ابو وليد "سفاح عبدالكريم" شاعر القصيدة التأملية الاكثر جدلاً وتأثيراً / عبدالحسين خلف الدعمي

أبو وليد، الباحث عن وطن يتنفس من رئته الحرية ومن وريده الحياة في زمن عاهر ومكان آسن وكأني أشعر بانه متأثر بكلمة الشاعر نزار قباني التي قال فيها "اني اشم رائحة المسك تفوح من جثث الاعداء" لغبطته بالنصر ولشماتته بهم.
وهكذا هو حال الشاعر المحتفى به عبر اكثر من اربعين عاماً وجدته ساعياً وراء كل فضيلة وقبل أن ادخل في مقتضيات اخرى عن صديقي الشاعر لابد من التوقف قليلاً عند الشعرية الشعبية العراقية فالمتأمل فيها او المتصفح لها لابد وأن يتوقف عند الكثير من محطاتها المهمة فخارطة البحث المنهجي فيها مترامية الاطراف، والالمام بها يتطلب الدقة والجهد والمثابرة بعيداً عن الأنا والمحاباة على حساب الامانة العلمية التي تتطلب من الباحث اولاً أن يكون حيادياً منصفاً ومن ذوي الخبرة الواسعة والاطلاع ليتمكن من الاشارة الى مواطن التفرد والرصانة أو الوهن "أي الركاكة والخلل" دون استحياء وذلك لا يتأتى الا لحركة النمو والتوهج. النمو حتى قطاف الأثمار من اغصانها. والتوهج هنا يعني الافصاح عن مكنون الذات من خلال التأثير في بعض زوايا المشهد الثقافي المضبب في اغلب الأحيان ولكي يقال ان فلاناً الذي توهج نتاجه ووصل الينا شعاعه يمكث هنا وهناك. ومن المسلمات التي أود الاشارة اليها لنتعرف من خلالها على عناصر التوهج المستمر والتي أراها مهمة بأن يطلع عليها ذو الشأن في هذا الضرب من الأدب وهي:
اولاً/ الموهبة/ وهذه لا دخل للانسان فيها ابداً وهي ما يسميه او يطلق عليه البعض بالشيطان او العقل الباطن او اللاوعي. وانا اتحفظ ازاء هذه التسميمات بل أقول هي موهبة الالهام الرباني.
ثانيا/ الثقافة الاجتماعية/ وهي أن يعي الشاعر انه مسؤول عن أي نص يكتبه او يتحدث به ويحرص على ان يكون ملتزماً بالاعراف الاجتماعية مؤثراً في وسطه من خلال حسن السيرة وصفاء السريرة دون المحاباة او التنازل عن شخصيته الذاتية أو على حسابها وتلك معادلة صعبة التطبيق ولكن يمكن للشاعر ان يحققها من خلال الترويض والممارسة. وخلاصة القول يجب أن يكون اجتماعياً من الطراز الاول وكيساً وغير مبتذل لا يسوق او يحاول التسويق لنفسه بل يدع الآخرين يتحدثون عنه وان يأخذ كل ما يقال بنظر الاعتبار ويخضعه للمراجعة ويتقبل النقد المختلف والسالب بشفافية وروح رياضية عالية. فالكمال لله وحده ولكل بني آدم اخطاءه وعليه أن يعي تماماً ان نتاج المؤلف سردياًُ كان كاتباً "رواية- قصة" او باحثاً او شاعراً وغيره. وهو جواز سفره الى قلوب الآخرين.
ثالثاً/ الثقافة المنهجية/ وهي القراءة والبحث الأدبي وهي أهم مرتكز يعتمد عليه الأديب والشاعر الموهوب ليعرف كيف ومتى وأين يضع مواطئ قدمه وكيف يمكنه ان يؤثث لنفسه في المشهد الثقافي واعتقد ان ما يتوق اليه لا يتحقق الا بالاطلاع على أدب الأقدمين والمحدثين وأرى في عزوف البعض عن القراءة للآخرين وما اكثر من يقرأون لانفسهم فقط انهم لم يتطوروا وتوقفوا عند نقطة شروعهم، فالموهبة وحدها لا تحقق المنجز الذي يشار اليه لكاتب النص.
رابعاً/ المماحكة عن الذات والتفرد/ أي التميز عن الآخرين وهذا ما اراه مهم جداً في زمن شاعت فيه الهندسة الأحادية في بناء القصيدة وكذلك صيغة الاداء فكأننا نستمع الى قصيدة واحدة المنفرد "الصولد" على أوتار قيثارته وهما عنصرا ابداع في المحافل الأدبية والتي باتت تأن شوقاً للتمايز والابداع. اما القصيدة التأملية المقروءة فانها واضحة المعالم إذ أن شاعرها متعفف اصلاً عن ارتقاء المنصات والمنابر ولا يحسب لها حساباً، واعياً للفرق بين القصيدة الخطابية والتأملية وهناك من مكننة الحرفة من ادماجها معاً في موضوعة واحدة ولكن يبقى شاعر القصيدة التاملية اكثر تأثيراً في المشهد الثقافي العام، فكم قرأنا لأناس لم نعرفهم ولكننا حفظنا اسماءهم وبعض اشعارهم لذلك نرى ان شاعر القصيدة التأملية ينهمك في كتابة قصائده لزمن غير زمنها لكي يكون لهما عمراً مديداً تخالف القصيدة الخطابية في لحظتها ثم انطفأت بانطفاء المناسبة وهي مغايرة لكونها تفسر فيما بعد. وهنا لابد لي من التوقف قليلاً لالفت الانتباه ان ما بين القصيدة الحماسية والوصولية بون شاسع إذ ان الاخيرة تبغي التغيير وتثوير المشاعر من اجل غاية نبيلة كالمطالبة بالحقوق المغيبة المستلبة وتنوير العامة بضرورة الخروج من الصمت المهني بالاشارة الى المطلق لتثبيت أواصر المحبة والتسامح والدعوة الى ارساء قواعد العدل الاجتماعي والمساواة وإشاعة الوئام والانسجام والافصاح عن الرفض.
ان الحديث السردي قد يطول كثيراً وقد يأخذ الحوار فيه آفاقاً ولكن ما جعلني ان الج فيه هو زميلي الشاعر المبدع ابو وليد "سفاح عبدالكريم" حيث تسفح القوافي من قمة جبله الشعري على سفوحه ليصل الينا بمروءته ومحبته وهو يحمل اليناء بمفرداته البكر ذا البناء المحكم بحيث لا يشبه من سبقوه أو جايلوه فهو مؤسس لأتجاه خاص به. شعرت بذلك من خلال قراءتي لديوانه الأمل "شراع الضمير" الصادر عام 1975 ولم التقيه من قبل وكنت متابعاً لنتاجه عبر الصحافة ووسائل الاعلام الاخرى حيث التقيته بعد عشرين عاماً قدم لي التوأمين "يا روحي ليل الحل عازف الناي" وصدقت احساسي عنه فوجدته انساناً.. شاعراً لا يختلف في انسانيته عن شاعريته.. وجدته صادقاً حالماً متواضعاً متوازناً صبوراً على المكاره، لم يشكوا ابداً ولم يصرخ بآلامه سوى باحاسيس الشعر التي يرسلها لنا نزفاً من جراحاته. وقد امتثل لقوله تعالى {واستعينوا بالصبر والصلاة} ولعله سوف لا يتفق معي على ما سأذكره مثلاً على صلابته، فقد أُعدم اكثر افراد عائلته وصودرت اموالهم وامواله وسلبت حريته وبقي يعيش المنفى في عقر داره مع الظهور من غيبته التي استمرت سنيناً طوال. سالت ابا وليد ذات مرة لِمَ لم يؤرخ لتلك الحقبة المهمة من حياته فرد قصائدي فيها الكثير ولربما هناك ممن تضرروا اكثر مني. ولم ينتقل من الشعر الى النثر ليمتهن الكتابة الا عند الضرورة بالرغم من امتلاكه لكل مقومات الكاتب الناضج. فالشاعر مفكر حر والكاتب مفكر حر ايضاً إن لم تنخرهما فايروسات الايدلوجيات، فكان ابو وليد واحداً منهم لم يتحدث عن معاناته الخاصة وإن حاكاها فانه يشير الى غيره. فكم سياسي يتمنى أن يكون شاعراً او كاتباً مفكراً.
أبا وليد سوف يبقى في ذاكرة المشهد الثقافي العراقي لما يتمتع به من تفرد وطيبة متناهية وقبل أن أختم القول اقول ان الكثير من الاسماء التي تشغل حيزاً في ثقافة المركز الآن والتي كنا نحسب لها في حينه قد توقفت عن العطاء أو إنها تجتر ماضيها لديمومة بقائها. لكن الشاعر ابو وليد ما زال يعطينا ما يشتهي ونشتهي لنكن ذا رغبة واحدة واصفاد واحدة وها هو اليوم عملاقاً بيننا من عمالقة واعمدة الشعر الشعبي العراقي فـ"عازف الناي" لوحدها ملحمة دون غيرها ففيها دوّن عصره وكفاه بذلك شاعراً.
عمر قارون لأبي وليد والى مزيد من التألق والابداع والتجديد.