إحدى النتائج المهمة للنظرية الريعية، كما يرى بعض الباحثين (1)، تتمثل في أن المجتمع المدني قد أسقط مطالبه عن الدولة، لأنه لا يرى من حقه التأثير في السياسة. كما أن الدولة من هذا النوع نجحت، بشكل ما، في التخلص من وشائجها المدنية. هذه الاستقلالية عن المجتمع المدني مرتبطة بمداخيل النفط الكبيرة المدفوعة مباشرة للدولة.
أما على الصعيد الاقتصادي فإن السياسات التي تقوم عليها الدولة الريعية تفرز العديد من المشكلات الاقتصادية، تمثل بدايتها الاعتماد على أنظمة اقتصادية مهترئة واتكالية تميل نحو السلوك الاستهلاكي الغير منتج، وهذا بدوره يقود الى خلل في توزيع الدخل إذ أنه يقوم، في مثل هذه الدول، على المزايا السلطوية الناتجة عن النظام السياسي للدولة بدلاً من أن يقوم على أساس من التوزيع حسب الإنتاجية. والأمر لا يتوقف عند الخلل المتمثل في انعدام التوزيع العادل للثروات بل يؤدي إلى ظهور أمراض اقتصادية ينشأ عنها اختلالات اجتماعية. فمثل هذا النوع من الاقتصاديات يعتبر بيئة خصبة للفساد المالي والإداري والسبب هنا لا يتناول الجانب الأخلاقي بقدر ما يتناول ما تفرزه السياسات التي تتبعها الأنظمة وما ينتج عنها من نظم اقتصادية. وبمقارنة مبسطة بين الدول التي تتبنى اقتصاديات منتجة والدول ذات الاقتصاديات الريعية سيتبين ذلك الخلل الناجم عن عدم إعادة توزيع الدخل وهيكلة الهيئات المسئولة عن عملية توزيع الموارد. هذا مع العلم ان من النادر أن نرى أسلوب حكم واحد صرف في أي مجتمع ريعي، والأكثر شيوعاً تعايش نظام السلطة التقليدي – الميراثي Patrimonialism - جنبا إلى جنب مع أشكال سلطة مغايرة قائمة على البيروقراطية.
وعلى الصعيد السياسي يلاحظ ثمة تنازل عن الصوت الانتخابي الديمقراطي مقابل الحصول على تعويضات مصدرها الريع المركزي للبلاد اي التنازل عن دفع الضرائب مقابل التنازل عن الصوت الانتخابي .ومن أبرز افرازاته:
- ظهور توجهات لتركيز السلطة والثروة على خطوط أسرية وعشائرية وطوائفية ومناطقية (2).
- تطور النظام إلى نوع من حكم القلة أو الطغمة (اوليغارشية Oligarchy)، فقد تكونت في العديد من البلدان الريعية وخصوصا في الخليج (وليس وحدها طبعا) شريحة صغيرة من الشيوخ والضباط ورجال الأعمال تختلف بقيمها وثقافتها السياسية المختلفة عن قيم المجتمع. وتمكن أفراد تلك الشريحة من خلال سيطرتهم على المواقع العليا التي تتدفق من خلالها الريوع النفطية من الإثراء الشخصي على حساب التنمية والأهداف الأخرى، وهكذا تم " خصخصة " الدولة من خلال الهيمنة عليها عبر هذه الشرائح.. وحل معيار الولاء محل معيار الكفاءة ومحاربة الفساد. ومن الواضح أن الريع قد لعب دورا ما في ظهور حكم القلة وفي إعاقة نمو الدولة وافتقارها إلى القدرة والشرعية. والملاحظ في بعض البلدان انه يجري تقديم " تبرير ديني " للفساد بوصفه انتزاعا لحق معلوم من " بيت مال المسلمين " في مقابل تأكيد وجوب طاعة " اولي الامر " الاوليغارشية " كعلاقة تبادلية في المنافع والمزايا والموارد ضمن ترتيبات الحكم (كنوع من الرشوة والاستمالة)، بما يساهم في ترسيخ التهميش واللامساواة الطبقية/الاجتماعية (3).
ومن جهة أخرى فقد ساهم الاقتصاد الريعي، بطرق مختلفة، في ظهور أو على الأقل تقوية الجماعات غير الرسمية من جهة وفي ظهور الصراعات العنيفة التي تخوضها بعض تلك الجماعات مع الدولة. فقد عمل الريع، سواء أكان مصدره القابضين على السلطة أو الخارج، على تقوية الجماعات غير الرسمية وتعزيز استقلالها عن السلطة. كما ساهم الريع في تكريس هشاشة الدولة وفشلها في التوزيع العادل للثروة، وبالتالي تشجيع بعض الجماعات غير الرسمية على التمرد عليها. وجاءت أزمة الاقتصاد الريعي بكل تفاصيلها وسياقاتها لتسهم بدورها في تحويل تلك الصراعات إلى صراعات مزمنة.
إن تناول أشكال التغيير الإيدلوجي الذي شهدته منطقة الخليج مثلا خلال العقود الأربع الماضية تحديداً والناتج عن غرقها في اقتصاديات غير إنتاجية يساعد في تفسير الكثير من الظواهر التي نتجت عن "الإثراء النفطي" خاصة ما يرتبط بنزعات التطرف. وهذا لا يعني أن هذه البلدان هي من البلدان المصدرة للتطرف أو الإرهاب وإنما يوضح أن ما أفرزته "الطفرة" الاقتصادية النفطية والتي لم تتبع بتطور في مفهوم توزيع الثروة وإعادة توزيعها قد خلق خللاً اجتماعيا فظهرت شرائح من الشباب العاطلين عن العمل والذين لم يتم استغلال طاقاتهم وتوظيفها فأصبحت ضحية لطموحاتها، ولم تستطع سياسات هذه الدول أن تغير أو تساعد على إعادة هيكلته ليتفق مع احتياجات المجتمع الخليجي الشاب (نسبة الشباب من سن 15 إلى 35 عام تمثل ما يزيد على 70% في بعض دول الخليج).
إن أخطر ما تعاني منه الدولة الريعية هي أنها ترسي أسس استمراريتها على ما تسيطر عليه من موارد وما تقدمه من خدمات، هذا اضافة الى أن أدائها يتوقف دوماً على مقدار ما تجبيه من ريوع وهي في العادة ضخمة. فوفقا للاحصائيات المتوفرة فان إيرادات منظمة البلدان المصدّرة للنفط،(أوبك OPEC)، تخطت عتبة الألف ملياردولار (تريليون دولار) في عام 2011،وذلك للمرّة الأولى منذ نشأتها في عام 1961. هذا مع العلم ان (أوبك OPEC)تمثل بلداناً يبلغ حجم سكانها 415.7 مليون نسمة بناتج إسمي يبلغ 2.905 تريليون دولار. كما أنها وبنهاية عام 2011 صدّرت وقوداً أحفورياً (نفط خام وغازطبيعي) بقيمة 1078 ملياردولار (4).
ويجمع منظرو (الدولة الريعية) على أن نشاطات هذه الدولة تخلق حالة من الخضوع لدى المواطنين. فهؤلاء لا يرون أهمية للفوارق في توزيع الثروة، ولا تمثل هذه الفوارق حافزاً كافياً لمحاولة تغيير النظم السياسية. ومع تجنب التعميم، يكمن الحل بالنسبة للفرد الذي يشعر بالغبن لمشكلاته أساساً في المناورة لحيازة منافع أكبر بواسطة النظام القائم وليس في التعاون مع آخرين يعيشون حالته نفسها لأجل التغيير (5).
الملاحظة أعلاه مهمة جدا ويمكن لها ان تفسر سلوك قطاعات واسعة في بلدنا، العراق، والتي تعاني من مختلف آثار السياسات التي تنتهجها القوى المتنفذة التي تستند الى اقتصاد ريعي- خدماتي، ورغم كل تلك المعاناة إلا أنها لم تتيح لحد الآن بلورة وعي يؤدي الى طرح بدائل للنظام الحالي بل ما زالت تراهن على حل مشاكلها في اطار النظام ذاته.
وأخيرا يلاحظ تنامي ظاهرة المضاربة بحيث ارتبطت فكرة الريع بهذه الظاهرة. فإذا كان الريع يرجع عادة الى بعض المزايا الخاصة وغير المرتبطة بالجهد، فان ذلك سرعان ما يؤدي الى قيام عقلية المضاربة التي تسعى الى تحقيق فرص الربح في جو يتيح امكانيات الكسب دون جهد. فمثلا عرفت دول الخليج النفطية مراكز متميزة للمضاربة، خاصة في مجالات المضاربات العقارية ثم المضاربات المالية في أسواق الأسهم. وهي كلها لم تكن بعيدة عن سيادة العقلية الريعية في تحقيق المكاسب.
مخاطر الاعتماد على الدخول الريعية.
ثمة العديد من المخاطر الناجمة عن الاعتماد على الدخول الريعية ومن بينها على سبيل المثال لا الحصر (6):
- وضع الاقتصادات تحت رحمة المتغيرات الخارجية بمعنى أن أي هزة أو أزمة تصيب حركة التجارة الدولية والاقتصاد الرأسمالي العالمي تنتقل بسرعة إلى اقتصادات الدول الريعية وكثيراً ما تحدث هزات اجتماعية شديدة الوطأة كون أن هذه الاقتصادات رخوة ولا تستند إلى هياكل إنتاجية صلبة ذلك أن بنية الاقتصادات الريعية هي في الواقع بنية غير إنتاجية حيث اقتصادها عادة ما يكون احادي الجانب ومتخلفا وتابعا.
- يتميز الاقتصاد الريعي بدوافع الاستهلاك الترفي لدى السكان عموما ويساعد على زيادة الفجوة بين الطبقات بقدر الاقتراب أو الابتعاد عن السلطة ومراكز صناعة القرار. وعادة ما تعمل السلطة التي تعتمد على الدخول الريعية بالإبقاء على موازين القوى على حالها دون العمل على تطويرها بحيث تبقى العلاقات بين الحاكم والمحكوم مجرد علاقات تحكمها قدرة من يملك ويعطي ومن ينتظر المنح والهبات.
- وهذا ينعكس على المجتمعات ويؤدي إلى تعظيم " ثقافة الاستكانة " على حساب ثقافة المطالبة بالحقوق. ويلاحظ هذا جلياً في العديد من البلدان العربية التي يعتمد سكانها على اقتصادات الريع وكيف تسيطر العلاقات البطرياركية (الأبوية) على العلاقة بين الحكام والمحكومين. فالاقتصاد الريعي يتلائم مع طبيعة النظم السياسية التي تحكم من خلال فئة أو جماعات بعينها تستند على توزيع الريع وفقاً لولاءات الفئة او الشريحة أو العشيرة أو الطائفة ... إلخ، وهذا النظام الفئوي يتواءم ويتحالف مع الطغيان والاستبداد، يوزع الريع وفقاً للقرب من السلطة ومركز إصدار القرار. وتبين التجربة أن اعتماد أي دولة علي مصدر واحد في دخلها القومي يقلص من الحراك الديمقراطي فيها بل ويصل في كثير من الأحيان الي تقليص المشاركة الديمقراطية بنسبة كبيرة (7).
- تشويه المؤشرات الاقتصادية من خلال تحويل أغلب الاستمارات إلى قطاع الخدمات والعقارات، وتحويل المجتمع إلى مجتمع استهلاكي، وإشاعة أنماط الاستهلاك الترفي والاستعراضي وشيوع ظاهرة المضاربة وبالتالي يوجد انفصال بين العمل ومردوده.
- انكشاف الاقتصادات الريعية على الخارج وتخضع الدول التي تعتمد على الريع (خصوصا غير النفطي) من ضمنها المعونات والمنح للإملاءات والشروط الخارجية والتي عادة ما تكون مجحفة وتخضع الدول للتبعية الاقتصادية والسياسية. وفضلا عن ذلك فإن من أهم مخاطر الانكشاف هو ذلك المتعلق بالتهديدات التي يواجهها الأمن الغذائي للبلدان العربية حيث يتم استيراد ما يربو عن 60% من الاحتياجات الغذائية والدوائية من الخارج.
- محدودية التطور في مقابل زيادة دخول شرائح اجتماعية بعينها إلى حد التخمة وزيادة معدلات الاكتفاء (أي حجب جزء من الدخول عن الادخار) ومن ثم ضعف التراكم الرأسمالي وعجز المجتمعات عن إضافة طاقات إنتاجية جديدة.
- سوء توزيع الدخل القومي وتمركز الثروات في مجموعات قليلة غالباً ما تحتكر السلطة والثروة بحكم قربها من " النخبة " الحاكمة. وهذه الظاهرة أدت إلى نشوء قطاع خاص طفيلي يعتمد على انتهازية الفرص لتكوين أموال وثروات من مصادر غير مشروعة ويكون الاعتماد من جانب هذه الفئة على علاقات متميزة.
- " الطبقة السياسية " الحاكمة تمتد أفقياً وعادة ما تعتمد العلاقات الاجتماعية على صلة القرابة والمصاهرة كما هو الحال في الدول الخليجية حيث الحكام من أسر بعينها وهي المسيطرة على المال والسلطة بحيث يتم، في العادة، توزيع المناصب السياسية ومواقع السلطة على أساس الولاء للحكام وليس على معيار الكفاءة.
وكما معروف فإن إعادة الإنتاج الموسع للطبقات الاجتماعية (للعلاقات الاجتماعية) تستلزم عمليتين لا يمكن تواجد إحداهما بمعزل عن الأخرى:
أ. تتمثل الأولى في إعادة إنتاج موسعة للمراكز التي يحتلها الوسطاء، وتجلو هذه المراكز التحديد البنيوي للطبقات، أي الطريقة التي من خلالها يعمل التحديد المذكور على ضوء البنية (علاقات الإنتاج ، علاقات السيطرة/الخضوع السياسية والإيديولوجية) في الممارسة الطبقية.
ب. اما الثانية فتتمثل في إعادة إنتاج للوسطاء أنفسهم وتوزيعهم على هذه المراكز. إن الوسطاء سيعاد إنتاجهم و " تدريبهم على الإذعان " لكي يحتلوا مراكز معينة، ولهذا فإن توزيعهم لا يعتمد على اختياراتهم أو طموحاتهم بل على إعادة إنتاج هذه الوظائف التي تسمح بإعادة إنتاج السيطرة دون " عوائق ". ونظراً لأن التوزيع الرئيسي يندرج تحت إعادة الإنتاج الرئيسية للمراكز التي تحتلها الطبقات الاجتماعية خلال مختلف مراحل تطور التشكيل الاجتماعي المحدد، فإن التوزيع الرئيسي هذا يعني لجهاز ما أو سلسلة أجهزة، الدور الخاص المنوط بها والذي ينبغي أن تلعبه في توزيع الوسطاء.
- نظرا لأن القسم الأعظم من دخول الدولة الريعية يأتي عن طريق الصادرات النفطية أو المواد الخام فإن تحصيل الضرائب (التي تمثل في العادة نسبة متواضعة من مجموع الايرادات العامة للدولة) لا يأتي ضمن أولويات السياسة المالية لهذه الدولة. واستناداً إلى ذلك تصبح مساءلة الشعب للسلطات التنفيذية محدودة أو حتى معدومة، الامر الذي يؤدي إلى التقليل من ضغط المجتمع المدني والمواطنين عموما في الرقابة على السلطات التنفيذية.
من الدولة الريعية الى الدولة التسلطية
قادت تجربة الدولة الريعية الى ظهور ما يطلق عليه ظاهرة الدولة التسلطية التي شملت المنطقة باكملها في هذه الفترة (8) وكانت من بين الاسباب التي ادت الى الانتفاضات الشعبية أو ما يطلق علية ابتداء منذ اوائل 2011 بـ " الربيع العربي ".
الدولة التسلطية، كما يحددها عديدون (9)، تخترق المجتمع المدني بالكامل وتجعله امتداداً لسلطتها، فتحتكر مصادر القوة والسلطة في المجتمع، وتهيمن على كل مستويات التنظيم الاجتماعي ومختلف الجماعات والقوى الاجتماعية، من خلال سن شرائع وقوانين من دون قيود او ضوابط. وهي إذ تقوم بذلك تجعل من نفسها ناطقة باسم " الشعب " و"الجماهير " وإن من دون علم الاخيرة وإرادتها، وتماهي بين الحاكم الذي تحيله الى رمز تاريخي فوق المساءلة والمحاسبة، وبين الوطن والأمة. ومن أجل فرض شرعيتها، طالما لجأت الى تأطير كلي للافراد والمؤسسات من خلال قوانين الطوارئ والاستخبارات والاعلام المقيّد والمراقب. وينحصر دور الشعب، في هذه الحال، في الخضوع والطاعة والتبجيل و" الفداء بالروح والدم " ويتحول القائد من جديد، الى ناطق باسم حق مقدّس معصوم، فتحرَّم النشاطات المدنية او تدجَّن، وتضيع بالكامل وتنحل استقلالية المجتمع إزاء دولة تتغول عليه وتفترسه، وتغدو كل المؤسسات، بما فيها الاجهزة الرسمية العسكرية والمدنية والقضائية، رهائن ارادة عليا تبتلع الجميع وتسكت كل الاصوات.
وثمة جملة خصائص تمييز الدولة التسلطية من بينها ما يلي (10):
1. تسعى هذه الدولة الى تحقيق الاحتكار الفعال لمصادر القوة والسلطة في المجتمع لمصلحة الطبقة المسيطرة أو الائتلاف الطبقي الحاكم. ولكن الدولة التسلطية، خلافا لكل اشكال الدول المستبدة، تحقق هذا الاحتكار عن طريق اختراق المجتمع المدني وتحويل مؤسساته الى " تنظيمات تضامنية " تعمل كامتداد لاجهزة الدولة.
2. خلافا لكل اشكال الدول المستبدة الاخرى، تخترق الدولة التسلطية النظام الاقتصادي وتلحقه بالدولة، وهذا ما قاد الى بروز " راسمالية الدولة التابعة ". والمقصود بذلك ان الدولة تقوم بالاستيلاء على الفائض الاقتصادي بدلا من الرأسماليين الافراد، وهي تابعة لأنها تدخل في علاقات اقتصادية وسياسية غير متكافئة مع الدول الرأسمالية المتطورة، مما يجعلها عرضة لتقلبات السوق الرأسمالي العالمي، حتى في أساسيات معاشها.
3. والخاصية الثالثة للدولة التسلطية هي أن شرعية نظام الحكم فيها تقوم على استعمال العنف (او القوة السافرة) والارهاب، اكثر من اعتمادها على الشرعية التقليدية.
إن الانفاق الحكومي الذي ترتب على ارتفاع الدخل من النفط، لا يعني تعاظم دور الدولة ومركزيته في حياة الناس السياسية فقط، إنما يعني أكثر من ذلك بكثير: إنه يعني اختراق الدولة الكامل للمجتمع وللاقتصاد، وتاليا بقرطته، كما يعني تحكم الدولة بالمصدر الاساسي للقوة المادية المتأتية من ملكية الموارد الاقتصادية للبلاد.
ملخص القول، إن الدولة التسلطية ليست نظام حكم فحسب، وإنما هي التعبير السياسي عن نظام اجتماعي – اقتصادي، اصطلح على تسميته برأسمالية الدولة التابعة (11)، تمد الدولة فيه اخطبوط تسلطها الى النظام الاقتصادي فتحتكر ملكية وسائل الإنتاج، والى النظام السياسي فتحتكر وسائل التنظيم، والى النظام الاجتماعي فتقدم نفسها بديلا عن مؤسساته. وفوق ذلك تستبدل الايديولوجيات المتنافسة بإديولوجيا التسلط والإرهاب وقيمه بقيم الاستهلاك الترفي، وحضارته بـ "حضارة" الخوف والرعب. وتقوم الدولة التسلطية بكل هذا مع بقاء علاقات الانتاج راسمالية او مبنية على مبدأ الاستغلال الطبقي، مهما موّه على تلك العلاقات.
وبهذا المعنى فقد أعاقت الدولة التسلطية التكّون المواطني بإحلالها مقولة "الجماهير " بدل "المواطنين" وإفراغها المواطنية من مضمونها التعاقدي، مكرّسة العلاقات القائمة على فكرة الرعايا على حساب العلاقات المدنية والمواطنية، فأسهمت في مد أمد الاجتماع السلطاني القائم على تغلب الحاكم وتفرده بالسلطة وولاء الرعية وانقيادها، في مقابل منافع يسديها إليها بوصفها اعطاءات لاواجبات (12).
الهوامش
(1) Najmabadi, A. (1987) “Depoliticisation of a Rentier State: The Case of Pahlavi Iran”. In Beblawi, H. and Luciani, G. (ed).
(2) Comp: Sean, L.Yom, Oil , Coalitions, and Regime Durability: the Origins and Persistence of Popular Rentierism in Kuwait,Studies in Comparative International Development, vol. 46, no. 2, pp. 217-241, 2011.
(3) لمزيد من التفاصيل انظر: فتحي العفيفي، " التعددية السياسية ومشكلة البيروقراطية السلطوية – دراسة في تحريرالاحتكار "،المستقبل العربي، العدد 253 (تموز/يوليو 2008)، ص 52.
(4) لمزيد من التفاصيل قارن: إيرادات «أوبك» تتخطى ألف ملياردولار. مقال متاح على الانترنيت علىا لرابط التالي:
http://www.al-akhbar.com/node/98281
(5) قارن: عبدالله جناحي، " العقلية الريعية وتعارضها مع مقومات الدولة الديمقراطية "،المستقبل العربي، السنة 25، العدد 288 (فبراير 2003)، مصدر سبق ذكره.
(6) لمزيد من التفاصيل حول هذه النقطة قارن على سبيل المثال لا الحصر: خلدون حسن النقيب، الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر...، مصدر سابق ؛ كذلك: حازم الببلاوي،" الدولة الريعية في الوطن العربي"،ورقة مقدمة الى: الامة والدولة والاندماج في الوطن العربي (ندوة)، تحريرغسان سلامة واخرون،ج 2، مصدر سبق ذكره.
(7) Comp: Ross, Michael L. (2012). The Oil Curse: How Petroleum Wealth Shapes the Development of Nations. Princeton University Press); Ross, M. (2001). Does oil hinder democracy? World Politics, no.35, pp.352-361.
(8) Amos Perlmutter, Modern Authoritarianism: A Comparative Institutional Analysis (New Haven, Conn.: Yale University Press, 1981).
(9) قارن: خلدون حسن النقيب، الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر. دراسة بنائية مقارنة (بيروت: مركزدراسات الوحدة العربية، ط 2، 1999).
(10) قارن: د.خلدون حسن النقيب، المجتمع والدولة...،مصدرسابق، 144- 153.
(11) لمزيد من التفاصيل حول هذه النقطة قارن: عادل غنيم، النموذج المصري لرأسمالية الدولة التابعة. ..، مصدرسبق ذكره؛ كذلك عصام الخفاحي، " البرجوازية المعاصرة والدولةالمشرقية. دراسة مقارنة لمصروالعراق ". جدل، الطبعةالأولى،اب/1991،ص 173 ولاحقاً.
(12) قارن: كريم الحلو، مقدمات وأفكارفي الدولة التسلطية العربية. متاح على الانترنيت على الرابط التالي: http://www.mokarabat.com/m1234.htm