إن فعل الحماية ـ أي صناعة نقاط المراقبة التي سميت بـ (الكوت)، لم تكن وليدة الاتفاق ما بين السلطة آنذاك، والرجل الأول من (آل سبع)، إذ سبقه اتفاق آخر ما بين شيخ بني لام من مشيخة المنطقة والذي تم عزله، وتعيين أحد مشايخ المنطقة والذي هو عبيد علي بن شاوي بن برشي، والذي هو جد سبع والملقب (ضبع).
هذا ما يذكره السيد سعدون صالح السبع في كتابه الموسوم (تاريخ الكوت قديما وحديثا 1215 ـ 1430هـ/ 1800 ـ 2009م. وليتحول من بعد هذا وذاك مشروع الحراسات الى مشروع سكني. وقد يقول قائل وكيف تم هذا التحول؟
الجواب المفترض والذي يكون أكثر واقعية من سواه، من الممكن أن يكون على هذا المنوال.
الاتفاق الجديد أوجب التفرغ والإقامة، وليستوجب هذا الفعل العديد من الرجال المرتبطين بعوائل وأبناء، وأبناء عمومة وربما خؤولة، وبالتالي فإن هذا التجمع يتطلب استبدال الخيام بما يقابلها من أكواخ أو صرائف، ولتتشكل أول الكور ـ التجمعات السكانية ـ والتي يتطلب وجودها مصدرا للغذاء كالحبوب أو التمور، ولتتحول مهنة الرعي والزراعة والبحث عن مصادر الكلأ والعيش، أن يتحول العديد من الرجال الى مزارعين، والعديد من الرجال الباحثين عن العمل ـ أولئك الذين لا تربطهم بـ (العراكات) صلة رحم، ليتحولوا الى فلاحين. ولتتشكل بسبب هذه الدواعي النواة الأولى لأول القرى التي كانت تشكل ملامح المدينة الجديدة. لقد وفرت مهنة الحراسة مهنة جديدة هي مهنة الزراعة. وذلك بسبب الحاجة الى المواد الغذائية مع توفر الأراضي والمياه.
وعبر هكذا جينات/ أوليات، من الممكن أن تتشكل مجاميع الكور/ المجمعات السكنية. ولتتسع ضمن حالة من عدم التخطيط. وضمن حالة من شق الترع والسواقي من جانب، وشق الجادات وبناء زرائب للحيوانات ومخازن الحبوب.
إن هذه التصورات والتوقعات، المستمدة من الواقع الذي لا يمكن أن يقوم أو ينهض من الفراغ أو العدم. بل إن وجودها يرتكز على واقع شديد الحضور. ولكن هذا النشوء لم يحدث، ولم ينهض عبر سنوات قليلة؛ بل ربما خلال العديد من العقود، وخلال العديد من الشخصيات، التي تلت الحارس الأول، أو الأب الأول، أو الأخ الأكبر.
(5)
إن أول ظهور فعلي للكوت كجغرافية، وكمدينة سكنية لم يكن إلا قبل عدد من العقود التي قد لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، من قيام الدولة العراقية عام 1920، وظهور التقسيمات والوحدات الإدارية، ومعها الألوية والأقضية والنواحي والقصبات والقرى.
إن الكولونيالية ـ حملات الغزو الاستعمارية لدول الغرب والعمل على السيطرة على الشعوب الأخرى ـ منابع النفط وطرق المواصلات والأيدي العاملة والمواد الأولية.
لم تكن هذه الكولونيالية تمثل حالة عسكرية فحسب، بل كانت قد صاحبتها عمليات التحديث والاستحداث على المستوى الصناعي والزراعي والاقتصادي، وظهور ملاكي الأراضي الزراعية/ الإقطاع. وإن كانت هذه العملية لا تشكل إلا النزر اليسير من بناء الدولة الحديثة والمدينة المعاصرة وصعود ما يسمى بالرأسمال المحلي/ البرجوازية.
فالاستعمار هو وجود فعلي لمجموعات بشرية قد تكون رمزية، ولكنها لا يمكن إلا أن تكون بأمسِّ الحاجة الى الأمكنة/ الجغرافيات التي يجب أن يسيطر عليها عسكريا.
هذه الحاجة هي التي كانت السبب الأساس لكي يندفع المسؤول العسكري أو الإداري/ المحتل؛ الى البحث عن جدران وسقوف، وعن أبواب وشبابيك، وعن أرضيات بحاجة الى شق الطرق وتبليط الشوارع، بحاجة الى ثكنات ومعسكرات ومطارات ومرائب. وبالتالي العمل على بناء هيكل المدينة الأولي.
***
المتابع لقصدية قيام واسط/ إمارة الثقفي، سيكون على بينة من أمر البناء والإنشاء. فالشكل التخطيطي ينتمي الى ما يشبه الدائرة، أو الدائرة ذاتها. والدائرة أقوى وأمتن الأشكال الهندسية، وأقدرها على مقاومة ودرء الهجومات المحتملة. وهذا ما تم مع مدينة بغداد/ بغداد المدورة. إضافة الى وجود الأسوار والخندق الخارجي، والبوابات التي تغلق ليلا وتفتح نهارا، مع وجود الشرطة والجند لتوفير الحراسات والأمن وفرض القوانين والأنظمة.
***
ورب سائل يسأل: هل كان بناء القلعة/ الكوت من أجل غرض حماية الطرق النهرية فحسب؟ أم كان يمثل النقطة/ الجنين التي ستتسع من عند جهة البرية لتتشكل من بعد ذلك (الكورة) مجموعة البيوت!
وهل كان قرب النهر من البرية دافع/ سبب الى أن تتحول هذه الأراضي الى مجموعة مزارع وحقول يديرها مجموعة مزارعين وفلاحين ومربو حيوانات داجنة؟
واذا ما كانت هناك منشآت وأبنية، هل كانت هناك شوارع وساحات ومناطق لتجمعات بشرية من غير (العراكات)؟ وهل هناك حالة عمرانية: مسجد، جامع، مركز صحي، مدرسة، مركز شرطة؟ وهل كان لهذه المفاصل والتجمعات والملامح المعمارية أو لبعضها وجود في ذهنية المشيخة ـ مشيخة الشيخ عبيد علي بن شاوي بن برشي؟ أم كانت لدى سواه، ممن وجد في هذا المكان الشيء اليسير من الأمن؟ بعيدا عن السراق واللصوص وقطاع الطرق، والغارات التي قد يشنها من امتلك آلة جارحة، أو بندقية هي من بقايا الجيوش المتحاربة في واقعة الحصار ـ حصار الكوت.
***
أنا أعتقد كمتابع للمعطيات التاريخية، ومن خلال حالة استقراء للأحداث والوقائع، ومحاولة وضع اليد على المتوقع والمفترض حصوله. إن تصورات كالتي سبق لم يكن لها وجود لأن (الشيخ البدري) لم يكن حينها باحثا عن سقف وجدران، أو بيت سكني ثابت بقدر حاجته الى مكان لمزاولة ما اتفق عليه بين سلطة بغداد آنذاك وبينه. هذا أولا، وثانيا إن الرجل لم يكن معمارا ليتحول من فعل الحماية الى مؤسس مدينة. إن اتفاقا كهذا لا يوفر له مبررات التفكير خارج نطاق الفعل المناط به، واذا ما كانت هناك مهنة مستحدثة أخرى، اعني الزراعة، فهي تحصيل حاصل بسبب حاجة الرجل/ الشيخ وعائلته، التي من المتوقع إنها توسعت عبر الأبناء وزوجاتهم، والبنات وأزواجهن، ومن ثم الأحفاد. عند هذه النقطة لابد للنطفة أن تتحول الى جنين، ومجموعة الأكواخ الى قرية، وليتم الاعتراف بمدينة جديدة، وليسمها البعض (كوت سبع)، والبعض الآخر (كوت العمارة)، ولتستقر أخيرا على (الكوت).