دراسة موسعة للجناس في الابوذية * (القسم الثاني) / د. هاشم الفريجي

والشاعر حميد ملا سلمان الشكرچي قد جارى وولد بيته من بيت الفصيح:
عَيَّرَتْنِي بِالشَّيْبِ وَهْوَ وِقَارُ
لَيْتَهَا عَيَّرَت بِمَا هو عَارُ
والشاعر عبد الكريم العلاف جارى في بيته البيت الفصيح التالي:
زَرَعْتُ الْمَجْدَ في وَطَنِي
وَغَيْري قد جَنَى الثَّمَرَا
وهذا يدفعنا الى القول: إنَّ كثيرا من الأبيات المولدة والمجارية للفصيح تأتي متكَلَّفة وعسيرة الولادة. حيث يحاول الشاعر إقحام المعاني وحتى الكلمات الفصيحة في بيته فيأتي البيت في كثير من الأحيان مشوَّها، على عكس الأبيات المُطْلَقة التي ينظمها الشاعر من معاناته بعيدا عن تأثيرات الآخرين وبعباراته العامية التي يتعامل بها يوميا.
أضف إلى ذلك أنَّ الشاعر حين يجاري او يضمن بيته شيئا من الفصيح يكون مُطالَبا بنقل الصورة في الفصيح إلى الشعبي بما في ذلك محاولة معايشة واقع شاعر الفصيح الذي يبعد عنه زمانا ومكانا ومشاعرا، الأمر الذي يثقل كاهله ويضعه أمام مسؤولية أخرى تعرضه إلى النقد واللوم إنْ هو أخَل بذلك. كما يجعله مقلِّدا لا مبدعا حتى لو نجح في مهمته. وسوف نمر في بحثنا هذا بأبيات أخرى نضربها دليلا على صدق هذا الاستنتاج. لكن ذلك لا ينطبق على كل الأبيات المجارية والمولدة من الفصيح، إنما يعتمد الحال على ذكاء الشاعر وحسه وبديهته.
فهناك الكثير من الأبيات المولدة التي تتمتع بصور رائعة ربما تفوق حتى صور الشعر الفصيح الذي وُلِّدَت منه.
يقول الشاعر عبد السادة العلي العماري مجاريا ومولدا بيته من قول الشاعر:
دَع عَنْكَ ذا السَّيْفَ الذي جَرَّدْتَهُ
عَيناكَ أمْضَى مِن مَضَارِبِ حَدِّهِ
كُلّ ُالسّيوف قَواطِعٌ إنْ جُرِّدَت
وَحُسَام لحظِكَ قاطِعٌ فِي غِمْدَهَ
فيقول في هذا البيت:
إصْبَي عَيْنِي ابْصِدُوْدَك فِگد وَمْضَه
إوْ جِفَى بِجْفَاك طَيْر السَّعَد وَمْضَه
أحَدّ لَحْظَك إمْنِ الصِّمْصَام وَمْضَه
وَلا حَاجَه تِجِر سَيْفَك عَلَيَّه
فقد أصاب المعنى وأجاد الجناس المفرد التام الذي لا يحتاج إلى شرح ولا تعليق لفهم معانيه.
وهذا هو الذي يجعلنا نُقِر بالفضل وقَصَب السَّبْق لهؤلاء المبدعين ونعاتب غيرَهم او ننتقد جناساتِهم التي يخرجون فيها عن أصول اللفظ العامي الدارج. البيت التالي بجناس مفرد لفظي رغم انه من مقطعين:
إلْهَوَىْ ايْفَرْهِدْ ابْعَگْلِيْ وَانَا حَـامِيْ
تِشِـبْ نِيْــرَاْنْ هَجْـرَكْ وَانَا حَـامِيْ
بِيَّـهْ الخَيْـلْ تِطْـرِدْ وَانَا حَـامِيْ
طِلَبْتِ المَنِعْ لاگَتْنِيْ السَّرِيَّهْ
لأن (وَانَا) أتت بنفس المعنى في كل الجناسات وتعني وأنا. وفي الشطر الأول يستولي الهوى على عقله ويأخذه عنوة (ايْفَرْهِدْ) دون أنْ يتمكن من منعه. فيبقى يحوم مثل الطير التائه لا يجد مستقرا أو مكانا يأوي إليه (وَانَا حَـامِيْ)، وهو يقصد (وَانَا أحَـومِيْ) فيقلب واو الفعل ألفا.
وفي الشطر الثاني تصف نيران الهجر التي تشب فيه فتتركه حاميا أي ملتهبا بنار الشوق.
وفي الشطر الثالث تطارده الخيل وهو يدافع وأراد منع نفسه من الأسر أو القتل فلاقته سرية من خيول المقاتلين. وهو يكني بذلك عن صراعه مع الحب الذي لم يتمكن من الصمود بوجهه.
الجناس المفرد الناقص
وهو جناس مكون من مقطع واحد وقد اختلفت بعض حركاته أو حروفه. لاحظ جناسات هذا البيت للشاعر السيد إبراهيم وفي:
حَكَّم سَيْفَك الغَدّار حَكْمَه
ابْگلْبي إوْ لا بَقَت للصَبُر حِكْمَـه
كِل الْلِّي تِولَّى جَار حُكْمَـه
وانَا العَاشِچ إوْ حكْمَك جَار بيَّه
فالأول (حَكِّمْهُ) أي اجعله حكما والثاني (حِكْمَة) أي رأيا حكيما والثالث (حُكْمُهُ) أي قرارُهُ. والشاعر استخرج جناساته جميعا من الفعل حَكّم فاتت كأنما لها معنى واحد (مكرر). وتلاحظ اختلاف حركة جناساته باختلاف حركة حرف الحاء التي جاءت في الأول مفتوحة وفي الثاني مكسورة وفي الثالث مضمومة. ولو كانت جناساته تامة لامكن وضع أحدها مكان الآخر
فكلمة حِـكمة ليست مثل حُـكمَه ولا مثل حَـكْمَهْ، وهذا هو الجناس الناقص بسبب الحركات
أمَّا في البيت التالي للشاعر ملا صنكور الفلاحي:
هَويْنَه الْلَّي سِبَى عَگْلِي هَويْنَـه
ابْتِشَرْنَا إوْ كلِّنَا ابْشَوْگَه هِويْنَه
بَرِض گفْرَه ابْجِليْب اظْلَم هُويْنَـه
إلْخُروْج إشْلون يَهْل البُصِر بِيَّه
وينسب أيضا لحسين الكربلائي وهو يجاري قول الشاعر:
دُخوُلُ الْمَرءِ في الشَبَكاتِ سَهْلٌ
ولكنَّ الصُعُوْبَةَ في الخروجِ
فلاحظ هنا انك لا تستطيع وضع جناس مكان آخر فكلمة (هَوَيْنَه) الأولى بفتح الهاء تعني (هذا هو) والثانية بكسر الهاء (هِوَيْنَه) تعني أحببنا، والثالثة بضم الهاء (هُوَيْنَه) تعني سقطنا.
وللشاعر حسين الكربلائي:
يَنَاهِي الْحِسِن كِلَّه مَالِك إنْتَه
إوْ گلْبِي فَوْگ حِسْنَك مَالَـك إنْتَه
إتِجبْجب مِن خَيَالِي مَالَك إنْتَه
وَلا چن مِن گبُل چَاسِر عَلَيَّه
والجناس هنا مفرد لأنَّ الكلمة الأخيرة (انْتَهْ) أتت متماثلة في كل الجناسات وتعني أنت.
وجناسه الحقيقي هو (مالِكْ) الذي يسبق كلمة (انْتَهْ) وبذلك يكون جناس البيت ليس في (نهايته) كما هو واضح.
أمَّا معانيه فهي: (مالِكْ) من المُلْك في الشطر الأول هو مُلْكُك، وفي الشطر الثاني (مالَكْ) هو لك وحدك، والأخير (ما لَكْ) ماذا دهاك. وتلاحظ أنَّ الجناس ناقص لأنَّ حرف اللام في الأول جاء مكسورا وفي الآخرين جاء مفتوحا.
وكثير من الجناس يبدو من نوع التام (لفظيا) أي أننا نلفظها كما هي مكتوبة في البيت ولكن لفظها في العامية (خارج الشعر) يختلف، إذ نجد فيها حرفا زائدا او ناقصا او مشددا او بحاجة إلى تشديد او أنَّ أحد حروف الكلمة يسبق الآخر وهي بذلك ليست جناسا تاما إضافة إلى اختلاف حركات أحرفها. إنَّ استعمال حرف الهاء مخففا مثل الفتحة تارة ومثل الألف تارة أخرى وكحرف الهاء التام هو الذي يخرج بعضا من الجناسات من كونها تامة، كذلك إدخال حروف العلة زيادة على المفردات وخصوصا الألف والياء. وهذا البيت الرائع:
أهَلْ هَلْ وَكِتْ بَاْلَكْ تِمِّنْ ابْهُمْ
إدْنَانْ إوْ عَيْبْ يِحْصَلْ تَمَّنْ ابْهُمْ
ثَلاثَهْ امْنِ الخِصَايِلْ تَمَّنْ ابْهُمْ
الچِذِبْ وِالفِتَنْ وِالشُّوْفَهْ الرِّدِيَّهْ
وجناسه مفرد ناقص رغم كونه من مقطعين (تِمِّنْ ابْهُمْ) لأن المقطع الثاني له نفس المعنى في الجناسات الثلاثة (بهم).
وفي الشطر الأول يحذرك (بَاْلَكْ) من أنْ تأمن بأهل هذا الزمان.
فهم (إدنَانْ) وهي حبوب صغيرة عديمة النفع تنبت مع الرز فإذا طغت عليه يكون محصول الرز قليلا عند الحصاد، فيصفهم الشاعر بأنهم (إدنْانْ) عديمو النفع. وقد تمت بهم ثلاثة من الخصال هي الكذب والفتن وطلعتهم الرديئة (وِالشُّوْفَهْ الرِّدِيَّهْ).
وهو مفرد ناقص بسبب اختلاف حركة التاء في الجناس الأول حيث جاءت مكسورة بينما هي مفتوحة في الأخيرين.
2- الجناس المركب وأقسامه
الجناس المركب التام
وهو جناس مكون من مقطعين أو أكثر في الكلمة الواحدة وقد تشابهت حركاته وحروفه كقول الشيخ راضي علي بيج النجفي:
إلْحِسْن خَصِّ الجنابَك وِنْتَمَالَك
إوْ تِظِن انْشُوْف شَخْصَك وِنْتَمَالَـك
آنََا ابْحَث ابْوَصْلَك وِنْتَمَالَك
تِدَوَّس بالجِفَا وِالگَطِع ليَّه
فالأول (انْتَمَى لَكَ)، والثاني (ونْتَمَالَـكْ) وَنَتَمَالَك انْفُسَنَا، والثالثُ (ونْتَ مَالَكْ) وأنت ماذا دهاك.
وبيت الشاعر السيد حسين الكربلائي:
إشْحَلاتَك يَا تَرِف عِدِّي وَشَـبْهَاك
صِرِت بِالحُوْر أوَصْفَنَّك وَشَـبْهَاك
دِوَى چانُوْنَك ابْگلْبِي وَشَبْهَاك
جِس نَبْضِي تِجِد نَارِي سِرِيَّه
فجناسه الأول (وَشَــبْهَاكْ) مكون من وأي شِيء أبْهَاك، وهي صيغة تعجب المقصود منها ما أبهاكَ، والثاني (وَشَــبْهَكْ) اشبِّهُك وقد أضاف لها الشاعر حرف الألف لإتمام جناسه ووزنه،
أمَّا الثالث (وَشَــبْهَاكْ) فمكون من مقطعين هما (وَشَب هَاكْ) ويعني أنَّ موقد نار الغرام الذي استعاره الشاعر قد شَب في قلبه، ثم يقول (هاك) وهو اسم فعل أمر خُذ بيدي وجُس نبضي لتعرف النار التي تسري في جسدي كما يعرف الطبيب الحمى عند جس نبض المريض. والشطر هذا مدور مع الشطر الذي يليه (هاك-جس نبضي).
وهذا البيت للشاعر الملا عوده الحمدي بجناس مركب تام:
إشْهَل غَيْظَه يَنَاهِي مِنْكَرَاهَا
إبْزَعَل لُو تِصِد عَنِّي مِنْكَرَاهَـا
إجْفُوْن الْعَيْن عَيَّت مِنْكَرَاهَا
إوْ حَيَاتَك مَا تِضُوْگ الْنُّوْم هِيَّه
وجناسه الأول (منْكَ رَاهَا) يعني مِنْكَ أراها وهو يعاتب حبيبه (الناهي) الذي هو في منتهى الحسن عن الغيظ الذي يراه منه.
وفي الشطر الثاني يسأله إنْ كان ذلك بسبب الغيظ أو (من كَرَاهَه) أي من كراهة.
وفي الشطر الثالث يشكو من أنَّ جفنيه (إجْفُوْن الْعَيْن عَيَّت مِنْكَرَاهَا) قد أصابها الإعياء من نعاسها.
ولاحظ أسلوب العتاب المشوب بالشكوى والمفعم بالمعاناة التي حرمت عينيه النوم في صورة رائعة استعارها لجفنيه وما يعانيه من سهر. و (عَيَّت) تعني تَعِبَتْ.
ولكن البيت التالي للشاعر الحاج زاير الدويج له جناس مفرد تام رغم انه مكون من كلمتين:
جَلَوني جَلْيَة الْگَهْوَه عَليْمَار
نَحيْل إوْ صَار مَشْرُوبي عَليْمَـار
يُومَن سَار مَظْعونَه عَليْمَار
غِدَت شَمْس الضَحَى ظَلمَه عَليَّه
وذلك لكون جزئِه الأول وهو (عَلَيْ) متشابه في جميع الجناسات فالأول: (عَلَى ايْمَار) وأيْمَار جيمه مقلوب ياء وأصله (أجمار) وهو جمع جمرة فيشبه حاله بحال حبات القهوة التي تقلى على الجمر.
والثاني: (عَلَي مَارْ) عَلَي مُرٌ، والثالث (عَلَيَ مَرَّ) عَلَي مَرَّ. فعلى الرغم من تشابه الجناس هنا لفظا وكتابة إلا أنَّ المعنى الحقيقي لها ليس كذلك؛ وهذا ما أسميناه (الجناسَ التامَ اللفظي) وذلك للأسباب التالية:
فالأول هو (على أيمار) وهي جمع (يَمُرْ) أي جمر وجمعه أجمار، والثاني (علي مَار) وهو يقصد (عَلَيَ مُرٌ) وترى الميم مفتوحة والألف زائدةً، والثالث (علي مار) وهو يقصد (عَلَي مرَّ) وترى الميم مفتوحة والألف زائدة أيضا.
فنحن لا نلفظ هذه الكلمات مثلما يقولُها الشاعر في جناساته، فظاهره تام في حين أنَّ معانيه تدل على كونه ناقصا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) تنطبق هذه الدراسة للجناس على جميع مجنسات الشعر الشعبي العراقي
بعض هذه الجناسات خاصة بالشعر الشعبي من استنتاج الباحث.
يرجى الاشارة الى الباحث والمصدر عند النقل او الاقتباس