نوبل في الأدب توسع آفاقها / طالب عبد الأمير

بمنحها جائزة نوبل في الأدب هذا العام إلى الموسيقي الشهير بوب ديلان، خطت الأكاديمية السويدية خطوة أخرى بإتجاه فهم جديد لوصية الفرد نوبل.
الخطوة الأولى في كسر القاعدة التقليدية لمفهوم الأدب، بدأتها الأكاديمية السويدية العام الماضي، حين منحت جائزة نوبل الى الصحفية البيلورسية سفيتلانا الكسييفتش، التي لا تتوفر في كتاباتها شروط السرد الروائي والحبكة والخيال، وإنما تعتبر نصوصها شهادات تجمع بين التقرير الصحفي التوثيقي والسرد، الذي يخلق لوناً جديداً في الأدب، تجتمع فيه نبرات وإيقاعات مختلفة، ومشاعر وأحاسيس بشر تحدثوا للكاتبة، ونقلت همومهم ومعاناتهم.
وقد وصفت الأكاديمة أعمال سفيتلانا الكسييفيتش بـ"المتعددة التناغم، والتي تمثل نصباً تذكارياً للمعاناة والشجاعة في زماننا". كما ذكرت لجنة الجائزة في حيثيات قرارها.
وهاهي الأكاديمية السويدية تمنح جائزة هذا العام الى موسيقي ومغني يكتب القصيدة الغنائية، "بابتكار تعابير شاعرية جديدة داخل الغناء الأمريكي الكبير" كما ذكرت الأمينة العامة للأكاديمية سارا دانيوس في سياق تعليقها على منح جائزة نوبل في الأدب للعام 2016 الى الموسيقي المغني الأمريكي بوب ديلان، الذي تمتلك قصائده التي يكتبها وشعره الغنائي روح تجديد وقوة معنى، لا يخضعان إلى زمن محدد، كما عبر أحد الشعراء السويديين.
قرار الأكاديمية لهذا العام أثار، مجدداً، إنتقادات كثيرة، داخل السويد وخارجها، من بينها الولايات المتحدة الأمريكية، بلد الحائز على جائزة نوبل في الأدب هذا العام، لأول مرة ينالها أمريكي أو أمريكية منذ 23 عاماً. ففي آخر مرة نالتها الكاتبة توني موريسون العام 1993. رغم أن الإنتقاد ليس سببه شخص بوب ديلان، الذي يتمتع بشهرة واسعة كونه موسيقي، مغنيا وعازفا كبيرا على مدى خمسة عقود، أُعتبر خلالها رمزاً للدفاع عن المهمشين ولمناهضة العنصرية والظلم الإجتماعي، وإنما كانت التوقعات أن يحصل على الجائزة كاتب، او كاتبة، في مجال الأدب بمفهومه التقليدي، كالرواية أو الشعر وما شابه.
لكن قرار الأكاديمية السويدية حظي أيضا بترحاب الكثيرين، حيث وصف هذا الاختيار بالجريء والملائم لروح العصر. وحين خرجت الأمينة العامة للأكاديمة السويدية سارا دانيوس من غرفة الإجتماعات الى قاعة البورصة العريقة، مبنى الأكاديمية السويدية حالياً في المدينة القديمة في ستوكهولم، في الواحدة تماماً بتوقيت السويد، ضجت القاعة، التي احتشدنا فيها، صحفيين من السويد ومن بلدان آخرى، بالتصفيق. وكان هناك من عبّر عن دهشته، وآخر عن وجومه لهذا القرار الذي فاق التوقعات.
والسؤال المطروح الآن: هل ستواصل الأكاديمية السويدية هذا النهج الجديد في توسيع نظرتها الى مفهوم الأدب ودفع جدرانه ليشمل فضاءات آخرى، تمنح على أساسها جائزة نوبل؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال أود الإشارة الى أن المبتكر السويدي ألفرد نوبل حمّل جائزة الأدب، شرطين مضافين الى الشروط العامة الأخرى التي تخص جوائزه في الطب والفيزياء والكيمياء والسلام والأدب وتتلخص بأن تُمنح الى مبدعين قدموا إلى البشرية أفضل ما يمكنها الاستفادة منه خلال السنوات السابقة، وأن لا يتم التوقف عند جنسية المبدع وإنتمائه القومي. وهذان الشرطان المضافان هما أن يكون الكاتب قد أنتج أدباً هو "الأكثر تميزاً" وذا "اتجاه مثالي". وهذا الشرط الثاني الذي خضع ولايزال لتفسيرات مختلفة، باختلاف الأزمنة وتبدل ألامناء الدائميين وبقية أعضاء لجنة نوبل في الأكاديمية السويدية، الذين تحملوا مسؤولية إختيار الفائزين بالجائزة، منذ البدء بتوزيعها في عام 1901.
وبسبب إختلاف التفسيرات حرم من نيل الجائزة كتّاب لهم مكانة كبيرة في الأدب العالمي أمثال، ليو تولستوي، أميل زولا وهنريك ابسن وغيرهم كثيرون.
وكما كانت تفسيرات وصية نوبل في جائزة الأدب تختلف من عصر الى آخر، أجدها اليوم تأخذ منحى جديدياً في قراءة مفهوم الأدب "المميز" و"المثالي"، فيخرج من إطاره التقليدي، الذي يتمثل بالقصة والشعر والنص الدرامي فحسب، بل ويشمل أعمالاً إبداعية أخرى. وهذا يعيدني الى حوار كنت أجريته مع هوراس أينغدال، عام 2008، وحينها كان يشغل منصب السكرتير الدائم للأكاديمية السويدية، تحدث فيه عن بروز ظاهرة تنمو في عصرنا الراهن، تتمثل في ظهور كتّاب ينقلون تجارب واقع معاش، يبدعون في عرضه بإستخدام أدوات أدبية. وهذا اللون من الأدب باتت له أهمية كبيرة. وكان الحديث، حينها، يجري عن أدب السيرة الذاتية، فالقواعد التي نصت عليها وصية نوبل في توزيع جائزته في الأدب موجودة وثابته ولكنها يجب أن تفسر بشكل معاصر. وهذه الأشكال الكتابية الجديدة في الأدب تقع أيضا في دائرته ويتحتم علينا الإهتمام بها. ورأى أينغدال أن مفهوم الأدب ديناميكي يتغير عبر الزمن وتطور الأشياء. مما يتوجب على الاكاديمية ولجنة نوبل متابعته:
"يجب علينا نحن في لجنة نوبل متابعة هذا التطور ولا يمكن أن نظل منشدين الى أدب مثالي عمره مائة عام، مؤطر بالشعر المقفى والرواية حول أشخاص من صنع خيال الكاتب. وأن الشعر يجب أن يكون مفهوماً، بل علينا أن ننظر الى الأدب كما يُنظر له في الواقع اليوم هنا وفي بقية انحاء العالم".
وحسب ما ذكر أينغدال فأن الفرد نوبل لم يكن يقصد بوصيته، فيما يتعلق بالأدب، كاتب الرواية او الشاعر او كاتب الدراما، فقط، بل وايضا الباحث والمؤرح والفليسوف، لكن جوائز نوبل خلال المائة سنة ونيف الماضية ركزت كثيراً على الرواية لأنها أكثر الأعمال الادبية شيوعاً ، ولم تمنح الى كتاب خارج الفهم التقليدي للادب، سوى لخمسة اشخاص فقط، ثلاثة فلاسفة ومؤرخين، ذلك حين منحت الى ادولف اويكن، فيلسوف الماني وهنري برسون، فيلسوف فرنسي، والى بريتراند راسل، فيلسوف بريطاني وونستون تشرشل، مؤرخ بريطاني وتيودور مومسن، مؤرخ الماني.
لكن اليوم ليس ثمة فلاسفة أو مؤرخين، قال هوراس اينغدال، اليوم هناك كتاب شهود على عصرهم، ويبدعون في عرض الواقع، عبر أساليب كتابية مختلفة مثل التقارير الأدبية والسير الذاتية وأدب الرحلات وحكايات شهود العيان وأدب الذاكرة. هذه الاشكال المتعددة في الكتابة التي لا توجد فيها حدود واضحة بين الواقع والخيال عندما تستخدم فيها أدوات الأدب للكتابة عن شيء واقعي وعن تجربة معاشة. هذه الانواع من الكتابة اصبحت لها اهمية كبيرة في العقود الاخيرة. أهميتها تكمن في أن سقوط الأنظمة الشمولية والديكتاتورية حتم مسألة الكتابة من الذاكرة عما كان يحصل، والأمر الثاني هو الرغبة الواسعة في وصف العالم.
وهذه الأشكال الأدبية الجديدة هي اليوم أهم مما كان عليه الامر قبل خمسين عاما. فقبل نصف قرن من الزمان كان من المسّلم به مكافأة كتاب الرواية، لأن الرواية كانت في ذلك الوقت في مركز اهتمام الحياة الادبية. ربما اليوم أدب الرحلات والمقال الأدبي الفني والتحقيق الصحفي، هي التي تقف في مركز الاهتمام. هذا بالرغم من ان الرواية مازالت موجودة وتتطور. حسبما عبر هوراس إينغدال الأمين العام السابق للأكاديمية السويدية، لكن اليوم تضيف لجنة نوبل في الأدب فرعاً جديداً يدخل في إطار منح الجائزة وهو الشعر الغنائي.