زهير الدجيلي يبحث عن العراق / ثائر الزعزوع *

زهير الدجيلي، شاعر ما زال يوصي الطيور الطايرة كي تسلم له على الولايات.
"كنا نمزج الوطن بالحب". هكذا يصف زهير الدجيلي مفهومه للأغنية، وهكذا يبحر صاحب "يا طيور الطايرة" في بحر تجاوزت أمواجه مئة وثمانين أغنية، حفظها الشارع العربي. رغم أن الكثيرين كانوا يجدون صعوبة في التقاط معاني بعض كلماتها، إلا أن ذلك الحب الذي يتسلل بين كلماته كان كفيلاً دائماً بجذب المستمتع إلى أغانيه.
قيل عنه إنه "أبو الأغنية العراقية"، رجل ألف الترحال مثلما ألف الحنين، ولذلك فقد باتت قصيدته حنيناً لوطن أبعد عنه مرغماً ولم يرجع إليه مختاراً. فقد بات العراق ملاذاً للصوص، كما يقول، وللتيارات الطائفية التي أطبقت على البلد فخنقته. يقول:"إلى متى يبقى الوطن بيد الحراميّه/ وطن منهوب؟/ لا حارس يحرسه ولا حاكم يصونه ويعمل المطلوب/ إلى متى؟/ كان العراقي طول عمره/ الكلّ يسمّونه: المواطن المرعوب"
بين الشطرة والسجن
ولد زهير الدجيلي في مدينة الشطرة التابعة لمحافظة الناصرية جنوبي العراق، وجد نفسه مدفوعاً إلى اليسار في مدينة كان يُطلق عليها في حقبة ماضية، اسم "موسكو العراق". تعرض للاعتقال في بداية شبابه عام 1954 إبان الحقبة الملكية، وحكم عليه بالحبس سنة ونصف السنة بعد رفضه توقيع صكّ البراءة من أفكاره ومعتقداته.
بعد خروجه من السجن، جاءت أحداث تأميم قناة السويس في مصر لتلهب الشباب المتحمس في العراق، وكان صوت الدجيلي يدوّي بالقصائد الشعبية خلال التظاهرات التي عمّت شوارع مدينة الناصرية ومدارسها.
ألقي القبض عليه وسيق مع غيره من مئات الطلاب الشيوعيين والديمقراطيين إلى معسكر خاص في راوندوز في قلعة حجرية تقع بين جبل راوندوز وواديها. ونظراً لظروف السجن الصعبة أعلن الدجيلي إضرابه عن الطعام حتى الموت، محرضاً الآخرين على الإضراب. فتم اعتقاله مع عشرين طالباً آخر وتم تسفيرهم عام 1957 إلى سجن صحراوي صغير يقع قرب الرمادي. ولم يكن هذا السجن غير ثكنة عسكرية صغيرة مهجورة قيل إنها من مخلفات القوات العسكرية البريطانية التي احتلت العراق.
قصائد الدجيلي تتميز كما الكثير من القصائد الشعبية العراقية بذلك الخيط الدقيق من الحزن والألم. إلا أن بساطة تراكيبه، جعلت من السهل على المتلقي أن يتابع معها تفاصيل قصة حب ووطن في الوقت نفسه، فكانت "حسبالي" لسعدون و"بيت العراقيين" لفؤاد سالم و"مرة وحدة" لياس خضر.
طبيعة السجن القاسية والمعاناة التي كان يعانيها لا السجناء فقط بل حتى السجّانون، جعلت منهم أصدقاءً يتبادلون الأفكار والرؤى والأخبار السياسية ويتفقون في نهاية المطاف على تنفيذ عملية هرب جماعي من السجن. لكن لم يسعفهم الحظ. حيث ضيّعهم دليلهم في الصحراء، وطوقتهم قوات من الجيش العراقي تعرضوا بعدها إلى سلسلة من التحقيق والتعذيب.
أعيد الهاربون إلى سجن آخر قريب من مدينة البصرة، وظل الدجيلي ورفاقه معتقلين حتى قيام ثورة 14 تموز عام 1958 حيث تم إطلاق سراحهم.
جاسم وتضاريس العراق
عاد زهير الدجيلي إلى الناصرية لمواصلة مرحلة أخرى من النضال الحزبي، وليكون مسؤولاً عن مدينة الناصرية تحت اسم حزبي سري "جاسم"، وليصبح بعد وفي العام 1961 مسؤولاً عن اللجنة المحلية في لواء الناصرية.
كانت يوميات علاقاته مع فلاّحي تلك المناطق، من الحزبيين والفلاحين الثوريين الفقراء، تنطلق من قدرته التأثيرية العالية المليئة بالفولكلور الفلاحي والأمثال الشعبية والشعر والحكايات. مما كان له الأثر الكبير في نجاحاته التي حققت تعزيز وتوسيع الحزب مع الفلاّحين وإعادة التنظيمات الحزبية في الريف.
اعتقلته الشرطة من جديد عام 1962 وحكم عليه بالسجن أربع سنوات بينما كانت زوجته حاملاً. لم يمنعها الحمل من الاشتراك في إحدى التظاهرات التي كانت تطالب بإطلاق سراح السجناء السياسيين. فألقت الشرطة القبض عليها هي أيضا، وسجنتها وولدت ابنته البكر داخل السجن.
كتب لزوجته حين كان سجيناً:
"المعذره لو ما أجاج الورد مني"
تحفل سيرة الدجيلي بعشرات وربما مئات الأعمال الدرامية والفنية. لكن يبقى أبرزها مسلسل “افتح يا سمسم” الذي كتب حلقات الجزء الأول منه كاملة، كما كتب أغانيه. وكتب العديد من الأعمال الدرامية للإذاعة والتلفزيون، وعدداً من الأفلام السينمائية أشهرها فيلم “النهر” من إخراج فيصل الياسري، وفيلم “ مطاوع وبهية” إخراج صاحب حداد.
كتب الكثير من الأغاني لمطربي العراق المعروفين وكانت أشهر الأغاني أغنية “يا طيور الطايرة” التي غناها المطرب سعدون جابر ولحنها كوكب حمزة. والتي بقيت كلماتها تتردد مثيرة دهشة وحنين المستمعين حتى هذه اللحظة وكأنها كتبت قبل قليل "يا طيور الطايرة مرّي أبهلي/ ويا شمسنا الدايرة شوفي هلي/ سلّميلي وغنّي بحجاياتنا/ سلّميلي وضوّي لولاياتنا/ وروحي شوفي لي بساتين الوطن/ هم طلع طلّيعها أبنخلاتنا؟/ سلّميلي يا طيور الطايرة/ سلّميلي يا شمسنا الدايرة".
لا تنتهي كلمات الدجيلي. رحلة امتدت من "البارحة" القصيدة التي غناها سعدون جابر، إلى "هلج وين يا نجوى" إلى "الهودا لك" و"مغربين وين أهل الهوى" لياس خضر. رحلة طويلة في عوالم الإنسان وشجنه.
"مقتطفات"
ــــــــــــــــــــــ
* كاتب وإعلامي سوري