المبعدون.. روايتان بعنوان واحد / محمد رشيد السعيدي

يثير التناص مجموعة من الإشكالات، إن لم يستخدم عن سابق معرفة ووعي وقصد. وعند وقوعه في العنوان فسيحظى باهتمام أكبر من ذلك الذي في المتن، لظهوره الصريح، وكونه العتبة الأولى التي تصافح عيون المتلقي، ونسبة المطلعين عليه بالقياس الى قارئي النص.
السلبية في التناص، والتي كانت السبب في إطلاق مصطلح السرقات الأدبية في النقد العربي القديم، والبقاء النسبي في استخدامه، تتعلق بطرفي العملية. فهو بالنسبة للنص الأول قد يعتبر مصادرة لجهد ومعرفة كاتب سابق، أو حتى تحويل الأنظار عنه لصالح التالي، وبالنسبة للنص الجديد قد يكون قلة معرفة أو استسهال الكتابة، أو أن ذلك سيجعل منه في موقع متأخر، للسبب عينه.
نحن القراء العراقيين نعرف رواية "المبعدون" للروائي العراقي المتميز هشام توفيق الركابي منذ سنة 1977، وهي مازالت خالدة في الذاكرة، وربما هي في المقام الأول للتأليف الروائي القليل العدد بالنسبة للروائي نفسه، لدى كثير من المتابعين للحركة الروائية العراقية. وقد تكون تلك المعرفة مقصورة علينا، حين لم يستطع ذلك النص وكاتبه، لظروف غير فنية، تجاوز الحدود الجغرافية للعراق، والوصول الى القارئ والمتابع العربي، مما يمكن بالتالي من استخدام عنوان "المبعدون" لرواية أخرى! لذا فإن احتمال التناص في هذه الحالة أضعف من احتمال الصدفة.
نعم، حصل هذا حديثا جدا، بعد 38 عاما من نشر "المبعدون" في دار نشر حكومية. فقد صدرت حديثا رواية جديدة بعنوان "المبعدون" لكاتب من جمهورية الجبل الأسود اسمه أوجنين سباهيتش. وذلك ما يثير إشكالية أخرى لا تتعلق بالتأليف والتناص، بل الترجمة، التي تدفع الى السؤال: هل هذا العنوان من اختيار المؤلف، وليست الترجمة إلا حرفية له، أم إنه من اختيار المترجم بما يقترب كثيرا من العنوان الأصلي الذي قد تصعب ترجمته حرفيا؟
ما سبق من معلومات، وما سيأتي، وهو الذي ستناقشه هذه المقالة على أساس اعتباره وثيقة، هو ما موجود على غلافي الرواية، وفي الصفحات التي تحمل هويتها وبطاقات تعريفها، لاسيما وأن الكاتب جديد على اللغة العربية، وغير معروف بالنسبة لقرائها.
يحمل الغلاف عنوان الرواية "المبعدون" واسم مؤلفها "أوجنين سباهيتش"، واسم المترجمة "هبة ربيع"، ودار النشر "العربي للنشر والتوزيع"، أما الصفحة الأولى للكتاب، والتي تحمل الرقم "3"، فقد تضمنت فضلا عما سبق إضافة هي: "أبناء هانسن" كعنوان ثان للرواية، يقع أسفل العنوان الأول بفاصل خط أفقي، ومعلّمة بالأقواس الصغيرة، التي "توضع بينهما العبارات المنقولة حرفيا من كلام الغير والموضوعة في ثنايا كلام الناقل"، كما يقول الدكتور احمد شلبي في كتابه "كيف تكتب بحثا أو رسالة"، مما يزيد الأمر التباسا: فاذا كان هذا العنوان موجودا في النص الأصلي لماذا وضع بين هذه الأقواس الصغيرة؟ أو انه إضافة المترجمة، واستخدمت هذه الأقواس لغير الضرورة. كما نقرأ التعريف الوارد أسفل اسم المؤلف، وهو: الكاتب من جمهورية الجبل الأسود.
السؤال المهم في موضوع الترجمة، هو: عن أي لغة ترجمت هذه الرواية؟ وهو ما لا يعثر على جوابه واضحا في بطاقات تعريف الكتاب، إلا تلك الإشارة الواردة باللغة الانكليزية: Originally poblished in English by Istros Books، والتي تعني: نشر أصلا بالانكليزية بواسطة دار النشر "Istros Books"، وهو، وإن أوحى بأن الترجمة عن الانجليزية، فإنه زاد الأمر التباسا، فيما يخص سؤال العنوان. فهل "المبعدون" هو عنوان الرواية الأصلي، أم عنوان الترجمة الانكليزية، أم عنوان الترجمة العربية؟
ثمة إشارة علمية، جاءت في هامش الصفحة "229" الى أن: جيرهارد هنريك ارمور هانسن "1841- 1912" عالم نرويجي، عزل البكتريا العصوية المتسببة في الإصابة بمرض الجذام في عام 1873، ولذلك فغالبا ما يسمى الجذام مرض "هانسن" والبكتريا العصوية له عصوية "هانسن". حيث نلاحظ الاستخدام غير الدقيق لعلامات الترقيم. وبعدم وجود دليل على كون هذا الهامش للمترجمة، فيقوى احتمال كونه للمؤلف، وانه جزء من النص، مما يدل على أن العنوان الثاني للرواية "أبناء هانسن" هو للمؤلف أيضا.
وثمة أكثر من عتبة أخرى قد تفيدنا في الإجابة على تلك التساؤلات، وحل بعض الإشكاليات، إذ توجد "السيرة الذاتية للمؤلف" على الصفحة "231"، وترد فيها بعد معلومات كثيرة، عبارة "روايته "أبناء الجذام"، 2004 فازت بجائزة ميسا سليموفيتش في عام 2005..."، وبعدم وجود أية إشارة، هنا أو في العتبات التي سبق وتطرقنا اليها، الى أن هذه الرواية التي تحمل عنوان "المبعدون" هي ترجمة رواية "أبناء الجذام"، فيبقى الشك قائما بالقدر عينه، على أساس احتمال وجود رواية أخرى للمؤلف نفسه تحمل هذا العنوان. ولكن العلاقات التي تربط بين العنوان الثاني "أبناء هانسن" والهامش وعنوان "أبناء الجذام"، قوية جدا، خاصة بعد قراءة الرواية ومعرفة أنها تحكي عن مستعمرة لمرضى الجذام في جنوب أوربا، في رومانيا، وهو مدلول العنوانين "أبناء هانسن" و"أبناء الجذام".
لكن الأمر مازال غير دقيق، وهو محض تأويل لعلاقات، حتى نقرأ في العتبة الأخيرة، وفي الجزء الثاني منها، مما وضع على الغلاف الأخير تحت عنوان "أوجنين سباهيتش" كسيرة ذاتية، فنقرأ: "روايته "المبعدون"، 2004 فازت بجائزة "ميسا سليموفيتش" في عام 2005..."، وهو النص عينه الوارد على الصفحة "231" والذي تم التطرق اليه قبل بضعة أسطر، ولكن!! بتحريف شديد الأهمية، واختلاف لفظي في عنوان رواية واحدة، واتفاق في المعلومات كلها. إذن، هي واحدة، بدلالة التاريخين والجائزة.
هذا هو الاحتمال الأقوى، أو النتيجة التي توصل اليها هذا البحث، من التحليل والمقارنات. إذ يمكن أن يكون - واستنادا الى كثير من الترجمات الأدبية الى العربية، التي تمتعت بتصرف يختلف نسبيا من واحدة الى أخرى، ربما مازالت آثاره باقية على الرغم من معرفة أهمية الترجمة الدقيقة، ولا نقول الحرفية، للنصوص كاملة، شكلا وموضوعا وعنوانا وتعريفات.. وغيرها العنوان الأصلي للرواية، بلغتها الأم، والذي لم تشر تعريفات الرواية اليه، هو "أبناء الجذام"، و "أبناء هانسن" هو عنوان ثان قد يكون للمؤلف أو المترجمة، أما "المبعدون" فهي من تصرفات الترجمة في النصوص الأصلية.
وهنا، يفترض الحفاظُ على خصوصيتي الروايتين - والتقدير الفني والموضوعي لهما، ولجهود المؤلفين والمترجمة، وللحفاظ على جمالية الأصالة والابتكار - التعريفَ الدقيق بهوية الرواية المترجمة، وأهمية الإبقاء على عنوانها الأصلي اذا كان غير "المبعدون" أو تغييره الى "أبناء الجذام" الصادم، أو "أبناء هانسن" الأخف صدمة، الذي قد يكون هو الأصلي، مع شكر الأستاذة المترجمة مرتين، الأولى لجهودها، والثانية لهذا الاختيار، الذي يساهم في إلقاء الضوء ثانية على "المبعدون" العراقية، لوجود تناصات أخرى معها، ومع رواية "أيوب" للمؤلف نفسه: هشام توفيق الركابي، وهذا من المصادفات القليلة التي تستدعي الانتباه.