- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الثلاثاء, 15 أيلول/سبتمبر 2015 06:45

من أجل أن يولَدَ شيءٌ ما في دواخلنا،
سنقف كل يوم دقيقة صمت واحدة. لكي يجعل من الشمس أردية تردم ثقوب الحياة..
عليه أن يفاتح نفسه أولا قبل الآخرين، وأن يبعد روح الشر من النفوس، وإلا أضحى هو الآخر مثلهم.
أن ينحت إرادة أخرى.. ويؤسس لغنائية جديدة، ويتوهج، كي لا تبقى الحياة بكماء... فإلى أين يقوده الواقع، وتقوده عجلات الزمن؟ لا أحد يعرف!
يقترب من ذاته كثيراً ويبتعد عنها أحيانا، ليحاورها ويعرف أين قادته قدماه، لذا يحاكي دواخله ليستشف منها الكلمات وإن غامضة:
- ليس الغريب أن تكون ميتا، بل الغريب ألاَّ تعزف، وتحوّل الحياة إلى بكائية صامتة.. سأعزف، وأعزف ليصل صوتي السماء، ويتحول اللامرئي، إلى عوالم ضوء.
يرفع هواء الشتاء قميصه ليلا، فتقرصه لسعة البرد، يترجف وتصطك أسنانه، غير أنه يلتصق بجسده متكورا عليه، متوسلا قلبه بالخفقان:
-لا تيأس إن بقيت وحيداً، ثمة أشياء تأتي من الجهة الأخرى، المهم أن نعثر عليها.
الأمطار الخفيفة لا تغسل روحه، يبقى حالما بإطلالة وجهها المنير من ثمة نافذة، يترقب مرور عطرها القادم من نفحات الجنة، ويختصر لهفته بحسرة عميقة، في كل المرايا يرى وجهها، حتى في لمعان قطرات الندى، فيصبح زهرة تنتظر الارتجاف.. ويستمر في بحثه عن كلمة تشفي غليله، وهو مستلقٍ على التراب متخذا منه سريرا:
- كل شيء يذوب، الماء، الصخر، الجبل، الشاطئ،، كل شيء يذوب هناك، حتى الأسماء، الأسماء كلها بما فيها حُسناها، إلا صوت الناي، هو المُزهر الوحيد في الكلمات كلها.
يروق لعازف الناي ترديد ذلك ونفخه في نايه، وهو متكئ على جذع شجرة كبيرة، وكلما اقترب الليل شعر بنور غريب يحيط به.
نور منبثق من أعماق المياه، من سطح الأرض، من السماء،ومن وراء الأثير، ومن أعماقه.
القميص الأزرق ذاته، والبنطال الجينز، كل ليلة هما ستره الدائم، لا يغيرهما أبدا، كل ما يسعده في الليل ترقب العشاق الهاربين من سلطة أسَرهم، متعانقين تحت ظل شجرة كبيرة، يختبئ عنهم، كي لا يفسد عليهم خلواتهم الجميلة، ومخططاتهم لمستقبل قريب.، لا يريد رؤية عاشقة ترتدي وشاح الحزن. يلتحف ورق الأشجار، ويقطع أنفاسه بين الفينة والأخرى، منتظراً قُبلة مفاجئة من حبيب على رقبة حبيبة.
قبل انبثاق الفجر يصحو في روحه فضاء عميق، مليء بالنشوة، يصمت مصغيا وكأنه في أجواء إلهية وطقوس صلاة.. يدنو منه الصبي الغريب الأطوار، ذو السابعة، بملابسه الرثة الممزقة من الأكمام، وعند الصدر بثقوبها الثلاثة..ويلتحمان معا، أخرس وناي.
أخرس لا يعنيه من الكلمات إلا إشارتها، والاقتراب من آنية الموقف، ليصفه بأصابعه النحيلة.
يجلس على صخرة صغيرة، هادئ النظرات، مصغ لكلمة عابرة تمر في باله، ليتصوّرها ذهنه الصغير، ويحولها إلى إشارة.
يراقب انزلاق الشمس على الروابي المحملة بسطوع جديد،ويختفى بظهورها.
مثله عازف الناي، يغني حتى إن لم يمكنه الغناء، لعلها تأتي، أو تمرّ خاطفة بثيابها الزاهية وخصرها النحيل.. يلتفت صوب حفيف الشجر متوقعا خطوها، بريق عينيها الكنز، يمد أنامله، متحسسا مفاتنها،وكأنها منبثقة من رحم الطبيعة،، فيصطدم بالفراغ.
هو مدرك أنها قادمة.. قد تصفر الأعشاب والزهور تذبل، لكن الحب لا يذبل.. في كل الأوقات يبقى ملتصقا بالماء، لأنه يحيا به.
ينطلق اسمها بين شفتيه مثل طائر يحلِّق معه فوق الوجود..ثم يعود إلى مكانه مستخلصا من الحلم أحلاما أخرى لم يرها، ليبدأ رحلته القادمة.
الطقس بارد بعض الشيء، والرياح تزفر برتابة، وتعبث بما بقي من وقت لبزوغ الشمس.
قبل البزوغ ظهرت شابة بملابس بيض كأنوار شمس مشرقة، وحين رأى الطفل ملامحها الوديعة تبعها صامتا، كعادة الخرس مطأطئا الرأس، مبتسما.
اقترب منها ليحمل عنها السنابل، بينما هي مسحت شعره المغبر وأعطته سنابل صغيرة.
اختارا موضعا على بعد خطوت عن القرية وجلسا يتهامسان، بعد ذلك انطلقا معا متجهين إلى كل أبواب القرية ووضعا السنابل.
مضيا دون أن يعرف أحد وجهتيهما. وعازف الناي يترقب ثمة قادمة وحركة قدمي الطفل، إذ لا ملاذ له غيرهما.
يصاب الطفل بالوجوم والتردد كلما نوى الصبية اللعب معه، ينظر إليهم وفي روحه اشتهاء عميق إلى اللعب.. شيء أشد منه وأقوى يمنعه دون ذلك.
انطوى على نفسه غارسا أظافره في التراب، تاركا حروفاً مبهمة وإشارات غير مفهومة، لا تشكل اسما، أو رغبة ينوي الحصول عليها كي يحققونها إليه. بل اكتفى بمص إصبعيه "السبابة والوسطى".
يحفر كل ليلة في مكان، يبدل الأمكنة حسب هواه، ويتطلع إلى السماء، وإلى وجه عازف الناي، يوجه إليهما أسئلة مبهمة، ويحلم بالجواب، كلما سأله عازف الناي عن سبب تولعه بالحفر، لا يجد غير هزة رأس من الطفل، وزم شفتين صغيرتين.. وصمت.
حينما أشرع القمر أبوابه مسح أصابعه بدشداشته القصيرة، وقف قبالة العازف، نظر بعمق إلى عينيه، وتعانقا كأب وابن، وبكيا.
يصبح العازف عصبي المزاج كلما نعتوه بـ "المعتوه" يصاب بالجنون من الصفة التي الصقوها به، يشكوهم لنفسه وللطفل:
- تخيل نعتوني بالمعتوه أو المجنون، لكن ثقتي بنفسي تجعلني أتمالك غضبي، وأغفر لهم، صدقني أعذرهم، بل أشفق عليهم.
من المستحيل أن يصدقوا ما أرويه عليهم، إنما أعظم ما يبهج قلبي فرحتهم بالسنابل.
أحب العجوز "علوان" وعينيه اللتين تشبهان عيني نسر، عندما أنظر إليهما، أشعر بالدم يتجمد في عروقي، له نظرة تخترق الأفكار التي تدور في رؤوس الآخرين، وصمته الدائم دليل على تصديقه لما نراه ونحكيه لأهالي القرية.. متيقن من أنه يقول في نظرته إلي:
- أنني أعرف سرك، لكنني لا أفشيه بإرادتي..واتخذت قراري بعدم النظر إليه وإن واجهني متحديا، أشغل نفسي باي شيء واتحاشاه،هكذا أفضل.
علامات الاستغراب على الوجوه كل صباح في القرية:
- مِن أين جاءت هذه السنابل على الأبواب؟
لم ينتظر أحدهم أسئلة الآخرين وأجوبتهم:
- أريد أن أراه.
رد عليه العجوز ذو العينين اللعينتين:
- لا أريد أن أراه، ربما هو شخص معتوه مثل عازف الناي، ولمَ لا يكون عازف الناي ذاته؟
ثم انتبه إلى خطأ اقترفه:
- ومِن أين يأتي عازف الناي بالسنابل من أرض صخرية؟
ابتسم الطفل وعازف الناي دون أن يتفوها بكلمة واحدة.. مَن يصدق معتوهاً أو أخرس لو أخبراهما عما يريانه في الليل!
فاجأتهم المرأة البدينة ذات الشال الأسود، وقد أصاب شلل نصف وجهها الأيمن.. بأنها جمعت سنابل كثيرة ووضعتها في مزهرية، تسعى لسقيها كل يوم وتغير ماءها، لكن السنابل لم تذبل رغم مرور أكثر من شهر.. كل فجر تضيف لها سنبلة جديدة.
أخبرتهم عن زوجها العاطل عن العمل، و بسبب السنابل حصل على عمل براتب يكفي متطلبات العائلة.
كما أن ابنها الغائب عاد من غربته، بينما كانت تتوسله العودة، وبسبب السنابل "المباركة" تغيرت حياتهم إلى الأحسن والأفضل، حتى ابنتها العانس تزوجت.
ضحك الجميع مستهزئاً، والطفل وعازف الناي ابتسما بثقة، لأنهما الأعرف بصاحبتها.
بعض الأمهات رفعن رؤوسهن وفتحن صدورهن متمنيات تحقيق أحلامهن.. أما الآخريات فبقين في حيرتهن.
عازف الناي يريد أن يرفع عن أعينهم الأستار ويصيب كبد الحقيقة، لكنهم لا يصدقون:
- رأيتها تنزل من الغيمة، تطير بثوبها الأبيض، رافعة ذراعيها المحملتين بالسنابل باتجاه أسطح البيوت، وكأنها تريد أن تعلو السطوح لتقترب من السماء.
ثم أردف قائلاً بعد أن بلع ريقه وبحلقت عيناه:
- ها هي تمر من هنا..
مد الطفل يده كأنه يريد أن يمسك الفراغ، ومشى تائها يتبع خطوها ، وبينما هو تائه في عينيها البراقتين، دخلا آخر بيت في القرية، واخترقا الحائط.
جلست الشابة قرب رأس امرأة فلاح حاصرها الطلق، لم يرها أحد وهي تمسد جبين المرأة وتمسح عرقها، ثم تمرر يدها على بطنها، الطفل وحده وقف عند الباب منتظرا.
سأله رب الدار فيما إذا لديه رغبة بالأكل، وقدم إليه بعض الحلوى وخبزاً مع الجبن. لكنه نظر إلى الأكل وصمتَ.
جلس عند العتبة قلقا، والمرأة تُقهر بصبرها وثباتها الطلق كلما مرت يد الشابة على بطنها.. وكلما نز العرق من جبينها كلمت زوجها بصوت عالٍ:
- أشعر بأحد قربي، صدقني أشعر بأنفاسه.
هوَّن عليها :
- لا أبدا، إنها حمى الطلق، أرجو ألاَّ يصيبك الوسواس، ستلدين بعون الله.
أشارت الشابة للطفل وخرجا.
بعد ساعة سمع الزوج صرخة المولودة.. فرح لأنه يريد المولود الجديد بنتا، وقد استجاب الله لدعائه. وحين سألته القابلة أي اسم سيختاره، أجابها ودموع الفرح تملأ عينيه:
- "ريحانة" سمِّها ريحانة.
تعجبت الزوجة وذهلت، كانت رغبته غير ذلك، كم مرة طلبت أن يسميها على اسم أمها، لكنه أصر على أسم أمه "مريم" فما الذي استجد ليسمي المولودة "ريحانة"؟
أصابتها الغيرة وأخذها التفكير بعيدا، خشية أن يكون اسم عشيقة لزوجها، إعتصمت بالحكمة وهو يخبرها، أصدقك القول:
- لا أعرف لمَ اخترت هذا الإسم، وكأني سمعت هاتفا يهمس في أذني، وشعرت كأن الفضاء يتسع، يتسع، كما أن عبق نشوة غامرة اعتراني، نشوة لا تُوصف وأنا أذكر اسم"ريحانة".
أيقنت أن زوجها واقع في غرام جديد، فكرت، تساءلت مليا، لكنها لم تهتد إلى جواب.