الكبار يتواضعون / وفاء عبد الرزاق

في الاغتراب، تحوم حولنا المدينة بذكرياتها الجميلة، وتتسرب روائح عطر تربتها لتتغلغل في الروح.. كان أول عهد لي مع اغترابي عن البصرة مع أغنية "يا طيور الطايرة" بصوت الفنان سعدون جابر، وأول تعرفي على الشاعر الكبير زهير الدجيلي، باعتباري خرجت من العراق منذ أول عهد لي بسن المراهقة، في سن الـ 16 عاما.
في الاغتراب تتحصن بالشعر وتختبئ بين جدران صدور الشعراء ، خاصة حين يكون الشاعر بحجم المرحوم زهير الدجيلي.. وبقيت أُمنّي نفسي بلقاء قريب.
كلما أخذني العتب مع من أعز وأحب أنهض بـ "حسبالي" نعم، "حسبالي" لم التق بهذا العملاق. لكن الصدفة طاوعت رغبتي وتصرفت من تلقاء ذاتها.
لم تحيرني ساعات الصبح، بل حيرتني ساعات المساء، حين هاتفت صديقة مشتركة بيننا هي بثينة القاضي، لتقول لي: وفاء ، سهرتك معنا الليلة، سيزورنا شاعر عراقي كبير واريدكما أن تلتقيان.
يا له من يوم طويل، ذلك اليوم الذي صار يعني أفقا مطمئنا، كوني سألتقي بطيورنا الطايرة وأعد العمر ومحطاته بـ "صار العمر محطات"، كانت الدقائق محطات ، والساعات قاطرة لا تستعجل المسير.
الكبار يتواضعون، فعلا الكبار يتواضعون، القيت عليه التحية مستغيثة بالشعر ليعينني حين يطلب مني زهير الدجيلي سماع قصيدة لي.
سنابله مليئة بالابداع وملتصقة بالأرض محبة، مهابة..
وكانت ليلتها أجمل اللحظات بحضور عدد كبير من الأصدقاء من محبي الشعر..
أحيانا تكون أجمل الأمسيات ، تلك التي لم يُخطط لها، يفوح منها طيب العفوية، والحضور، والإخاء، والدموع، والوطن.
كنا مغتربين ، يبكينا صوت "زهور حسين" الشجي، وتمطر سماء أعيننا على "ارد اجيكم، بلكت الكى الشوك ذاك الي عرفته". كلنا يحزن قلوبنا الشوق، فصدح صوت الدجيلي، بأشعاره الغنائية وكان قربنا صديق يردد معه غناء، فامتلأت لحظاتنا بالشعر والغناء والدموع والحنين..وعاتبنا النجوم معه وبقيت "نجمة تسامرنا غصب، ونجمة تعاشرنا غصب، ونجمة تقول لنا "رايحه".
السبعينيات كانت سنوات وجلي وخوفي من غربة ستقضي علي. فتبادلنا الأشعار بالتناوب، واهتز الدجيلي ألما وحسرة على قصيدتي "يادجلة" وقصيدة "ما أريد اغَمْض الجفن ولا أريد أطبكنَّه".وتعددت قصائدنا بالتناوب.نبكي معا ونفرح ، ونرى ذلك في عيون الحاضرين جميعا.
لم ترتح اجفاننا يا "زهير" منذ اللحظة الأولى للأغتراب، حملنا الوطن في صدورنا ورحلنا به.. ومن وقتها بقينا نتبادل الأشعار والمحبة والإخاء الجميل، حيث كان كلما بعثت له نصا شعبيا أو فصيحا، يأخذ الصدارة في موقع"الجيران"،ولو تأخرت، شرفني بالسؤال، عبر الأيميل لمزيد من القصائد.
اليوم،تعاتبنا نجومه ، التي حزنت غصة على فراقه، تعاتبنا كشعراء وترسل شفرتها الى المسؤولين الذين لا يهتمون بثروة العراق الابداعية ولا يعطونها قيمتها الإنسانية.. هكذا يموتون تباعا، بكل هدوء، كفنهم الابداع وكافورهم الوطن.
عني شخصيا، ربما ستكون وصيتي قبل موتي.. اجمعوا كل قصائدي التي كتبتها عن العراق، انقعوها بالماء جيدا، ثم غسلوا جسدي بها، لتصونني من غربتي الأبدية، القبر.
ليرحمك الله يا زهير، ويدخلك جنته.إنا لله وإنا إليه راجعون.