بمناسبة عيد الثمانين..إبراهيم كردي/ مثال من ذاكرة النضال العفوي../جاسم المطير

في 13/12/1953 وصل سعيد قزاز وزير الداخلية إلى البصرة بعد تصاعد إضراب عمال شركة نفط البصرة مطالبين بزيادة الأجور وتحسين شروط معيشة حياتهم ومطالب أخرى تتعلق بأوضاعهم الصحية والسكنية. كانت البصرة في حالة غليان جماهيري وكان القائد الشيوعي سلام عادل يقود الإضراب بنفسه.
تأزم الموقف أثناء مفاوضات العمال مع الوزير ، ثم حدث التصادم بين المتظاهرين والشرطة، التي اندفعت بأمر الوزير لضرب المتظاهرين وكان المدعو عبد الودود عيسى ممثل الشركة في المفاوضات عنيداً هو الذي يحرض ممثلي الشركة على عدم الاستجابة لمطالب العمال.
كنت في مقدمة الواقفين بباب المتصرفية (المحافظة) شاهدتُ شاباً جريئاً وقوياً مفتول العضلات لا يرتدي إلاّ قميصاً نظيفاً رغم البرد الشديد في ذلك اليوم، يتحرك وسط المتظاهرين ومعه إثنان آخران هما سوادي كاظم ، والمدعو عبد قيمة ( يحب أكلة القيمة يتناولها يومياً) . كان يبدو عليهم التذمر والشراسة . صاروا جميعاً بجانبي وهم يتهامسون فيما بينهم .ثم سمعت الشاب يقول بصوت عالٍ: سألقن عبد الودود العيسى درساً في الأخلاق إن خرج من الباب.
كانت سيارة الوفد الإنكليزي (وفد الشركة) واقفة قرب باب المتصرفية والجماهير تهتف بحياة الطبقة العاملة بينما بدأت المظاهرات الطلابية تأتي من ثانوية العشار ومن متوسطة المعقل ومتوسطة البصرة و غيرها لتنظم إلى المتظاهرين المتجمهرين في الساحة الواسعة أمام مبنى المتصرفية . من داخل المتصرفية كان عبد الودود العيسى ينقل إلى الصفوف الأمامية من المتظاهرين بأن النية متجهة لضرب الرصاص وإعلان الأحكام العرفية.
صاح إبراهيم كردي:
ـ ماذا تقول يا عبد الودود . لا نسمع ما تقوله.
كان في نية إبراهيم كردي نصب كمين لعبد الودود. كرر قوله:
ـ سأعطيه درساً لن ينساه إذا مدّ رأسه إلى الخارج.
أراد عبد الودود أن يتجه إلى الباب الخارجي لكن أفراد الشرطة حذروه و منعوه. قال له معاون الشرطة (برتبة ملازم أول):
ـ لا تخرج يا عبد الودود . هناك إبراهيم يقف في الساحة ربما يعتدي عليك.
ـ من هو إبراهيم هذا..؟
ـ أنه إبراهيم كردي .
ـ ومن يكون هذا الكردي ..؟
ـ أنه أقوى (الأشقياء ) في المدينة. الشرطة يخافون منه . أنا أخاف منه . أنه عدو الشرطة رقم واحد.
ـ هل هو من عمال النفط..؟
ـ كلا أنه شيوعي..
وجد عبد الودود العيسى نفسه في موقف تحد واضح:
ـ سأخرج وأتحداه.. سأعطيه درسا أوليا في الأدب..
قال الملازم:
ـ لكننا لا نستطيع أن نحميك.
أغتاظ عبد الودود الذي لم يكن يتوقع تصريحاً كهذا من ضابط في الشرطة:
ـ الإنكليز سيحمونني إن تخليتم عني يا شرطة الوزير سعيد قزاز.
ـ لن يحميك أحد من إبراهيم كردي.
خرج عبد الودود على بعد خطوتين من باب المتصرفية ليعلن: أن وفد الشركة رفض جميع مطالب العمال المضربين. وعلى الجميع أن يتفرقوا ومن لا يطيع سنكسر رأسه.
قبل أن ينهي كلامه وجد نفسه ملطوماً على فمه بقبضة إبراهيم كردي ساقطاً على الأرض وهو ينزف دماً من أنفه ومن فمه، ثم ركله بقدميه قائلاً:
ـ سأمرغ أنفك بالتراب أيها العميل الصغير.
حاول أفراد الشرطة إنقاذ عبد الودود العيسى من بين يدي إبراهيم كردي بينما كان يصيح بأعلى صوته:
ـ أنا مع العمال .. لست مع الأجنبي. أنا معك يا إبراهيم.
كان عبد الودود ممدداً على الأرض. أفراد الشرطة يخشون التقرب من إبراهيم.
حين تقدم ثلاثة من أفراد الشرطة وهم في حالة من التوسل بإبراهيم ، كما أنهم كانوا في حالة تردد من التقرب إليه . قال لهم تعالوا خذوه وعلموه أن لا يشتم الشعب . إن فعلها مرة ثانية وشتم الشعب أو الشيوعية سأقطع لسانه والله العظيم.
انتهى المشهد بإيقاع تسعة إصابات جرحى من الشرطة ، وحطم المتظاهرون سيارة شرطة وكسروا زجاج سيارة الوفد الإنكليزي المفاوض.
في الثانية بعد ظهر يوم 15/12/ 1953 انطلقت مظاهرة ضخمة في شارع الصيادلة باتجاه الأسواق الرئيسية في العشار . كانت المظاهرة تندد بالأحكام العرفية التي أعلنتها الحكومة في منطقة البصرة ، كما كان إبراهيم كردي يوزع بنفسه بيان اللجنة المحلية للحزب الشيوعي الذي يدعو أهالي البصرة إلى الإضراب العام احتجاجا على إعلان الأحكام العرفية. وقد نجح الإضراب فعلاً في مختلف أنحاء البصرة.
أثناء سير المظاهرة ، كان إبراهيم يهتف: يسقط الانكليز. تسقط الحكومة. يسقط نوري السعيد.
بعد انتهاء المظاهرة الناجحة، قال له شاكر علوان القيسي أحد أعضاء الوفد العمالي المفاوض مع الوفد الانكليزي، أن نوري السعيد ليس عضواً في الوزارة الحالية.
أجابه إبراهيم: لا تصدك. يشتغل من وره البردة.
منذ ذلك اليوم عرفتُ شجاعة إبراهيم كردي ونقلتُ موقفه وأخباره إلى مسئولي الحزبي الذي نقله بدوره إلى سلام عادل والى جميع القادة الحزبيين. أتضح لي أن إبراهيم كردي وهو من الإخوة الفيلية وهو يلقب بــ (نصير الفقراء والمظلومين ) من المرتبطين بعلاقة صداقة وطيدة مع الحزب الشيوعي، وأنه لا يوجد شرطي أو مسئول في البصرة لا يهابه. كان يتعاطف و يستجيب لطلب كل مواطن له حق مغدور في مراكز الشرطة فيذهب إلى المركز ليطلق سراحه إنْ كان مظلوماً فعلاً.
في الحملات التي كانت مديرية أمن البصرة التي كانت تسمى آنذاك (الشعبة الخاصة) تشنها بين آونة وأخرى ضد الشيوعيين واليساريين ، كان إبراهيم كردي يتقاتل معهم لمنعهم من اعتقال هذا وذاك من الشيوعيين المعروفين لديهم.
ذات ليلة نصب الأمن (الشعبة الخاصة ) كميناً لاعتقالي ليلة 24/12/1954 تخلصتُ منه بعد مقاومة، وشاءت الصدفة أن يكون )إبراهيم كردي( مع زميله (سوادي) مارين في الشارع الموازي للشارع الذي فيه الكمين . كان شرطيان يلهثان وراءي للقبض عليّ، فأوقفهما إبراهيم بصوت واحد: قف.
فوقفا كجنديين مطيعين لسيدهما.
كان إبراهيم كردي يستلم عدداً كبيراً من جريدة الحزب لا يقل عن عشرة نسخ، بينما كنتً أعرف أن عدد أصدقائه المقربين لا يزيد على ثلاثة..
سألته :
ـ مَن مِن أصدقائك يقرأ جريدة الحزب..؟
أجابني بشي من الامتعاض:
ـ أنهم قليلون. أنكم تعطوني عشرة فقط . لمن أعطيها بالله عليكم. أضطر لإيصالها إلى المتصرف ومدير الشرطة والى مأمور مركز العشار ومدير المعارف.أعطوني أكثر حتى أوصلها إلى ( الكادحون..) دائماً كان يلفظ هذه الكلمة ( الكادحون) بغض النظر عن حالات النصب والجر. ( لا يوجد في العالم أشرف من الكادحون وانتم لا ترسلون لهم جريدة الكادحون).
ذات مرة أقترح علينا أن يجمع تبرعات للحزب من التجار وقال أنه سيجلب ألف دينار من كل تاجر غني. خففنا من حماسه خشية أن يرتكب أخطاءً بحق الحزب. وأتذكر أنه جمع (1300) فلساً في تلك الحملة من أصدقائه ( الكادحون..) بينما تبرع هو بمبلغ قدره ديناراً واحداً وكان في ذلك الوقت مبلغاً عالياً.
أسقطوه قتيلاً. مات واقفاً بطعنة سكين. لم يستطيعوا قتله بقتال وجهاً لوجه . قتلوه غدراً من الخلف بعد أن أشتروا بالمال والتهديد أحد أصدقائه.
حين سقط على الأرض ، نظر إلى وجه قاتله قائلاً بصوت مسموع: يسقط الاستعمار .. تسقط الرجعية .
لم يكن إبراهيم كردي يعرف شيئاً عن الاستعمار والرجعية غير أنهما الظلم حسب.
مات قبل أن يصل المستشفى فحزنت مدينة البصرة ، أناساًونخيلاً ، على فقدان ( الفتى الشقي ) إبراهيم كردي عدو الشرطة الرجعية ونصير الفقراء ، الصديق الشجاع للحزب الشيوعي العراقي .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
بصرة لاهاي