صانع البهجات قراءة في شعر علي حسن الفواز / د. جاسم الخالدي

يبدو أنه من الصعب أن نلمَّ بأطراف اشتغالات الشاعر والناقد" علي حسن الفواز"؛ أولاً لتعددها، وتنوعها، ومن ثمَّ لتقدمه في التجربة شعراً ونقداً واعلاماً.
ولذلك سوف نقتصر في هذه الورقة على تجربته الشعرية، عبر إنموذج من شعره، وهو ديوانه: الواح الحضور الواح الغياب، الصادر عام 2014م.
إنَّ الحديث عن تجربة عليِّ الفواز يعيد الى الأذهان، ثنائية "الشاعر/ الناقد"، الذي توقف عندها النقد كثيراً، وانقسم بشأنها النقاد بين مؤيدٍ يرى أنَّ الشاعرَ هو الناقدُ الاولُ لنصه، ولا عجب إذا ما استهوته تجربة شعرية، فوقف عندها بعين الشاعر، وبأدوات الناقد، ويحاول ان يعطي أمثلة كثيرة قديمة او حديثة عن وجود شعراء مجيدين، ونقاد مجيدين في الوقت ذاته.
كلا الجانبين لهما مسوغاتهما وحججهما، لكن ما أوّدُّ قوله إنَّ كلامَ الفريق الثاني قد يصدق على شعراء بعينهم، ممن يفتقدون الموهبة النقدية، والقدرة على الغوص في عمق النص الشعري، لكن لا يصدق على شعراء آخرين ولدوا ليكونوا شعراء ونقاداً في آن واحد، وربما تأريخنا العربي قديماً وحديثاً حافل بأسماء كثيرة، نذكر منهم على سبيل المثال: علي جعفر العلاق، حاتم الصكر، محسن اطيمش،سامي مهدي، خالد علي مصطفى، علي حداد، عباس اليوسفي، رحمن غركان، وعلي حسن الفواز. وغيرهم. مع ملاحظة أنني غيرُ مهتمٍ إذا ما تباينت اشتغالات الشاعر/ الناقد، إذا ما غلب النقد على الشعر، او الشعر على النقد، ما يهمني أن النقد قد تولد في الشاعر او غير الشاعر.
وأياً كان الموقف من التجييل الشعري، وأهميته عند دراسة أي ِّ شاعر، فإنَّ من المهم معرفة الحقبة الزمنية التي برز فيها صوت" علي حسن الفواز" شاعراً؛ لأن ذلك مهم في تفسير كثير من الظواهر الشعرية الفنية التي انمازت بها قصيدته، وجعلته واحداً من الشعراء الذين يُشارُ إليهم حين الحديث عن الشعر العراقي في الثمانينيات.
ولذلك جاءت قصائده الأولى، بفعل الحوار اليومي الذي توفّر له من خلال الجو الأدبي العام". وهذا يمنح أية تجربة شعرية أصالة وعمقاً، فضلاً عن أنه جعل تجربته الشعرية تحيل عليه لغة واسلوبا ومضموناً، ولعل ذلك يعود إلى جملة خصائص أسلوبية انماز بها شعره، من بينها لغته المائزة عن كثير من شعراء جيله أو غيرهم، اللغة التي تتساوى لديه كتابة وحديثاً، فلا تجد فرقاً بين ما يكتبه أو تسمعه في حديثة العادي.
ولكي يكون كلامنا المتقدم مدعوماً بالأمثلة الشعرية، فإننا نقف عند نماذج من مجموعته "الواح الحضور/ الواح الغياب" الصادر عام 2014م.
العتبة الأولى التي تصادفك وانت تدخل إلى قصائد هذا الديوان، تجد أنه " كتاب اهداءات" بحسب وصف الشاعر نفسه، بعضها مهداة إلى اصدقائه الأحياء أو الأموات، لكن الطريف في الأمر، أن الأولى لا تختلف عن الثانية، فكأن الحياة والموت يستويان عند الشاعر، فلا رثاء ولا بكاء؛ بل هي قصائد تعرية للواقع الإجتماعي الذي كان سبباً في انطفاء جذوة الأبداع ، وتوقّف دورة الحياة لديهم.
فضلاً عن ذلك، إذا ما انعمنا النظر في أسماء المُهدى إليهم، فإنَّهم يتوزعون المشهد الشعريّ العراقيّ والعربيّ، على أجيال مختلفة ، وأجيال متنافرة؛ لكن الفواز بما يملك من قلب ابيض نجح في جمع هذ الاسماء في ديوان واحدة وقصائد متعافية، يمكن ان نطلق عليها " متوالية شعرية" بمعنى انها كلها تنتظم في موضوع واحد، ولغة تكاد تكون واحدة من حيث الانزياح والتنوع، والاستعارات والتشبيهات التي تبدو للقارئ متنافرة أو متضادة؛ لكن حين تنظر إليها في سياق القصيدة كلها، تبدو مقبولة، ومتسقة مع عموم تجربة الفواز الشعرية والثقافية التي لم تكن بعيدة عن مرافئ الفلسفة أيضاً.
وهذا يدعونا إلى الحديث عن لغة الفواز التي تشتغل على المجاز والتشفير والرمز والاستغراق في التأريخ إلى حدٍّ كبير، إذ تتحول القصيدة لديه الى مجازات كبرى، بمعنى أن قصيدة الفواز ليست ومضة تنتهي بضربة شعرية؛ بل هي قصيدة لا تُعرف فلسفتها إلا اذا انهيت قراءتها. فلو وقفنا على قصيدته "أيها الدلموني ما تبقى هو الكلام"، لوجدنا شغف الفواز بلغته إلى حد تبدو الصناعة طاغية عليها، عبر تتابع المجازات، وتعدد التشبيهات، وتنوع الاشتغالات. يقول الشاعر:
عند آخر الجهات تعلن العصيان
على العمر والقصيدة والمرايا
تركبُ عكازك الباذخ مثل بساط الساحرات
ترشُّ الاخطاء على تفاحات آدم
إذ تدعو إلى أنوثة باردة
وغوايات لاخطائنا الطازجة
وخياناتنا الانيقة...
يفصح المقطع الشعري عمَّا بيناه أعلاه، وانتهينا من وصفه، فالجهات تعلن العصيان، وهو يركب عكازه الباذخ مثل بساط الساحرات، ركوب العكاز، قد لا يشبه بساط الساحرات، وترش الاخطاء على تفاحات آدم، مع ان التفاحات هي رمز الاغواء، لكن الفواز عكس هذه الصورة، وخياناته على غير العادة انيقة، أية مخيلة تستطيع أن تجمع بين هذه التناقضات لتولد صورة شعرية محبوكة.
ومن جانب آخر، فالفواز حين يحاور قاسم حداد، فهو يحاول تعرية الواقع العربي الممزق، وابعد من ذلك، الإنسان بشكلٍ عام، فهو يعيش زمن الحروب والحصارات والقتل لذلك، لا عجب أن تتحول المدن من طاردة- كما وجدناه عند شعراء الخمسينيات والستينيات- إلى مدن مطرودة، ومفتوحة لإحتلالات متعددة، ولم يجد ما يماثلها سوى أبنائها، الذين توزعتهم الأمكنة، ما تبقى للشاعر، وهو يعيش المحنة، هو الكلام، بعد أن صارت الارصفة، ملاذاً للجلود المكشوفة، والمقصية عن وطنها.
بإزاء هذا الوطن المعطوب والعاطل من كلِّ شيء، لم تبق للشاعر، سوى لغته التي يحاول أن يحلمَ بها وطناً خالياً من كل عطب:
مدننا مطرودة كابنائنا الضالين
مكشوفة للغزاة
صالحة لتناسل القطط والاكاذيب والعسس الليلي
ما تبقى هو الخطوة الباردة
هي الارصفة الشاحبة
هي الجلود المكشوفة
للتأويل والفؤوس والحروب الصغيرة
فهل لنا ان نصنع اوطانا مغلقة كالصناديق
وطيبة كالفقراء
وهل هناك أوطان عاطلة لا يجسها البرابرة
أو أوطان مكثفة لا تمشي.
فمعجم الفواز لا يشبه الا الفواز نفسه، فهو يكاد أن يتكرر في كل قصيدة ، ولكن بنسيج اخر لا يشبه النسيج السابق، انها لغة الشاعر، الشاعر الذي خَبَرَ المعاجم ، وانتخب منها ما يتساوق مع تجربته الحياتية، التي تشتبك فيها الأشياء إلى الحد الذي تبدو فيه خالية من المعنى، لكنها ممتلئة بروح الشعر وبأسراره العصية على البوح.
قصائد الفواز كلها مراث، مراث الحياة والموت، مراث الوطن المطرود من نعم الحياة، الذي ما إن يخرج من حربٍ حتى يقعَ في شباك أخرى، أنها لعبة الحياة والموت، ولعبة الوجود والامحاء.
فاستحضار روح محمد القيسي لديه يستدعي منه الإبحار صوت تخوم الماضي؛ ليوقظ الكنعانيين من نومتهم الطويلة، المستغرقة في الماضي، ليبكِ حالة "الامحاء والفقد" التي اصابت الوطن المعطوب:
ماذا تبقى من الوقت الأبيض
لتبادلنا الساعات السود،
أوهامنا الباردة
ماذا تبقى من السلالات الكنعانية
ليبادلنا التتار والترك والفرس والانكليز
أوهامهم الرثة
وترتفع لغة الفقد أكثر، حين يجعل "محمد القيسي" يرتدي قناع الكنعاني، ليخاطب بهذه اللغة المفجوعة:
ما تبقى سيدي الكنعاني
هي اسماؤنا الضالعة بالفضائح والمرويات
ولا نعدم في هذا النص، على الرغم من كونه نصاً رثائياً، انساقاً مضمرة كثيرة، يمكن ان تنهض بدراسة مستقلة، لما ينطوي عليه من رغبة الشاعر الملحمة من تسليط الأضواء على القبحيات، وإظهار خيبات الحياة، وتعريتها، ووفتح صدر التاريخ لمحاكمته أو فضحه، والدعوة إلى التمرد عليه، فالوطن لدى الفواز- دائما- موضع اتهام، وسبب مقدم لتعاسة الإنسان العراقي:
كان الوطن كالحانة بارداً، نعساناً
لجوجاً في السكرة والمدائح
وكان الحمقى السكارى يركضون إلى اليافطات
من كل هذيان عميق
كنت تكتب ببلاهة غريبة
تكتب ما تشاء عن الوطن والنساء
هيمنت مفردة الحرب ومشتقاتها، على عموم قصائد الديوان، المهداة الى سعدي يوسف مثلاً أو كزار حنتوش، ونعيم عبد مهلهل وآخرين. بل اكاد أجزم ان هذه المفردة قد طبعت حتى قصائده الاخيرة التي كانت عودة إلى الحب والرومانسية؛ ولكن ليست رومانسية المخذول والمنكسر؛ الرومانسية المزكرشة بالوعي، والمعرفة بالمرأة لا بوصفها حبيبةً مثاليةً، بل كائن يشارك الآخر أشياءه وموجوداته.
حتى ألفت صورة الحرب الضلع الاخير من مربعه الشعري ، او من مجموع اشتغالاته سواء أفي هذا الديوان ام دواوينه الاخرى، واقصد التاريخ، والمرأة ، والجسد، و والحرب، حتى امتزجت الصورتان: الحرب والحياة في بوتقة واحدة، ويمكن ان نمثل ذلك في قصيدته المهداة الى حاكم حبيب حسين، التي منها:
كلما جاءته الحرب
ارتدى قميصه واحلامه
وهرب من النافذة...