نشوء المدن بين القصدية والعشوائية..الكوت أنموذجا ( 2-3 ) / حميد حسن جعفر

صارت الكوت كمجموعة أكواخ أو صرائف أو طواني، إن لم تكن مجموعة خيام، والتي لا تعني الأخيرة منها سوى ملاذات الرعاة أو البدو، والتي لا تعني في يوم من الأيام ملمحا أو علامة للاستقرار والديمومة، ولا تعني أن هناك قرية ـ لا مدينة ـ أو ما شابه ذلك.
هذا الظهور على السطح/ الخروج إلى الوجود، الذي لا يشبه سوى حالة من حالات (الخدج)، كان سببا أساسيا في تأخر ظهور الملامح المدنية للمكان الذي نحن بصدده، مثل المدارس، أو الطرق، أو المارستانات آنذاك/ المستشفيات الآن. أو ما يدل على وجود منظومة إدارة شؤون المدينة من أنظمة وقوانين. أو من يقوم بتنفيذها من شرطة وجنود وعسس.
هذه الملامح التي لم يكن لها وجود يذكر في حياة (الكوت)، والتي لم تكن آنذاك سوى مكان عمل ووظيفة، وليس مكان سكن وإيواء.
والدولة العثمانية آنذاك لم تكن معنية بإنشاء المدن وإدارتها، بل كان همها أن توفر ما يسمى الأمن والاستقرار لخطوط مواصلاتها. فما كانت تسعى إلى التعليم/ المدارس، ولا إلى نشر الوعي الصحي/ المستشفيات، ولا إلى بسط الأمن والحد من التجاوزات على النظام آنذاك، وأعني به توفير مركز الشرطة مثلا.
ومع دخول الانكليز خلال العقد الثاني من القرن العشرين للعراق، بجنودهم الآسيويين من السيخ والبنغال والهنود، وابتداء الحرب العالمية الأولى ونهاياتها، وظهور أول تشكيل لحكومة عراقية في العشرينيات من القرن الماضي. مع هذه التطورات والتحولات ظهر الجنين المشوه للمدينة، جنين من غير ملامح مدنية أو تمدن.
لم تستطع هذه المدينة/ القرية أن تنتج دعوات للمعارف أو التعليم سوى ما كان سائدا على المستوى الشخصي (الكتاتيب أو الملالي)، أو بعض دور العبادة.
و (الكوت) كمدينة كانت على العكس تماما مما كانت عليه مدينة واسط، التي لم تأخذ اسمها من مؤسسها، بل استقته من المكانة الجغرافية التي تتمتع بها. إذ إن واسط بفعالياتها العمرانية، وبيوت العلم والعبادة والقبة والمنارتين وخندقها وأسوارها، والأسواق والرحب ودار الإمارة. هذه الفعاليات التي جعلت منها حاضرة من حواضر العراق والبلدان الإسلامية والعربية.
لقد استقطبت تلك المدينة الوليدة ـ آنذاك ـ ونعني بها واسط، ومن بدايات تأسيسها، استقطبت الكثير من المؤرخين والجغرافيين والجوالين، والعلماء والحفّاظ والقرّاء. بل إن ظهور المدارس النظامية في بغداد، كانت له ردة فعل واضحة في ظهور هكذا مدارس كنموذج معرفي متمدن في مدينة واسط.
إن نظرة فاحصة لجينات مدينة (الكوت)، ستوفر أحكاما موضوعية تؤكد أن (الكوت) لم تكن مكانا منتميا الى المدينة؛ بل مكانا منتميا لحرفة الحراسة. فهي مكان دفعت الى صناعته حالة أمنية لوسائل النقل النهرية.