعت أن افعله معك وستظل هواجسي تبحث عن خرابك القادم".
كان كل من كامل وشاكر قد التحقا بجبهة القتال وذاقا ويلات الحرب، واعتبر كامل نقله الى بغداد نجاحا له، لكن العقاب الذي لحق به على يد ابنة حبيبته "سراب "قد وأد كل نجاح يمكن أن يحققه. إن ثيمة الخيبة التي تلحق بالبطل تصنعها ظروف ملتبسة، وهي، تصعيد درامي لما يجري في حياة هذا الكائن الذي غالبا ما يتمتع بصفات استثنائية تقترب من الاسطورة، كما ان طبيعة الأحداث المروعة الي يحياها تصنع له دورا مدويا في سيرورة الحكاية التي يصنعها الكاتب وقديما كان الناس هم الذي يصنعونها ويتناقلونها فيما بينهم،مضيفين اليها ما قد يستجد من ظروف تصنع بدورها حكايات اضافية، وهكذا تتكون الملحمة التي لا تنتهي وتتصف بالخلود والاستمرار. تقول الرواية على لسان شاكر صديق كامل:"إن هناك علاقة بين حاء الحب وحاء الحرب". وهنا يتعين ان نلاحظ إن نضالات الشيوعيين العراقيين ومواقفهم الرافضة لكل اشكال الظلم والدكتاتورية اصبحت مصدرا شعبيا مغذيا للشغل الاسطوري والحكايات الملحمية. ونقول ايضا ان الحب طغى على سلوك الشخصيات باعتباره سلاحا لمقاومة الحرب وبطلان مفاعيلها عليهم لكن الحب في هذه الرواية قد تسبب بهزيمة البطل رغم ان الصورة الأخرى للحب حققت نجاحا لصديقه شاكر وحبيبته فاتن بعد ان دافعا بشراسة عن حبهما. شراسة وجدت ذروتها بذلك المشهد المستعار من أجواء المسرح حين دبرت فاتن حيلة فنتازية خطرة بان يدخل كامل في جلد الاسد المفقود و يدخل شاكر في جلد القرد لاخفاء حقيقة اختفاء هذين الحيوانين من الحديقة التي تعمل بها فاتن تخلصا من مأزق المحاسبة المحتملة ضدها في حال اكتشفت عملية اختفائهما. وهكذا قررا السكن في شقة مستقلة بعد ان تجاوزا الصعاب التي برزت في طريقهما لحماية حبهما بسلاح الاستقرار الاجتماعي. ويبدو ان صورة النجاح هذه جاءت لتحقق التعادل النفسي لصورة الفشل الذي لحق بالشخصية الرئيسة. ونحن إذ نتلمس ذلك نتساءل هل يستحق كامل هذا العقاب، هل يقتضي منطق السرد أن يؤسس لعقوبة لبطل لا يستحقها؟ إن موقف كامل من حبيبته سراب كان ايجابيا، بل حزم حقيبته فور سماع ندائها بالهرب معها وتخليصها من مأزقها واراد مخلصا مرافقتها رغم علمه بالعواقب الإجتماعية الوخيمة لذلك. نعتقد ان على الكاتب ان يراعي مسألتين مهمتين تتعلقان بتعزيز الحكاية بالمصداقية الواقعية اولهما مشروعية الحدث وثانيهما استنفار الثقافة العامة للكاتب لتحقيق ذلك.
ففي الصفحتين 8-9 نشاهد الصبي كامل توفيق يضبط متلبسا بارتداء البجامة في الصف المدرسي ويربطها بحبل بدل الحزام. وعندما تسأله المعلمة ومديرة المدرسة عن سبب هذا الخرق يجيب انه لا يملك بنطلونا فيتم طرده من المدرسة بقسوة . ويبرز السؤال هل ان هذا الاكتشاف حصل في ذلك اليوم فقط في ظل علمنا ان كامل كان قد دأب على الحضور الى المدرسة بدون بنطلون فاين كان هذا الإكتشاف ؟ ولماذا حصل في ذلك اليوم فقط ؟ ألأنه ضحك في الصف؟ نفهم ان الكاتب يريد إظهار مدى العوز الذي يعيشه كامل وعائلته ، لكن ألا توجد طريقة مقنعة اخرى لتحقيق ذلك؟ وثمة مشهدا آخر نقرأه في الصفحة 18 حين يشرح الكاتب معنى كلمة "البواري" في هامش الصفحة، فيدون انها جمع "بارية" تصنع من الخوص لتصنع سقوف البيوت ..ألخ. ونقول: إن الخوص هو ورق سعف النخيل ولا تصنع منه بارية فهذا النوع من الحصران تصنع من القصب اليابس وليس خوص السعف بعد دقّهِ باداة ثقيلة وسحقه ليكون قابلا لصنع نسيج من اعواده. وهي حصيرة شائعة بين اهل الجنوب وسكان الاهوار تحديدا لكثرة نبات القصب المادة الأولية في بيئتهم. عائلة ابي محسن المهاجرة من تلك الاهوار الجنوبية والبيئة المميزة مُنحَ افرادها اسماء لا تناسب البيئة التي جاءوا منها، فالمعروف انهم لا يطلقون اسماء على انفسهم مثل توفيق او كامل او حامد لأن هذه الاسماء يتم تداولها في المدينة وليس في ريف الاهوار المنعزل الذي اكتشف لهجته الخاصة. مع ذلك نعتقد ان رواية " شرق الاحزان " تستحق القراءة وتشكل إضافة مطلوبة لمسيرة السرد العراقي خاصة وانها انتصرت بصبر للمظلومين والمهمشين وانتصرت خصوصا لقيمة الثقافة ودورها في تثوير الوعي لدى الشباب بخاصة.