24 شباط عام 1944: ولادةُ مسرح عراقي/ غازي سلمان

ليس اعتباطا أن يختار أحدٌ ما تاريخ ميلاده بنفسه ، خصوصا حين يكون مبدعا قُدّر له ان يصوغ ملامح فن مسرحي عراقي، وان يكون أحد أعمدته التي ستبقى باسقة خالدة وإن ذوى الجسد.
يختار يوسف العاني 24 شباط 1944 يوما لميلاده، تاريخ أول وقفة له على خشبة المسرح بمسرحية ذات فصلٍ واحد من تأليفه وإخراجه (ضمن نشاط جمعية العلوم في الثانوية المركزية ببغداد) متناسيا ميلاده المدون في وثائقه الرسمية وهو 1 تموز 1927، وسوف يتذكر ميلاده الجديد ويحتفي به طيلة أكثر من سبعة عقود دون ضجيج رسمي.
ادرك منذ البدء ان هذا التاريخ ليس مناسبة للاحتفال بمناسبة ارتقاءه خشبة المسرح، بل بمواصلة العمل لتحمل مسؤولية جسيمة هي المسرح، ويدرك طالب كلية الحقوق ان المسرح يحتاج الى فرقة والفرقة الى مكان عرض ولابد من جمهور قبل كل شيء، فكان أن أسّس "جمعية جبر الخواطر" وكان معه نزار سليم وهاتف الرحال وآخرون، واستمراره في الكتابة المسرحية والمشاركة في التمثيل لمسرحيات عديدة، ثم بتأسيس فرقة المسرح الفني الحديث بمعاونة رفيق عمره ابراهيم جلال عام 1952. اضافة الى نشاطاته في السينما العراقية.
ماذا يعني كل ذلك التخطيط الممنهج لبناءِ مسرحٍ الاّ الإيمان بقدرته على التغيير والتثوير ونشر الغسيل القذر للنظام؟
لا يخالجني شك في ان يوسف العاني قد وضع نصب عينيه مقولة لينين "اعطني خبزا ومسرحا أعطيك شعبا مثقفا"، لقد أدرك العاني منذ البدء مسؤوليته كفنان وكاتب وقبل كل شيء كانسان عراقي، وحين تيقن انه يمتلك الشرط الثاني ليقدمه إلى جمهوره، لم يبخل عليه، فبات يستقطبه الى خشبة المسرح، الوجه الاخر للحياة الواقعية، مدرسة الضحك والدموع، مدرسة انعاش الوعي الانساني، متفهمٌ بشكل مبكر اشكالية العلاقة بين الجمهور والمسرح، بين الفنان المسرحي والمتلقي، والمتلقي العراقي الذي ترسبت لديه ذائقة من نوع خاص تمتد ذاكرتها الى عصور بابل واشور وسومر وطقس "التشابيه" في العراء، وهي مسرحة قصة استشهاد الحسين بن علي في كربلاء". انها ذائقة غنية بالموروث ومحكومة بالخلفية الثقافية والمعرفية اللذين يصوغان وعيه"، يقابله العرض المسرحي كنص أدبي، وتجسيده تمثيلا من قبل الممثل حامل الخطاب "النص". فذا هو مسرح الراحل يوسف العاني ادرك ما يهم المتلقي العراقي، وموروثه الحضاري السحيق، ادركه في ظرف تاريخي معين، متعرفا على رغباته الدفينة، وحاجته الملحة في التعبير والمجادلة ليصل يوسف العاني اخيرا الى مبتغاه، الى خصوصيات المتلقي، وقد سهلت عليه كاريزماه الساخرة بنكهتها العراقية الساخرة، والتي تجسدت في اعماله المسرحية او في النصوص الدرامية الاخرى، او في الشخوص التي مثلها في السينما والمسرح مع انحيازه المبكر إلى اليسار العراقي، فتوفرت في مسرحه كل الشروط الموضوعية للمسرح المنحاز للشعب.
لم يكن ليقدم ابداعه إلى نخب سياسية خاملة، بل قدمه إلى الجماهير المتعطشة للمعرفة، متقدما بها الى عمق واقعها، بلغة مسرحية مكتنزه بالعاطفة والحب والتأثر، يتفاعل فيها الفكري والشعبي وماهو طاف على السطح والغائر عميقا في الوجدان وفي الواقع المعيش آنذاك.
فكان صوت الفنانة زينب يخترق جدران قاعة المسرح صارخة "آنه امك يا شاكر"، متفاعلا بتناغم مع الحماس الجماهيري والفورة الشعبية ضد الاحتلال البريطاني . في هذه المسرحية عَمد يوسف العاني الى البساطة والوضوح، بعيدا عن الترميز، في محاولة للولوج الى عمق متطلبات مرحلة التثوير والتنوير انذاك، وقد كان تاريخ كتابة المسرحية عام 1954 هي تلك الفترة التي حدثت فيها مجزرة سجني بغداد والكوت،
انها محاولة لخلق أمٍّ عراقية رديفة لأم روسيا في رواية غوركي ولأم المانيا في مسرحية الأم الشجاعة وابناؤها لبرتولد بريشت. وقد تحقق ذلك.
يقول الشاعر الفريد سمعان مستذكرا يوسف العاني في اصبوحة المدى في 5 ايار 2012:
"وعرفت يوسف العاني أيضاً في مسرحية آنه امك يا شاكر، وأتذكر عندما حضرت المسرحية خرج في الليل بعد انتهاء المسرحية وخرجت تظاهرة في قاعة الشعب المجاورة لوزارة الدفاع".
استطاع يوسف العاني في كل اعماله المسرحية والاعمال الدرامية الاخرى ان يجعل نصه الواقعي متوافقا مع الكوميديا والكوميديا السوداء احيانا، من خلال التضاد بين موقفين او اكثر. بعدما كان المسرح العرقي يتعكز على الوقائع التاريخية او الموضوعات الرومانسية التي كبلت حركة المسرح نحو الانطلاق، ليضيف العاني إلى المسرح العراق أنساغا جديدة. واعتبرت تلك المرحلة مرحلة التأسيس للاتجاه الواقعي في المسرح العراقي
بعد ثورة 14تموز 1958، اجيزت "فرقة المسرح الفني الحديث" مرة اخرى للعمل والتي سبق وان سحبت منها لاسباب سياسية في عام 1957، فقدم "فنان الشعب" إلى حكومة الزعيم عبد الكريم قاسم قانون مصلحة السينما والمسرح :"لقد قدمتُ قانون السينما والمسرح في عام 1959 وقدمه فيصل السامر إلى الزعيم عبد الكريم قاسم فوافق على تأسيس السينما والمسرح، وكتب هو: على أن يكون الفنان يوسف العاني مديرا عاما وقد بقيت مديرا لمدة ثلاث سنوات، وقد أصابني إحساس في ذلك الحين بخسران جزء من مهمتي، ولكن بعد شهر من تركي وظيفة المدير، ظهرت على المسرح "بالجراوية" ومثلت حتى لا يقول البعض ان الوظيفة أخذت يوسف العاني، لقد ضاع مني في الوظيفة الكثير من الأشياء".. "يوسف العاني: اصبوحة المدى 5 أيار 2012".