أخوة بركات.. نص في المهمل / حميد حسن جعفر

الصغار الذين كنا نؤسس مواقع لأقدامهم،
ويدخلون المدارس بدلاً منا،
لنضربَ نحن من قبل آباء ومربين
بسبب بلادتهم وكسلنا.
حدقوا مرةً بعبوات ذات بهاء نادر، تتزينُ بها
واجهات مخازن. وقبل أن نستفهم بدلاً عنهم. قيل لهم انها تحمل حليب سباع.
حدقوا بوجوه لم تستطع ان تميز ما بين الخيط الابيض والأسود.
فقيل لهم قبل ان يستفهموا هؤلاء أخوة بركات.
وبركات رجلٌ أشيب يرتدي بنطالاً قصيراً
ويقود "موتور سكلاً"، ويعتاش على
بيع الأبيض والأسود. وعلى بيع أصنافٍ
أخرى من العصائر.
ما كانت أمهاتنا يعرفن حليباً، سوى حليب المعدان
وما كنا يومها نعرف الحليب المجفف المضاف إليه فيتامين A و D. وما كانت الطفولة تعرف سوى ما نعبّه من أثداء.
لم يفكر أولئك الأطفال بماذا
أبقى الآباء لهم منها.
*
ثلاثة هم أخوة بركات.
ما كانوا كأخوة يوسف. وما كان بركات يوسفياً
ما كانوا يكرهونه. وما تركوه في الجبِ
وما فكروا في أن يذهبوا به بعيداً ليلعب ويرتع
وما حرضوا ذئباً عليه.
كانوا أخوةً في الله. وفي العربدة. ولكن ما اتقوا
الله في أنفسهم.
أصغرهم سناً "غالب انجيه" ما اتقى الله حتى موته
في زوجه وأولاده.
لا متعة إلا في التطوطح. طلعة غير بهية
هندام لا يثير فضولاً.
رجل مغمور، لا يترك شكوكاً
لدى المحدق بهيأته. آثار
جدري علامته.
مجموعة أخطاء ارتكبها الجميعُ ليجد نفسه وسط هكذا تقاطعات.
كان من الممكن أن يحتفظ بمهنته بيع زيت المحركات، والـ C oil، والشحوم.
أو بمهنة قيادة حافلة صغيرة
أو بمهنة مناد في واحد من المرائب.
لكن الأخطاء احتفظت لنفسها بقوة التغيير.
ليتحول عن طريق المقدر والمكتوب الى واحد من أخوة بركات.
لا لذة إلا بالعودة محمولاً في عربة دفع.
لا استقامة إلا بمركوب أم مشتاق المصنع
من إطار مستهلك.
أخوة بركات يصنعون عزلةً
ويرتدون لباس الصمت.
أوسط الثلاثة، مطير العبد، زنجي، يدفعك لاحتساء القهوة العربية لتصحو على زمن أزور، وليحتسي هو مشروباً افرنجياً. ليغيب عن وطن وعرٍ.
مطير العبد كثيراً ما يحتل جغرافية بركات وكالةً كان يهرب حليب السباع خلسةً بآنية القهوةِ.
فلا يجد بركات لديه يقيناً، يوفر له سوء الظن.
أو تهمة الاحتيال. فقد كان يدخل المخزن صاحياً
ليخرج أكثر صحواً، حين يختلي بطريدته، يبدأ بصناعة
مجموعة وجهاء، ليسقيهم شراباً عربياً من يمن سعيد،
كان مطير العبد كريماً حد الاستبسال.
قد يكون أفريقياً. قد لا يمت بصلة لعطيل.
ولكن كان أميراً.
ثالث الاثنين، لم يعثر أحد منّا على اسم يعلن هويته
هكذا وجدناه، نحن الذين كنّا صغاراً.
كان الجميع يطلق عليه كنية ــ أبو العمل ــ
رجل بلباس أوربي، شعر أشيبٌ ممشط، أو مرتبٌ
بعناية قد تكون فائقةً. مع صلع خفيف.
رجل ذو هندام من غير عيوب،
رجل ما إن يخترق شارعاً، أو ساحةً، أو مرآباً
ما إن يخترق مجموعة بيوت
حتى يخرج كالزمار الساحر. ومن خلفه جوقة
من صغار يشبهوننا.
قد يكوّنون بعضاً منّا.
جوقة تصرخ وبفرح زوعه .... زوعه أبو العمل زوعه.
و ــ أبو العمل ــ يترنح مأخوذاً بنشيد الأطفال، غير آبهٍ بما يخرج من أيدي الواقفين على الرصيف من مياه وفضلات.
الأمهات يناشدننا بالعودة سريعاً. فقد بدأ المساء بالهطول والعتمة غير مأمونة الجانب.
فبعد قليل ستمسك الأسرةُ بأجسادهم. ليتمكن ــ أبو العمل ــ من طرد منْ كان يطالبه بالصحو.
ليتمكن من الإمساك بصفاء لا يجيد الانتباه
وبترنح بعيد عن التأنيب.
أيهم لم يكن سيداً، شديد المراس، كريم الشمائل.
بركات المنطلق على دراجة بخارية موديل 1950 هي الأولى من نوعها في مدينة الحجاج.
نظارات سود، بنطلون قصير جواريب تغطي ربلة الساق، حذاء جلدي بمشدات.
شعر أشيب مسرح بزيت معطر؟
أم أبو العمل الكيس الذي لا يشتري ما يدور حوله من لغط بفلسين المندفع نحو نقطة لا يراها سواه. الممسك بجسده حدّ التأزم لا أحد بقادر على أن يشوش ما يرى.
او أن يحول الصمتَ
الى ضوضاء؟
أم مطير العبد الذي لم يكن عبداً. الذي ما كان يعرف ما العرق
وما العنصر؟
أم "غالب انجيه" الذي لم يطالب يوماً الا بما يوفر له سكرةً
مرتبكة. وعبوة احتياطية؟
فالدهر ماكر
والطمأنينة عملة صعبة في يومنا هذا!
ها إن أخوة بركات يلعقون آخر ما التصق بزجاج الأقداح التي بين أيديهم.
ليصحوا على حروبٍ سعيدةٍ قد تكون آخرها حرب الأيام الستة.
ها إن أولئك الأطفال وقد كبروا يحتسون ما التصق بجدران الفناجين المذهبة من قهوة مرة، ليستفيقوا على وطن غير سعيد مازالت الحروب تتوعده.
آخر الحروب حاولت ابتزاز عفته، فإذا به يركلها كما الأطفال حين يركلون كرة من خرقٍ.
*
كل المعادلات ترتب لنفسها منزلقاً آخر سوى التوقعات لا انتشاء من غير جمهرتنا ــ نحن الأطفال الذين كانوا يشكلون جوقة سوانا، ولا احتفاء من غير فوضى متعثرة.
أو من غير جرادل المياه المنسكبة على هندام ــ أبو العمل ــ أو من غير اعتناء باذخ، لا علاقة له بالحس الجمعي.
الكل حاضر إلا أمهاتنا اللواتي ينتظرن أوبتنا من بهجة يومية.
تبدأ ما بعد القيلولة، ولا تنتهي إلا مع آذان
المغرب.
من ذا كان يقول إن بركات كان أرمنياً ، او كلودوآشورياً من كان لا يقول إن مطير العبد ينتمي إلى قرامطة واسط وإن القهوة يمنية. وحين يرفع القدح، يطلق بسملة طويلة قد توصله الى الجنةِ. ودعاءً حاراً يوفر له سراطاً
مستقيماً وتسبيحات بلغات شتى.
هكذا يسمعه البعض لينتهي بـ "هاتها ها ها هاتها".
ومن ذا كان يقول إن ــ أبو العمل ــ لم يكن موحداً، وانه كان طائفياً. فحين يهبط صباحاً مغادراً فندق ــ صبري ــ يقول يا الله، يا محمد، يا علي.
بركات وأخوته ما كانوا يتوانون عن لحظة صحو حين تكون الأرض عالقة بين أصابعهم. لكي لا تسقط عند مواطن أقدامهم غارقةً بدم الجنود الذين كانوا الأطفال الذين ينشدون لـ ــ أبو العمل ــ زوعه .. زوعه ، أبو العمل زوعه.
و ــ أبو العمل ــ مأخوذ بنشيج حاد، ملطخ بعواء صارخ لا مهرب منه إلا لسواه، وما كان سواه إلا خمرةً قاتلةً وبرنامجاً شديد العذوبة. فترنح ــ أبو العمل ــ ما كان بسبب الخمرة الحرام التي أورثته سكرة قد لا يصحو منها أبداً.
بل لأن معظم الأطفال الذين كنّاهم. والذين كانوا مغرمين بنشيدهم الوطني لم يعودوا بعد من الحر ب الأخيرة.