رؤية في المعرض السنوي لمركز الأشغال اليدوية في بابل / مزاحم الجزائري

يبدو من استعراض موجودات المعرض السنوي السادس، لمركز الأشغال اليدوية في بابل، ومقارنتها بمثيلتها في السنة الفائتة، أن ثمة تحول حاصل في مستوى التقنيات وآليات التنفيذ ولكن، ليس على النوع الفني من حيث الموضوعات، ومرد ذلك باعتقادي- راجع الى تباين مديات الاستجابة وانعكاساتها الشرطية لعنصري الزمان والمكان، وما يرافقها من تمثلات سياسية واقتصادية واجتماعية.
وبالرغم من التباين الحاصل في مستويات البلاغة الفنية لمدونات المعرض من حيث قيمها الجمالية، وطبيعة الأشغال في موضوعات بعينها، فالملاحظ يلفي بيسر من أن العديد من الفنانين المشاركين، يوجهون صعوبة لتخطي منجزاتهم والنفاد إلى فضاءات وعوالم أخرى، والمتتبع لمدونات المعارض السابقة بمقدوره تلمس التحولات الطارئة على مستوى التكنيك وحسب، خاصة في مظهرها الخارجي، فهناك نضج في التجربة، ووضوح في المقاصد، وهذا يعني ان هناك مساع لتجاوز المتحول الثابت.
التشكيل:
* يكاد الرائي، للوحات الفنان "كريم حسين" أن يدرك توجهاته الفكرية، فهو يؤكد بنية مكانية حميمة لا تحدها أزمنة، انطوائية "منكفئة على الداخل"، بعد أن فقد رجاءه في "الآخر". واستحالة تلبية "بعض" رغباته، وما خلفه من احباطات دفعته إلى اللجوء، واللوذ بالمقدس، والأدعية، والأثر المأثور، تحوطا من أضرار محتملة، متوسلا فيها أسلوبية مغايرة لواقعة، ولمدوناته السابقة، علّها تتوافد على شيء من الرجاء.
* في الوقت الذي يتواصل فيه الفنان "فاضل شداد" مع موضوعاته الاثيمة لذاته، الانطباعية والواقعية التعبيرية، وبعض التجريد كونها تمثل لديه قيمة فنية لا بد من انجازها هي بعض الحنين الجارف إلى قريته وطفولته، حيث النقاء، والصدقية، والرجاء والثبات بالضد من مفردات المدينة المتغيرة باستمرار، والفاقدة للاصالة.
* في حين يلغي الرائي في جماليات اللوحة، المادية والروحية، عند الفنان "حيدر كاظم" حزمة من شروط النضج، والانسجام والتكامل فانساقه الحروفية، لا تتبنى وجهة جمالية وحسب، بل تنزع صوب التغير الواعي، ما جعل من جهده الفني متماسكا ومتواصلا مع قناعاته الشخصية، وهذا منح مدوناته، قدرا من التساكن بين موجوداتها، فجاءت عوالمها متصالحة. وعلى النقيض من ذلك يسعى الفنان "مشتاق طالب" إلى التحرر من أسار حروفيته، والعثور على مسارب أخرى، يطور من خلالها بلاغته الترميزية في طرقه على الجلد، ومحاولة اكتشاف عوالم تبتعد عن الموضوعات الفنية أو الأخلاقية، والاهتمام بالمنجز الفني الجمالي وحسب، بعيدا عن أية أطر أخرى، إلا أنه وللأسف لم يستطع قطع صلاته بالحروفية، وكم كان جديرا به تعميق تموضعاته الجديدة، ومغادرة أساليب التكرار والاجترار.
* اما الفنان (عماد جبار) فيظل مسكونا بها جس البحث والتنقيب في الخامات المحلية، وبقايا الأشياء المصنعة، والطبيعية واستخلاص عناصر الجمال في توحدها، من خلال صياغة موضوعات جمالية موحية في بعديها الزماني والمكاني، وإسباغ الروحية المحلية عليها وإذا كانت ما بعد الحداثة، تخضع المكان للأغراض الإنسانية وتحافظ على خصوصيات المكونات المحلية فهو في أسلوبه هذا يحاول دمج المضامين البيئية والاجتماعية، لكي تتبنى مشاعر إنسانية، وأحاسيس اجتماعية عامة واستخلاص ما يتمخض عنها من قيمة جمالية.
* ومن اليسر بمكان تلمس محاولات الفنان (اسعد عباس) لتطوير اشتغالاته عبر تناوله لمشاعر معينة ذات صلة بالمكان والوجود، والمجتمع، واستظهار أوجه التلازم فيما بينها، بيد أن الملاحظ عليه تناوله لموضوعات محلية، قد تبدو للوهلة الأولى متباعدة في حيثياتها الفنية، ومعطياتها الاسلوبية، إلا أنها تشي بمضمونية متماثلة وهذا يشير إلى اطلاعه الواسع على تاريخ الفن ومدارسه. وكيفية الاستفادة منها في منجزه الإبداعي، ما يحتم عليه القيام بعملية تقييم دورية لمنجزه الفني للكشف عن طاقاته الفعلية.
* ومن الملاحظ على أعمال الفنانة "(كوثر محمد حسين" التباين البين في اسلوبيتها، سواء في الأنساق المؤتلفة، أو المختلفة وقد هيمن هذا التوجه على مدونتها الحروفية والواقعية، وأعتقد أنها مدعوة للاهتمام بالموضوعات الأكثر قربا من ذاتها، لان التشظي في الفن والأدب كثيرا ما يكون على حساب النوع خاصة، وان لديها أشياء كثيرة لم تفصح عنها بعد.
* ويكاد هذا التقييم، أو التصور متماثلا في نظرته لأعمال الفنانة (اسراء كريم) فأعمالها تنم عن طاقة جامحة، ولكن حالة التشظي تقف حائلا دون استظهار الكامن في لا وعيها، ويفضح ذلك توزعها فيما بين الرليف والحروفية، والجداريات بتفاصيلها التراثية وموضوعاتها التاريخية وعوالمها البيئية.
* وقد عكست أعمال الفنان "سمير السعيدي" الواقعية والانطباعية، وخاصة موضوعات الريف العراقي. شكلا من أشكال الناستولجيا والحنين إلى الأمس، ورفضا للواقع المعيش، والتقاطع معه. ويبدو انه تأثر كثيرا بتجارب الفنانين الرواد وتوثيقهم لمفردات البيئة الريفية العراقية.

النحت:

تحتل الأعمال النحتية في المعرض المكانة الأولى من حيث الدقة في التنفيذ، أو التقنيات أو طبيعة المتخيل الجمالي، وتمثل أعمال الفنانة ومديرة المركز "أمل عبيد" النحتية والبالغة (11) احد عشر عملا، بالإضافة إلى زميلاتها وزملائها القيمة الفنية الرفيعة بين الموجودات كافة، وقد يرقى البعض فيها إلى مصاف أعمال نحاتين مشهورين، وقد لا أكون مغاليا حين أقول: جدير بالبعض منها أن يحتل أكثر من فضاء في ساحات مدينة الحلة.

النجارة:

في النجارة تميّز الحرفي والفنان "زهير عباس" المولع بالساعات القديمة بتوظيفه تقنيات (فن الكولاج) في عمله فالساعة في أعماله لا تكون دالة على الزمن. بل هي بؤرة العمل، فهي عين وهي قمر أو شمس، وقد تكون مركزاً للحياة، أما ما وجود في العمل فهو من تضرعات الزمان والمكان، المشدودة إلى البؤرة المركزية. فالشناشيل فيها أصبحت كجناحين حافيين بها تذكرنا بأزقة الحلة القديمة، من خلال استحضار الذاكرة، أما الجزء الثاني من عمله، فيذكرنا بالبصيرة المتوقدة الفاخرة في متون الزمن والمترقبة للقادم، واتسم عمله بالأناقة وحرفية التنفيذ، والقوة، والعمق في الأداء.
الخياطة:

في هذا القسم يتبدى للرائي الجهود الحرفية الاستثنائية في صياغة مفرداته وهو جدير فعلا بمقالة مستقلة فالفنانات المشاركات فيه، نجحن في إشاعة الحياة، وخلق قيم جمالية مدهشة من فضلات وبقايا المصنوعات المتنوعة. وهذا لا يعني بالضرورة موضوعا للمدح، بقدر ما يوحي إلى الذائقة الفنية والجهود الاستثنائية في التنفيذ، وما بذلنه من صبر وأناة. فأول ما تستوقفك نتاجات الفنانتين "سهام علي ومواهب عبد الحميد" واشتغالاتهما على الزجاج، وأغصان الأشجار في موضوعات بيئية المضامين: وتشكل اشتغالات "مواهب" في الشناشيل والبيئة والموروث. والطفولة، حقلا من الفوستلجيا والحنين إلى الماضي. مع ما اتسمت به من بساطة في التعبير، عكست مديات تصالحها مع العالم والوجود، والآخر.
* وبدتْ أعمال الفنانتين "انعام عبد الكريم وزينب عبد الحمزة" في حياكة الجداريات، وصياغة اطر وموضوعات هندسية غاية في التناسق والانسجام. وينطبق هذا على أعمال الفنانة (امل جاسم) وقدرتها الإبداعية في الخياطة وحسن توظيفها للألوان والمهارية في التنفيذ.
أما الفنانة "ندى هادي" فقد تجسدت مبتكراتها في الجداريات وما يتخللها من صياغات متناظرة وحسن توزيع مفرداتها اللغوية، واقتربت أعمالها المرهفة من الشعرية كثيرا.
* وتعد مساهمات الحرفي والفنان الفطري "سعود اسعد" وهو المعوق وظيفيا مفاجأة المعرض، من خلال منحوتاته الخشبية، واتصافها بالدقة والأناقة والحس الفني. والتي تشير إلى مهارته ورعايته من قبل فناني المركز، وان هناك مستقبلاً فنياً ينتظره.
ملاحظات لابد منها:
أولا: شكري واعتذاري لمن فاتني ذكر أسمائهم، إذ من الصعوبة بمكان تناول أعمال "28" ثمانية وعشرين فنانا في مثل هذا الحيز الضيق أولا.
ثانيا: إن الغرضية الجمالية للفن، ينبغي أن لا تبقى رهينة الأطر الفنية وحسب، فلابد أن نتلمس فيها صدى لمعاناة الناس وأفراحهم. وللأسف لم نجد في هذا المعرض الكبير أثرا لحياة العراقيين الحقيقية، أليس من الضروري الانتباه لهذا الشأن في المعرض القادم؟.