انتكاسة ١٠حزيران .. دروس وعبر للحاضر والمستقبل / ماجد الياسري

في السياسة العراقية ليس كل شىء كما يبدو على السطح. فوراء الشخصنة والتخندق والتجييش السياسي والاثني والطائفي قدر كبير من المغالاة والبراغماتية والميكافيلية في تبرير أية وسيلة لتحقيق أهداف غالباً ما تصب في تعزيز النفوذ والتفرد والثروة لفئة او فرد دون حساب للآخرين او المصلحة الوطنية العراقية، مغلفة بعقلية "الحصار" والتمترس بالمنطقة الخضراء الكبيرة او اخرى أصغر في مناطق من بغداد بفعل الحراسات المشددة وإفراغ شوارع بكاملها وجعلها مقفلة لهذه النخبة السياسية او تلك، وغلبة عقلية التآمر وتبشيع المقابل في التحليل السياسي. ومما يزيد من خيبة الأمل لدى المواطن العراقي، هو ان تداعيات انتكاسة ١٠حزيران 2014 لم تجد طريقها الى ان تتحول الى فرصة لانتهاج طريق مغاير للوصول الى شاطىء الأمان وإنقاذ البلاد من ويلات الارهاب والمفخخات والجريمة المنظمة والفساد السياسي والمالي وضمان وحدة حقيقية مستندة على متطلبات بناء دولة عصرية فاعلة تحافظ على وحدة البلاد بالاعتماد على الدستورالعراقي وإنجازات تحقق للمواطن ما يهدف اليه من ضمانات اجتماعية وحياة لائقة وكريمة وآمنة والتي افتقدها في زمن النظام البائد والحالي.
ومن الجدير بالإشارة ان استهداف الموصل من قبل داعش وحلفائها من العصابات والجماعات الإرهابية ليس مفاجئا او سراً وليس بحاجة الى جهد استخباري، فالمتابع للوضع الداخلي السياسي والأمني للمحافظة يدرك انه لم يكن مستقراً، وفاقم منه التوتر بين الادارة المحلية، التي تحاول ان تجد لها دورا اكبر في إدارة شؤون المحافظة وصولا الى الإقليم الطائفي وبضمنها إدارة وقيادة منفردة للجهد العسكري والأمني وتروج لفكرة تسليح رديفة على اساس عشائري وطائفي، والحكومة الاتحادية التي تسعى، ولأسباب لا تختلف عنها في الجوهر، الى مركزة كل القيادات العسكرية للجيش والاستخبارات والأمن ومديرية مكافحة الارهاب بالعاصمة بغداد اضافة للقدرات الإدارية والاقتصادية تحسباً من تحولها الى حاضنات مضادة للمركز تسهل إجراءات معادية لها كالإرهاب او الانقلابات العسكرية من منطلق ان هناك عدوا في كل زاوية ومن ليس معي فهو عدوي. وتحيط بالكل مجاميع من المستشارين والخبراء المنتفعين من الأوضاع الحالية والفوضى الإدارية للتبشير بحلول متطرفة قوامها التهميش والإقصاء واستخدام العنف وهراوة السلطة وتفعيل الفقرة ٤ ارهاب والمخبر السري ودور المليشيات للتعامل مع الرأي المخالف بقسوة متناهية.
كما لم يكن نشاط المجاميع الإرهابية داخل مدينة الموصل سراً بل يجري تحت أنظار الادارة المحلية وأجهزتها خاصة في جمع الإتاوات من التجار والمقاولين وأساتذة الجامعات والاطباء والصيادلة وغيرهم، والى حد ان المجاميع الإرهابية اعتبرت مدينة الموصل حاضنة مالية من الدرجة الاولى ولها حصتها من حسابات سرقة المال العام من قبل الحيتان الكبار في الحكومة والإدارات المحلية .. الاّ ان الملفت للنظر هو سرعة انهيار المنظومة العسكرية والأمنية الاتحادية والمحلية وهروب القيادات العسكرية والمدنية العراقية والموصلية بينما بادرت فصائل الجيش الكردستاني وبسرعة بالانتشار في كركوك والمناطق المتنازع عليها لملء الفراغ وبدون مقاومة او منافسة تذكر من المجاميع الإرهابية والتي، ولتثبيت وجودها الإرهابي، صبّت جام غضبها وحقدها وساديتها على المواطنين في نينوى وضواحيها بشكل عام والمنتسبين للمذهب الشيعي بشكل خاص، واستهداف المرقدين في سامراء وبهدف واضح لتحفيز ردود فعل طائفية انتقامية من الجانب الآخر. وقد علق احد أصدقائي على ذلك بالتساؤل عن فاعلية ومصداقية أجهزة مكافحة الارهاب والمخبر السري ودقة المعلومات والعمليات الاستباقية ومبالغات الدعاية الإعلامية عن النجاحات المفتعلة.
وفي خضم التصريحات المتناقضة للنخب السياسية، التي اتسم بعضها بردود الفعل المتسرعة والتشنج وتبادل الاتهامات بعد ١٠ حزيران ٢٠١٤، فيما سعى البعض الآخر الى البحث عن كبش فداء للتخلص من السؤال المنطقي "أين كُنْتُمْ يا حكومة اتحادية او إدارة محلية؟ "، غابت القضية الرئيسية وهي ان هناك وضع جديد حرج على الارض واكثر تعقيدا وحدّة يتطلب التعامل معه بأعصاب حديدية بعيداً عن الفزع والتجييش الطائفي وبمنهجية جديدة في تدقيق واعادة رسم السياقات والتاكتيكات العسكرية الأمنية لتعزيز الجبهة الداخلية وتحديد جديد للأولويات السياسية والتنفيذية الجديدة وما ستفرض من حسابات آنية يجب تقبلها او احتوائها والتعامل معها من منظور عراقي وطني، خاصة وقد بدأ الاعلام الغربي والإقليمي، وبدرجة أقل العراقي، يردد ما يسمى بآراء الخبراء الذين يتعاملون مع العراق تاريخاً وسياسة على اساس أنصاف الحقائق، والهدف من ذلك هو تقديم دعم نظري وتحليلي لمقولة ان العراق بلد مفتعل بسبب تكوينه الاجتماعي والاثني وان لا مستقبل له، وكأنهم غافلون عن حقيقة ان حدود العالم كلها مصطنعة وحتى المستقرة منها، كما في بريطانيا مثلاً حيث يسعى الحزب القومي الإسكتلندي الى انفصال سكوتلندا، وان حدود أوربا قد رسمتها الحروب الإقليمية والعالمية. كما ان بعض التصريحات العراقية المحلية لخبراء وسياسيي وإعلاميي ما بعد ٢٠٠٣ تنعى العراق وتعتبره تكويناً جغرافياً وليس سياسياً وتلغي الحدود التي رسمت بعد الحرب العالمية الاولى للمنطقة وتبشر بالثالوث الشيعي - السني -الكردي والولايات العثمانية الثلاث، وما يقارب مئة عام من وجود العراق كدولة وحكومة وجيش وشعب. وبعضها يمثل امتداداً للاتفاق السياسي في مؤتمر لندن في كانون الاول ٢٠٠٢ الذي وفر غطاءً سياسياً للاحتلال في حينه، وتجسد في الواقع العملي بعد ٢٠٠٣ بإلغاء مؤسسات الدولة العراقية عدا النفط وتركها للنهب والسرقة وحل الجيش بشكل فوضوي متسرع وتطبيق اجتثاث البعث وتكريس المحاصصة الطائفية كأساس لبناء العراق الجديد. وصفق لها في العراق العربي البعض ممن يسعون الى كسب نفوذ وثروة وموقع بالاتكاء على المحتل.

هل التقسيم يمثل حلاً؟

فهي تطرح المستقبل بشكل مبالغ من التبسيط وكأن التقسيم سينهي مشاكل العراق وبدون أية أدلة تاريخية، أو جغرافية ارضية او بشرية تثبت ان هذا سيكون حلاً ناجحاً ومُرضياً ينهي النزاعات، مع طمس الهوية القومية للشعب العربي في العراق بكل ما لديه من امتداد تاريخي مشترك ولغة واحدة وتجزئته على اساس طائفي وتترك المكونات القومية الاخرى على هويتها القومية على الرغم من انها تتجزأ أيضاً على شكل طوائف ومذاهب متعددة، كالكرد والتركمان ولا تخلو من صراعات سياسية. والهدف هنا واضح، من قبل جهات إقليمية تتسابق فيما بينها لتتقاسم مصالح سياسية او نفطية او اقتصادية عامة وبدعم ومشاركة من أطراف وجهات سياسية عراقية ترى في هذا التقسيم طريقا قصيراً وسهلاً لمنع تطور العملية السياسية باتجاهها السليم لإقامة دولة عراقية اتحادية فاعلة ونشطة تعتمد الديمقراطية وتبني اقتصاداً ومجتمعا لصالح الشعب العراقي، وللحصول على الثروة والسلطة والنفوذ ومدعومة من عصابات الجريمة المنظمة وبقايا النظام السابق والارهاب. ولا يجب التقليل من الدور المساعد لما سمّي لفظاً بحكومات الشراكة الوطنية والمبنية حقاً على اساس المصالح الطائفية التفكيكية المعرقلة لبناء دولة اتحادية فدرالية بحكومة فاعلة وجيش قوي مبني على اساس عقيدة وطنية عراقية ومهنية عالية.
ولابد هنا ان نشير الى خصوصية الشعب الكردي الذي جرى التفريط بحقه القومي المشروع في تقرير مصيره وإقامة دولته الكردية على أرضه في ١٩١٩ بسبب مطامع القوى الكبرى بعد الحرب العالمية الاولى. ولكي يكون النظام العراقي ديمقراطياً فعلاً يجب ان يساعد الكرد على تحقيق هدفهم في حق تقرير المصير عبر الشرعية الدستورية والتطور الطبيعي وإيجاد حلول واقعية ومقبولة من قبل كل الأطراف للمشاكل التي تبرز في تطوير العملية الديمقراطية. ان الديمقراطية الحقيقية في العراق تتعدى الاستحقاق الانتخابي، بل ان جوهرها يكمن في التعامل دستورياً مع الطموحات المشروعة للمكونات القومية للشعب العراقي. هذا الواقع الذي يتطلب احياناً علاجات قاسية حسب النظرات المستبدة لمروجي نظرية "الدكتاتور المستبد العادل" كونه الوحيد القادر على معالجة مشاكل الشعوب العربية والاسلامية. وهي رسالة يروج لها جيش من المستشارين والمستفيدين مالياً واجتماعياً من بقاء الأمور على حافة الأزمة. وتعتمد هذه المعالجات على تشخيص الأخطاء والنواقص وإلغاء عدد غير قليل من الإجراءات والقرارات ولكن على اساس احترام الدستور والسلطة القضائية.
وتشير علوم القيادة الإدارية حول معيار المهارة في زمن الأزمات والمخاطر كالتي يمر بها العراق حالياً، والتي هي في تقييم الواقع واعادة تدقيق المخاطر موضوعياً ورسم سياقات وحلول جديدة قد يكون بعضها غير محبذ باعتبارها تنازلات، في فترات الهدوء السياسي، وتراجعاً عن قرارات سابقة لتهيئة ظروف افضل لاحقاً للتقدم نحو الأمام للوصول الى شاطئ السلامة والأمان. أي ان خطوة الى الامام خطوتان الى الوراء هو تكتيك مناسب في حالة توازن قوى ليس في صالحها الاستمرار بالهجوم، مع تشخيص الحلقات الرئيسية للمهمات في فترة ما بعد ١٠ حزيران. والمقياس الآخر للمهارة هو في تحقيق التوازن بين سرعة التصدي للهجوم الإرهابي ومهمات تصليب الوضع الداخلي وبين ما يحتاجه الوصول الى توافقات سياسية باعتماد الحوار تشمل جميع من له مصلحة في بناء العراق الديمقراطي الاتحادي والتصدي لإرهاب داعش وحلفائها.
لمواجهة تحديات هذا الواقع الجديد هناك حلقتان رئيسيتان تتفرع كل منهما الى مهمات فرعية لا يمكن لأحداهما تحقيق نجاحات نوعية دون الأخرى. الأولى تحقيق انعطاف في الوضع السياسي وإنجاز تبعات الاستحقاق السياسي بعقد اجتماع ناجح للبرلمان ينتخب رئيساً له ويقر تثبيت رئيس الجمهورية وتكليف رئيس جديد للوزراء وما يترتب على ذلك من خطوات لاحقة لتثبيت شرعية مؤسسات الدولة والقضاء. والثانية تتعلق بالجهد الأمني والعسكري لمواجهة الارهاب. وكلا الحلقتين مترابطتان تكمل إحداهما الاخرى.

السبيل للخروج من واقع الازمة الراهنة

لكن ما يجري من حديث متصاعد عن تصعيد التطوع تحت عناوين للتجييش الطائفي، علنية ام مستترة، وفسح المجال للمليشيات لتصفية الحساب، سيجد طريقه أيضاً الى الفشل ويفتح ثغرات جديدة، منها ان يتكرر المشهد السوري بصيغة عراقية. لأن السبيل الوحيد للخروج من هذا الواقع الصعب هو تشكيل حكومة وطنية عراقية قائمة على اساس المهنية والكفاءة وتشمل كل من يدعم إنهاء الوضع الاستثنائي الحالي، مدعومة بآلة عسكرية فاعلة تعتمد المهنية المعروفة عالمياً في القيادة والسيطرة والتعبئة والتحشيد وترجمتها عراقياً، لأن هذه المجاميع المسلحة ستسعى في ما بعد و بقوة السلاح لفرض شروطها ومصالحها فالصراع الحالي هو أساساً من اجل السلطة والثروة والنفوذ مغلف بشعارات دينية او طائفية او عشائرية ولتبدأ حلقة جديدة من العنف وسفك الدماء.
وأود هنا ان ألخّص بعض الآراء والتفكير بصوت عالٍ حول ما يدور من المقترحات بشأن تبعات ما بعد ١٠حزيران سياسياً وعسكرياً، وما يمكن النهوض به من مهمات للتصدي للتحديات في الوضع العراقي والإقليمي:
1. ان الدولة العراقية تواجه ومنذ ٢٠٠٣ أخطبوطاً من التنظيمات الإرهابية وبقايا النظام السابق وعصابات الجريمة المنظمة التي تنظر الى ما يجري باعتباره فرصة ذهبية للحصول على مغانم اقتصادية عبر الترهيب والترغيب والتهريب وغسل الأموال، وليس عدوا تقليديا على شكل جيش نظامي وخنادق مواجهة واضحة. فالجهد العسكري التقليدي وحده قاصر عن تحقيق أهداف مؤثرة تمنع التدهور الأمني والسياسي إن لم تكن في سياق رؤية استراتيجية شاملة. لا يعني هذا التقليل من الجهد العسكري بل على العكس دعمه، والذي تكون له غرفة عمليات خاصة به، ولكن يضم الفريق الأكبر كل ما يتصدي لحواضن الارهاب السياسية والاجتماعية و الاقتصادية ومتطلبات الحرب النفسية، ويكون ذا مهمات واضحة ومحددة كي لا يتقاطع مع هيئات أخرى والتي يجب اختزالها. فتعدد الهيئات وغرف العمليات والمستشارين سوف يؤدي الى فجوات تعيق التواصل والأداء بشكل متكامل في التصدي للإرهاب.
2. ان هدف إقامة الدولة الاسلامية على ارض العراق وسوريا هو من الشعارات الطوباوية لتخدير الوعي السياسي والديني. فبعد ان توطد هذه المجاميع نفوذها ستبدأ الصراعات حول السلطة والثروة والنفط والنفوذ مع حلفائها من بقايا النظام السابق. في مقابل ذلك هناك واقع جديد لايمكن إنكاره، وهو ان هذه المجاميع حققت نجاحات في السيطرة على مخازن السلاح وسرقة المصارف وإطلاق سراح آلاف من السجناء، وتنشط على ارض عراقية واسعة. ولذا فان وضعها الحالي أفضل مقارنة بما كان عليه قبل احتلال الموصل، اضافة الى تحقيق نصر معنوي مؤقت.
3. على الرغم من ان حكومة اقليم كردستان استغلت الفراغ الناجم لاستعادة المناطق المتنازع عليها ومنها كركوك، وهو ما لم تستطع تحقيقه سابقاً نتيجة انسحاب القيادات العسكرية العراقية وانهيار وحدات الجيش والشرطة، الاّ ان هناك قضايا عديدة بحاجة الى نقاش وحسم جدي على اساس توافق وتنازلات متبادلة وعلى اساس الشرعية الدستورية ومشروعية حق الشعب الكردي في تقرير المصير بما في ذلك إقامة دولة على كردستان العراق اذا انسجمت مع مصلحة الشعب الكردي وحقه في تقرير المصير الحقيقي ومع الحقوق المشروعة للعراق العربي وباقي المكونات القومية. هذه التنازلات تشمل اكثر من قانون النفط والغاز واعادة رسم الحدود الإدارية، وبدون عقلية غالب او مغلوب. هذا ليس تقسيماً للعراق بل تعزيز لوحدة العراق العربي المهدد بالتقسيم بسبب التجييش الطائفي والتداخلات الإقليمية. (والطريقة الأفضل بعد تشكيل الحكومة هي تطوير المادة ١٤٠ على شكل صيغة متطورة تعكس الخيارات المطروحة تجاه مطالب الكرد من الفدرالية الى الكونفدرالية او الاستقلال، وان تكون المعادلة الجديدة واضحة بدون غموض والتباسات قابلة للتفسير، ومشروعة دستورياً وتشكل تعزيزاً لوحدة العراق العربي، مع إيقاف الحملات الإعلامية والتصريحات من جميع الأطراف).
4. ان إحدى القضايا الهامة والملحة هي تشكيل الحكومة وإقرار الرئاسات الثلاث وإخراجها من عنق زجاجة الشخصنة وكأن الحل هو في إيجاد رئيس وزراء جديد بديل لديه عصا سحرية سينقل الحالة السياسية من واقع لآخر. ان الأساس هو اخراج التركيبة من إشكالات المحاصصة الطائفية القائمة على اساس مبدأ التوازن الفاشل او الشراكة المعرقلة لاتخاذ القرارات او اعتماد المحسوبية الحزبية او الطائفية على حساب الكفاءة والمهارة. و هو لا يعني إبعاد السياسي اذا كان يمتلك الخبرة والكفاءة، فالمواقع التنفيذية ليست قنينة للتجارب ومكافأة للولاءات العائلية او العشائرية او المزورين والفاسدين والمفسدين، وهي الحالة التي سادت الحكومات السابقة منذ ٢٠٠٣ وحتى اليوم، فجميعها فشلت في الاختبار لبناء دولة عراقية فاعلة و ناجحة. وأن تنتهي ملهاة استخدام مواقع الرئاسات الثلاث والقضاء الاتحادي او المواقع الوزارية لتحقيق أهداف سياسية لصالح طرف على حساب أطراف اخرى. أي ان على الحكومة القادمة ان تضع المواطن العراقي نصب عينيها و تفعّل الجوانب الخدمية من سكن و إنهاء البطالة وصحة وغير ذلك، بشكل يتحسس فيه المواطن تغيراً نوعياً في توجه الدولة. ومن المهم أيضاً ان تقوم مؤسسة النزاهة بالكشف عن الحيتان الكبار وتقديمهم للقضاء وتفعيل التحقيق ونشر اسماء من أدينوا من قبل القضاء كي يستعيد الشارع العراقي ثقته بحكامه. ومن الملاحظ هو الكم الهائل من النشر، خاصة على الشبكة العنكبوتية، حول من سيكون رئيس الوزراء والتركيز على الاسم بينما التركيز أقل على ما يجب ان يكون برنامج الحكومة. ان توصيف الحكومة بمسميات الوحدة الوطنية والشراكة وغير ذلك لا يعني كثيراً بقدر محتوى الحكومة وبرنامجها وأولوياتها والشخصيات السياسية والمهنية التي تقود عملية بناء العراق ما بعد حزيران ٢٠١٤.
5. تفعيل البرلمان وإنهاء ظاهرة الغيابات والمقاطعة اللا مسؤولة واتخاذ إجراءات انضباطية وقانونية بحق الهاربين من مسؤولياتهم الشرعية والوطنية. وتحقيق اجتماعات نوعية للبرلمان لإقرار القوانين الاساسية والموازنة لتنظيم إدارة الدولة بطريقة عصرية وبفترة قياسية، خاصة وان اغلب هذه القوانين جاهزة ولكن الصراعات السياسية حالت دن إقرارها وتعديل بعضها كالفقرة ٤ ارهاب و دور المخبر السري وإنهاء العمل بالقوانين السابقة التي لا تنسجم مع الوضع الجديد.
6. اعادة تأهيل الأجهزة العسكرية والأمنية وعلى ضوء تقييم موضوعي للقيادات والكادر وتقديم الكفوءين ومن اثبتوا جدارة وشرفا مهنيا على حساب الولاءات السياسية والعائلية والعشائرية والطائفية والقومية، والاستفادة من الدعم الدولي غير المشروط لدحر الارهاب لالتقاط الأنفاس واعادة نشر القوى والتهيؤ للانقضاض على العدو وعلى أساس التخطيط المسبق والمعلومات الاستخباراتية والحذر من العمليات الاستعراضية ذات الطابع الإعلامي، والقيام بعمليات استباقية حيثما أمكن، وتحريم القصف العشوائي وإلحاق أضرار جسيمة بالمدنيين العزل وممتلكاتهم، ومعاقبة وطرد من ينهج بعداً طائفياً في الأنشطة العسكرية.
7. ان أحد أهداف الارهاب الرئيسية تحقيق نصر معنوي واثارة حالة من الرعب لدى المواطنين والشعور بالعجز في إمكانية التصدي لهم، وإضعاف هيبة الدولة وانعدام الثقة بآفاق العملية السياسية. ويمكن القول ان العدو قد حقق نجاحاً جزئياً في دفع المواطنين الى النزوح واللجوء الى كردستان كملاذ آمن وانهيار مقاومة الأجهزة الاتحادية والمحلية. ومن الجدير بالإشارة ان الجماعات الإرهابية استفادت من الشبكة العنكبوتية لنشر المعلومات الزائفة وبث لقطات تجسد وحشية وبربرية سلوكياتهم التي تثير الرعب لدى الناس وتبالغ بقوة الإرهابيين، وإضعاف المعنويات الى الحد الذي تتحول أوساط من المواطنين وبشكل غير واع الى تجمعات لاقطة لهذه الإشاعات واعادة نشرها بشكل غير واع عن اداء القوات العسكرية وتخاذلها، وبث الإشاعات عن هجوم قريب وترويج ظاهرة النزوح الجماعي لإفراغ المدن والقرى من سكانها. وقد استفادت العصابات الإرهابية من ان اداء القوات العسكرية الاتحادية والمحلية والذي كان مثيراً للاستغراب في انهيارها وترك كميات هائلة من الأسلحة والمعدات العسكرية الصالحة للاستعمال، وايضاً تضارب التصريحات والتراشق الإعلامي بين النخب السياسية. وبدلا من الموسيقى والأغاني الحماسية المحدودة التأثير والتجييش الطائفي، يتطلب من الأجهزة الإعلامية التابعة للدولة رسم خطة ذات بعد سايكولوجي في طرح خطاب إعلامي بديل يعتمد على المعلومة الصحيحة وعدم تهويل العدو أو استصغاره باعتباره خطراً حقيقياً، وإشاعة اجواء الثقة بالمؤسسات العسكرية وقادتها ودورها في حماية الوطن والمواطن وتعزيز الجوانب الانسانية في العمل العسكري تجاه النازحين وتخصيص ميزانية مناسبة لدعمهم وتعويضهم وتأمين متطلبات العودة لهم والتصدي بحزم لعصابات الجريمة المنظمة التي تحاول ان تثري على حسابهم.
8. هناك الكثير مما يمكن ان يقال، لكن الواقع ان العراق امام مفترق طرق، بين التهاوي والانهيار او التقسيم وتشكيل كانتونات طائفية ومناطق أمراء حرب، شبيه بالنموذج الأفغاني، او النهوض عبر الاستفادة من هذه التجربة القاسية لإيجاد واقع جديد. ويقع على جميع النخب السياسية بدون استثناء، ومن ضمنها التيار المدني الديمقراطي، ان تمد أيديها بعضها الى بعض وإقرار حكومة تتجاوز الطوائف والتخندق والتصدي لمن يحاول عرقلة المسيرة ووضع العقبات امام الحلول الجادة وإشاعة الاحتراب والتهميش وتصفية الحسابات الطائفية، خاصة عصابات الفساد والمليشيات التي قد تستثمر الوضع الحالي لتصفية حسابات وتعزيز مواقعها.
وفي ذات السياق يجب التأكيد ان الوضع الحالي مليء بالاحتمالات، ومنها التغلب على هذه الانتكاسة في حال تضافر جهود جميع المخلصين والمتطلعين الى تعزيز مستقبل العراق العربي نحو الاستقرار السياسي والأمني والتنمية الاقتصادية المستدامة، مع ملاحظة ان غياب ٧٦ برلمانياً منتخبا من الجلسة الاولى هو موقف معيب ومدان واذا ما تكرر فيجب تحكيم القضاء الاتحادي للتعامل معه لأنه خرق واضح للمسؤولية التي تعهد بها هؤلاء امام من انتخبهم، وإحلال من هو أفضل بديلاً عنهم على أساس القانون والشرعية الدستورية.
9. اما التدخلات الإقليمية و الدولية والتآمر الخارجي فهو مستمر منذ إقامة الدولة العراقية وسيستمر معتمداً على مدى تفكك وانحلال الجبهة الداخلية وضعف هيبة وسمعة الدولة العراقية وقدراتها العسكرية. لذا فان الأولوية هي بناء الجبهة الداخلية ومن ثم التصدي لهذه العوالم او التأثيرات بشكل مناسب والتشخيص السليم للأعداء والأصدقاء.
وتجدر الاشارة الى ان هناك نقاش عن ضرورة توفر ضمانات للاتفاقات السياسية او لمستقبل العملية السياسية وعيون البعض ترنو الى عواصم خارجية إقليمية او دولية. بينما أكدت تجارب الشعوب ان الضمانات الخارجية مرتبطة بمصالح عرضة للتغيير، وأن الضمانة الحقيقية والدائمة هي في تعزيز الوضع الداخلي وترسيخ العملية السياسية باحترام البرلمان والدستور والقضاء، والرأي الشعبي العام المغيب باستمرار، والذي شهد بعض المبادرات المحدودة من قبل عدد غير قليل من منظمات المجتمع المدني مؤخراً
و ختاماً وللتذكير، اذا أردت ان تختبر مصداقية السياسي العراقي فأعطه القوة والنفوذ وراقب النتائج والتداعيات وعلى ضوئها يتم التقييم.