أيها النفس اجعلي جزماإن الذي تحذرين قد وقعا
قد وقع، فإذا الصحب في حيرة من الأمر، وفي حزن للأمر، في حيرة وحزن ودموع وضياع لا يدرون ماذا يقولون؟، وماذا يفعلون؟. وكلما انتشر الخبر انتشر معه الحزن والأسى والأسف. فإذا كان فقد الإنسان مجلية للحزن، فكيف يفقد إنسان عالم أدى للأمة في خدمة لغتها الكثير الكثير، وله مع خدمة اللغة، خدمات أعم وأخلاق أدل، وكيف بإنسان عالم عامل عزيز، وصديق صدوق؟ كيف؟ وكيف؟.
كان ذلك بعيد ظهر الجمعة في الثاني عشر من رمضان لعام أربعة عشر وأربع مئة وألف الموافق للخامس من آذار لعام ثلاثة وتسعين وتسع مئة وألف، وينتشر الخبر.
وتمر خلال ذلك بالصديق فهم طيوف، متباعدة حينا، ومتقاربة حينا، ولكنها في جوهرها- ثمرة طيبة لعمر من الصداقة زاد على خمسة وثلاثين عاما من الوئام النادر في زمن حلا فيه الخصام، وغلبت المطامع، ووجد الشر سبيله لاحبا..
يرجع تاريخ هذا الوئام إلى أوائل عام 1954 وقد عاد من القاهرة ومعه الدكتوراه برسالته "مدرسة الكوفة"، والماجستير برسالته الخليل بن احمد الفراهيدي، وليس سهلا أن يجرؤ طالب على هذين الموضوعين، وهما ما هما من قوام اللغة العربية في نحوها وصرفها وفقهها وحجمها، ولكنه كان المؤهل، وكان المتوج، والرسالتان رمز لسعة العقل، وسمو عن أن يحد المرء نفسه بكوفة أو بصرة، ومنهج في الرجوع بالدرس إلى منابعه الأصيلة، وكان يجب أن يكون قدوة لمن يقتدي.
كان اللقاء يعقد يوميا، ومرارا في اليوم الواحد، ومتصلا في غرفة كبيرة من غرف كلية الآداب "والعلوم" تسمى غرفة الأساتذة.. والأساتذة في غرفهم هذه يتناقشون ويصخبون، ولكن أستاذا واحدا بينهم يلازم الهدوء أو الصمت، فلا يتكلم إلا حين يصل الكلام إليه، وإذا تكلم، تكلم بقدر وبميزان وبصراحة العالم المطمئن الذي أصغى طويلا، وصمت طويلا، وكان إصغاؤه مناظرة، وصمته مناقشة.. وكلامه جوابا عن سؤال وحلا لمشكلة، وهو بين صمته وكلامه وجود راسخ، وكيان يحسب حسابه. ولا ينفك الطلبة والمدرسون يتوجهون إليه بهذا السؤال من مسائل النحو، وبهذه المشكلة من مشكلات اللغة، ثقة به، واعتمادا عليه وهو المؤهل الذي امتلك ذخيرة من المادة التي حصلها باجتهاد وسهر بين النجف والقاهرة، وجمعت إلى آراء الأقدمين وفيهم الخليل والكسائي أراء المحدثين وعلى رأسهم أستاذه إبراهيم مصطفى حامل لواء إحياء النحو وأستاذه مصطفى السقا الذي استوعب القديم ولم ينغلق عليه.
وقديم المخزومي قديم الرواد، قديم الأوائل المبدعين في الجمع والرأي والإخلاص والحرص على الحقيقة.. فيما كان في البصرة والكوفة وفي الأشعة التي امتدت إلى بغداد..
وما كان قديمه قديم المتأخرين الذين كانوا سببا في ضيق النحو وجفائه، وموته أحيانا، ومن ألفوا ما ألفوا في عصر الجمود تحت سلطان الجمود بعيدا عن الحياة، بعيدا عن الشخصية، وأين الشخصية منهم وقد شغلوا بالتعقيد والتكرار والنقل وتكديس القواعد وفروع القواعد، وشواذ القواعد.
إذا أراد الطالب الحديث أن يأخذ النحو من مظائه فما عليه إلا أن يرجع إلى الأصل، إلى الرواد والمؤسسين، وهذا ما فعله المخزومي، ودعا إليه مترفعا عن الاجترار داعيا قومه إلى الترفع معه.
وحين تكون اللغة وجدا، فإنها لا تقتصر على القديم الذي فرغ منه، وإنما هي في المعاصر، وليس أستاذا للغة من لم يعاصر أمته، ويعاصر ما تقوله وما تكتبه، وما تبدعه في رأي وذوق، وليس استاذاً للغة من وقف عند الدرس اللغوي لا يمتد إلى الإبداع قديما وحديثا، إبداع الشعراء والكتاب على مدى التاريخ وإبداع المقالة في مجلتي "الرسالة والثقافة".
أجل والمخزومي في هذا كما يجب أن يكون العاملون في الحقل اللغوي، فلا يغرقون في القديم وحده، ويشغلهم القديم وحده عما للغة من جديد ومعاصر، وأحسب أن هذا الذي تهيأ للمخزومي، لو تهيأ للآخرين، وعملوا به، وساروا عليه لا تسع الأفق وحلت المشكلات، وطلب الدرس، وصحت القدوة الحسنة لمن يقتدي.
وليست اللغة علما فقط، وإنما هي علم وعمل وحياة تنساب من قلم سمح، وعلى الانسياب مسحة لا بد منها حتى في البحث العلمي، من جمل تغري بالمتابعة وتؤنس لدى القراءة، وتدل على أن اللغوي يمتلك اللغة ويحسن التصرف بها، ويتحسس جملها مفردة ومركبة هي على قلمه كما هي على أقلام المبدعين، فإذا هو أديب متمكن، وإذا الذي تقرؤه له أدب رائق.
والمهمة ليست ميسرة لأي رامها، لأنها تشترط ما توفر للمخزومي من ذوق وشاعرية ونقد. ولو لم يكن المخزومي نحويا لكان شاعرا، ولو لم يكن شاعرا لكان مقاليا ولو لم يكن مقاليا لكان ناقدا.
وها هي ذي كتبه بإزائنا تتوالى، قد تكون قليلة العدد، فما كان الرجل ليعنى بالكم، وما كان يكتب ليقال انه كتب، فضلا عن ترفعه عن الارتزاق بالتأليف وهو المتريث المتأني المتأنق الزاهد بما يقع فيه غيره من أهل الكم وطلبة "المادة"، وإذا لم تقرأ له "الدرس النحو" و"عبقري من البصرة" فاقرأ له كتابا صغيرا في سلسلة "الموسوعة الصغيرة" بعنوان "أعلام في النحو" اقرأ لترى كيف يتحدث نحوي مقالي شاعر عن نحاة نحاة، وكيف يستل مواطن نبوغهم ليضوع عبقه خلال كلماته وهكذا يحسن او يجب ان يكون اللغوي ليكون قدوة لمن يقتدي.
المزيد المزيد يا أبا مهند.. القارئ يطلب المزيد ولكن أبا مهند لا يريد أن يخرج عن سمته، ويكفيه ما اتانا به من قديم جديد، فكان مما كان رجوعه إلى الخليل والكوفة، وكان أول من سمعنا منه مبحث "الأصوات" في العربية، ومن جديد يسعى إلى التيسر، وبين هذا وهذا ذوق ونظر واثق وقلم في ميدان التخصص العلمي، واجتماعية طبيعية في الصداقة والصديق.
وينسجم الاتزان منذ تعارفهما في أوائل عام 1954، وكأنهما خلفا صديقين، وان تعارفهما يعود إلى ما قبل ذلك كثيرا كثيرا. يلتقيان في كلية الآداب، وخارج كلية الآداب. وحين كان من رأي المخزومي إعادة " علم المعاني" إلى النحو، كانت فرصة لان يحاضر طلبة دار المعلمين العالية إلى جوار صديقه الذي يدرس " البيان" و " البديع" في هذه المادة من درس البلاغة وكانت فرصة للصديقين في ان يلتقيا في " دار المعلمين العالية".
وتمتد الفرصة لتساهم فيما عرفته الدار في موسمها الإبداعي بإسم: " جماعة الإنشاء الأدبي" وتذكر الجماعة ذوقه النقدي السليم. ثم كانت فرصة " المعلم الجديد" ومولد سلسلة " أعلام في النحو". ومحامد المخزومي الإنسان، كثيرة فهو صديق أصيل يحرص طواعية على أصول الصداقة كاملة بما يستدعي " عقدها الاجتماعي" من تضحيات، وما يستلزم دوامها من " روحانيات" ليكون فيها قدوة لمن يقتدي. وأحسب أن محك الصداقة: السفر. ولقد جربت المخزومي في أسفار بعيدة، متكررة وبعيدة، ربما عاد منها غيرنا، متفارقين ولكننا كنا نحيا السفر في وئام ونعود منه ونحن امتن صلة واشد عوداً وأسدى رأياً. وينطلق المخزومي في ذلك من مفهومه العالي للصداقة فطرة واكتساباً، ومن خلقه العالي في المواءمة والموافقة والمسابقة في الفضل. وإذا استدعت الصداقة صبراً فان صبر المخزومي خارجها أعجب وأغرب، ومن هذا الخصوص الذي يكتسب صفة العموم ان يشغل المخزومي عمادة كلية الآداب ويمضي عمراً من عمره في خدمتها. واشهد انه لم يفد من العمادة اي جدوى شخصية من أبهة. وما كان طالب أبهة، ومن مجدٍ فما كانت العمادة لتفوق مجده النحوي وما كان مجده النحوي ليقوم شامخاً لو لم يقترن بالعمل والحياة, وما العمادة إلا مظهر للعمل والحياة، ولو لم يقترن بالأديب لما جاءته نيابة الرئاسة في اتحاد الأدباء العراقيين، ورئاسة تحرير " الأديب العراقي".
أريد أن أقول إن مجده النحوي لم يقم عزلة او على اجترار لمادة مستهلكة وانما يقوم على العمل والحياة. وأريد أن أكرر ان المجد لا يأتي النحوي اذا لم يمارس النص الأدبي رأياً وتذوقاً وقلماً مدركاً سحر الكلمة منفذاً سحر الكلام. ثم انه لم يكن طالب مال، ولا ساعياً في تمرير باطل، وما جاء العمادة إلا من اجل الحق. أما ما لقيه من أولئك الذين حسبوا العمادة إرثا مسجلاً لهم فلا يعدله إلا صبره وسموه وعلو جنابه، ومروره بالعفو كريماً ونظره الى التوافه من عل... .
ويبلغ مجده في زهده بالمال مجده في عمادة كلية الآداب وقد تهيأت له فرصة سانحة لان يكتب منه قدراً لا باس به في زمانه، ولكنه لم يكسب ولم يفكر في ان يكتب ولم يكن من طبعه ان يكتب جائراً.
تقول: كيف؟
وأقول: وأنا أشاهد القريب من الحال، تؤلف لجان لتأليف الكتب المدرسية في مراحلها الثلاث، وكان الدكتور المخزومي رئيساً طبيعياً للجنة اللغة العربية، وكان يكفي لرئيس اللجنة ان يشارك اللجان الفرعية إحدى جلساتها ليكون فيها، وان يلقي نظرة على مخطوطة الكتاب المؤلف ليكون مؤلفاً من مؤلفيه. ولكنه لم يفعل هذا، ولم يشترك في تأليف كتاب واحد، ولم يضع اسمه على كتاب واحد، وترك اللجان الفرعية وشأنها، تضع اسمها على الكتب وتنال من المكافآت المالية. ولا شك في انه لم يكن في غنى عن دنانير تأتيه حقاً مشروعاً، ولكني لا اشك كذلك في انه لم يكن في انه لم يفكر أن يستغل رئاسة اللجنة ليحصل على مال لم يبذل الجهد الذي يراه لازماً ليستحقه. وانتهى امر العمادة الى ما كان يجب أن ينتهي إليه. وكان من حصة جامعة الرياض. والتقى المخزومي الأستاذ في هذه الجامعة بمصطفى السقا العميد فيها حتى إذا انتهى التلميذ السابق من تأليف كتابه " في النحو العربي" قرأه الأستاذ السابق فأعجب به وبالجهد والفكر وصفاء الذهن وكتب مقدمة مسهبة للجزء الأول (نقد وتطبيق). مما جاء فيها: " ولا يلتزم الأستاذ مهدي في حل مشكل النحو مذهباً معيناً من مذاهب النحويين، وانما يضع المذاهب كلها أمام نظره ويتخير منها ما كان اقرب إلى طبيعة اللغة سواء كان القائل به بصرياً، كوفياً او بغدادياً أو اندلسياً، وسواء كان صاحب الرأي المختار متقدماً او متأخراً" وخرج بهذا المسلك وبالمناقشة والنقد الى آراء قيمة حتى قال الأستاذ السقا: " ومباحث الدكتور مهدي المخزومي تعد من امتع الدراسات العلمية، فإنها قائمة على أساس علمي متين. وكتب الأستاذ السقا مقدمة الجزء الثاني (قواعد وتطبيق)، اثنى فيها على كتب المخزومي " وكل من استمتع بقراءة تلك الكتب رآى صورة واضحة هادئة من تفكير هذا الباحث المجدد، وقوة ملاحظته وأحاطته بمادة النحو إحاطة حسنة". وغادر السقا الجامعة فأسندت رئاسة قسم اللغة العربية فيها الى الدكتور المخزومي ومضينا في خدمة العلم والأخلاق بما قال عنا مسؤول كبير جعلوا الجامعة. جامعة، وقال آخر لقد: رفعتم رأس الأستاذ الجامعي، وأثبتم أن في العرب أساتذة. أساتذة.
قال ذلك ونحن نتأهب للعودة إلى الوطن، وفي الوطن استأنفنا التدريس والتأليف، وأسندت- لحين رئاسة قسم اللغة العربية الى الدكتور المخزومي ثم كانت له مشاركة فاعلة في إخراج الأجزاء السبعة لديوان الجواهري، وكان جهده المضاعف في تحقيق كتاب " العين" للخليل. وكان ذلك خلال مرضه الذي كان له وقع الصاعقة على عارفي فضله ومحبيه. وما كانت تجري من دون تعكير، والرجل يتحمل صابراً مترفعاً عن الشكوى... مقتنعاً بزاوية من بيته لم تلبث أن استحالت ندوة مصغرة يلتقي فيها الأحباب من المثقفين والمفكرين، وللغة حظ وافٍ من حظوظها. وفي ذات جمعة. والندوة عامرة يتصدرها أبو المهند وإذا بالقدر المحتوم يسدل أستاره على القلب الكبير الذي طالت معاناته فكان الحادث الجلل والفقد الفاجع فإذا القوم في حيرة من الأمر، وفي حزن للأمر، وفي حيرة وحزن ودموع وضياع، وكلما انتشر الخبر انتشر الحزن والأسى.. والأسف حتى إذا أعاد الزمن الإنسان بالصبر، وألاذه بالفكر، وجد أن الموت حق، ويكفي الفقيد فضلاً أن يمضي مرضياً نقياً، ماجداً، على ما يسر الصديق ذكره، من فضائل.
هكذا فارق المخزومي هذه الدنيا، فارقها وهو على زهده وعفته وسموه وصبره. ومن كان همه في اللغة كان اكبر من الدنيا، فكيف وقد اتسع الهم اللغوي لهم الأمة، واتسع هم الأمة لهم الإنسان؟ اجل، هكذا مضى المخزومي ماجداً نقياً...
مضى طاهر الأثواب لم تبق روضة غداة ثوى إلا اشتهت إنها قبر...
مضى طاهر الاثواب