يوم 27 كانون الثاني 1948 كان يوم الوثبة الفاصل *: وقائع ايام الوثبة يرويها شاهد عيان

حوار د. مزاحم مبارك مال الله
سبعة وستون عاماً مرت على وثبة كانون الثاني 1948 المجيدة. سبعة وستون عاماً على انتصار انتفاضة الشعب العراقي ضد القيود الاستعمارية البريطانية التي حاولت أن تفرضها معاهدة بورتسموث وأعطت درساً وطنياً عبر التأريخ. سبعة وستون عاماً على تمريغ الشعب العراقي أنف الحكومة الملكية بالوحل، فأنتصر بالوثبة نحو التحرر والانعتاق الذي تحقق في ثورة تموز 1958 الخالدة.
الرفيق شاكرعبد شكرالله العطار الخزرجي، أحد المساهمين الفعليين في الوثبة وهو شاهد عيان على ما حصل خلال أيام الانتفاضة الخوالد، يروي لـ»الشرارة» القصة منذ ساعاتها الأول حتى هزيمة الحكومة الملكية أمام مطالب الجماهير التي تمثلت بإسقاط المعاهدة وإقالة رئيس الوزراء صالح جبر وإطلاق الحريات العامة.
يقول الرفيق الخزرجي: كانت سماء العراق ملبدة بغيوم الغضب الجماهيري العارم جراء السياسة الرجعية للعائلة المالكة بقيادة القطبين الوصي عبد الأله ونوري السعيد ،هذه السياسة التي تمثلت بكل معطياتها المعروفة وخصوصاً فرض مصالح القوى الاستعمارية على مصالح العراق والعراقيين وكذلك مصالح الطبقات الاستغلالية على مصالح الكادحين، وضربت حقوق الشعب عرض الحائط ،تلك الحقوق التي ناضل من أجلها الوطنيون وفي مقدمتهم الشيوعيون، وكان أخر ما أقدمت عليه السلطات الرجعية الحاكمة أن زجت قادة الحزب الشيوعي في السجون.
هندس نوري السعيد معاهدة بورتسموث 1948 ،وبدأت الحكومة العراقية تشير اليها بين الفينة والأخرى ،وتتلو بعض بنودها ،وأرسلت رئيس الوزراء أنذاك صالح جبر للقاء البريطاني بيفن لتوقيع المعاهدة، الاّ أن الأجواء في بغداد بدأت تغلي بمرجل الانتفاضة خلال الأيام العشر الأول من شهر كانون الثاني 1948.
يقول الخزرجي :»كان عمري 18 عاماً في الصف الأول من دار المعلمين العالية قسم الآداب»، وكانت جماهير الشعب بطبقاته من عمال وفلاحين وكادحين وكافة شرائح المجتمع وخصوصاً الطلبة، تتراصف ضد المعاهدة ،وبوادر الانفجار بدأت تظهر ،حيث قرر الطلبة أن يبدؤوا الإضراب يوم السبت الموافق 18/1/1948 وكان إضراباً سلمياً شمل كل الكليات.
الشرارة/ من الذين أوقدوا نار الإضراب وما القوى التي ساهمت فيه؟
كل الكتل الوطنية ساهمت، الحزب الشيوعي والوطني الديمقراطي والشعب والاستقلال ،ولكن محورها ومحركها كان الحزب الشيوعي العراقي، حيث كان ممثلو تلك الكتل إضافة الى ممثلي الطلبة يجتمعون بشكل يومي في دار المعلمين العالية التي انطلقت منها الشرارة الأولى.
كنا نحن مجموعة في سفرة الى البصرة وحين عودتنا يوم 19/1/1948 وجدنا عدداً غير قليل من الطلبة في محطة القطار (بالعلاوي) في استقبالنا، استغربنا لأن الوقت وقت دوام ،فعرفنا أن القرار هو إعلان الإضراب يومي 18و19/كانون الثاني ،يوم الأثنين 20/1/1948 قررنا البدء بالتظاهرة وكانت الخطة أن يكون مركز التجمع في دار المعلمين العالية في الوزيرية ومن ثم نتسلل الى باب المعظم حيث كانت هناك المكتبة المركزية وبناية موسيقى الجيش، كلية الهندسة وكلية الطب والصيدلة والمدرسة الغربية، وتم الاتفاق على أن يأتي الطلبة على شكل دفعات من الفروع والشوارع الجانبية ،وتم الاتفاق على أن تبدأ الشرارة الأولى بصرخة مدوية تقول «تسقط معاهدة بورتسموث».
وفعلاً خرج «جعفر اللبان» ـ الذي أصبح أول سكرتير لإتحاد الطلبة العام في مؤتمر السباع في 14 نيسان 1948 ـ خرج من بناية المكتبة المركزية يحمل راية بيده وصرخ «تسقط معاهدة بورتسموث» ،وبلمح البصر تجمع حوله مئات الطلبة، حيث كنا متواجدين بشكل متناثر وقريبين بعضنا من بعض، علماً أن الشرطة تفاجأت بالموقف ظناً منهم أن هذا اليوم(يوم20 بالشهر) هو كما اليومين السابقين ،إضراب فقط، ولم يتوقعوا أنها بداية الانتفاضة.
الشرارة/ من هم القيادة المشخّصة للتظاهرة؟
الحزب الشيوعي هو قائد التظاهرة ،أما كأسماء فبالإضافة الى اللبان كان هناك إبراهيم عبد الحسين ملا خلف (البصرة) ،قتيبة الشيخ نوري (كلية الطب)، محمد علي سبع (دار المعلمين)، خلوق أحمد زكي(كلية الحقوق) ،عزيز ملكي ،مهدي علي ،فايق العيداني (البصرة)، حسام مهدي وآخرون.
ويكمل الرفيق الخزرجي حديثه:
توسعت التظاهرة وسارت باتجاه الحيدرخانة نحو الباب الشرقي، حيث انضمت الينا الإعداديات كالإعدادية المركزية والإعدادية الغربية وحصل أول تصادم مع الشرطة التي بدأت ترمي عيارات نارية بالهواء ،لكننا لا نملك الاّ الحجارة، وحصلت مطاردات واعتقالات، وقد تفرق المتظاهرون، على أن نعيد الكرّة في اليوم التالي.
في اليوم الثاني يوم 21 كانون أعلن العمال إضرابهم أيضاً، فأصبحت التظاهرة أوسع وأكبر وأشد والهتافات والشعارات زادت وكلها تصب في مفهوم إلغاء المعاهدة الجائرة، وفي هذا اليوم وفي الحيدرخانة أستشهد البطل «شمران علوان» وكان طالباً في الصف الثاني من دار المعلمين وهو أول شهيد في الانتفاضة.
كنا في ذلك اليوم نحمل الشاعرين الجواهري وبحر العلوم وهما يرتجلان الأبيات الشعرية الثورية والتي تشد من عزيمة وأزر المتظاهرين إضافة الى الهوسات الشعبية ،وأذكر مما ارتجله الجواهري:
فأكرم بالحجارة من سلاحٍ ابتكرته ثورتنا ابتكارا
أذا سار الطغاة بنا يميناً سنسحقهم فنقصدها يسارا
واستمرت المسيرة في شارع الرشيد ووصلنا الى منطقة السنك، ورغم العنف والقوة التي مورست ضدنا ،الاّ أننا لم نتراجع بالرغم من الاعتقالات الكثيرة.
في تلك الأثناء حاول الكرخيون العبور الينا، رغم نجاح بعض الأعداد منهم بالعبور بالـ (بلام) والـ (كفف)، ولم يكن هناك الاّ ما يعرف الأن بجسر الشهداء، ومع ذلك فقد بدأت التظاهرات أيضا في جانب الكرخ التي قادها الطلبة والعمال.
ولا يفوتني أن أذكر دور الطالبات وخصوصاً طالبات الكليات، ومنهن سعاد جميل روحي ،فليحة جميل روحي ، مديحة جميل ،مديحة خيرالله ،سعاد نافع ،سعاد الأوقاتي (شقيقة الشهيد جلال الأوقاتي)، والأخوات الثلاث زاهدة وناهدة وساجدة عبد الكريم.
كان الطلبة واعين لدورهم الوطني ،ولعب الطلبة الشيوعيون دوراً متميزاً بالزيارات الليلية للطلبة في الأقسام الداخلية يشدون من أزرهم ،ويعطون التعليمات والتوجيهات، بمعنى المتظاهر وخصوصاً الطلبة يعرف أين يذهب وما هو واجبه.
استمرت التظاهرات يومي 22 و 23 كانون وبدأنا نزحف باتجاه تمثال محسن السعدون، واتخذنا من التمثال مكاناً لإلقاء الأشعار والخطب الثورية ونتلو التوجيهات، أنها ملحمة وطنية كبيرة، وقد رأيت وسط المتظاهرين القائد العمالي الكبير صادق جعفر الفلاحي والنقابي علي شكر وكذلك رأيت عامر عبدالله.
الصحف الوطنية كصحيفة (الرأي) و(الآهالي) لعبت دوراً عظيماً في التحريض ،إضافة الى القوى الوطنية التي انضوت تحت الجبهة الشعبية ،ولا يفوتني ذكر الدور الكبير الذي لعبه حزب التحرر الوطني (وهو واجهة الحزب الشيوعي) ،كذلك حزب الشعب بقيادة عزيز شريف.
الأنتفاضة كانت منظمّة ومدروسة ولم تكن عفوية أبداً.
صباح يوم 27 من الشهر حصل الالتحام الوطني الخلاّق بين الصوبين (الكرخ والرصافة) على الجسر، ما أضطر الشرطة الى استخدام مآذن الجوامع ،أحدها مأذنة سوق السراي صعد اليها شرطيان يرميان الرصاص على المتظاهرين الذين يعبرون من الكرخ الى الرصافة وعندها استشهدت البطلة (بهيجة) أضافة الى (جعفر الجواهري وقيس الألوسي)، ما دفع بعض العمال المتظاهرين أن يصعدوا الى المأذنة لتخليص الثوار من نار الشرطيين.
الساعة العاشرة صباحاً انسحبت الشرطة بالكامل، وأستطيع القول أن المتظاهرين وخصوصاً الطلبة سيطروا تماماً على الموقف، ما حدا بالبـــــلاط الملكي الى إذاعة بيان الى الجماهير وذلك في الساعة الثانية ظهراً، حيث جاء فيه أن الوصي عبد الآله يدعو الشعب الى الهدوء والسكينة وعاهدهم على حل الأمور ووجه دعوة الى الوزراء الحاليين والسابقين وأعضاء مجلس الأمة والأعيان والقيادات السياسية ورؤساء بعض الأحزاب وكذلك الشخصيات المستقلة، للاجتماع الطارئ في قصر الزهور ، وفعلاً تم الاجتماع وصدر عنه بيان تمت أذاعته في الساعة الثامنة مساءً يدعو الشعب الى الهدوء والسكينة، وتم الإعلان عن استجابة الحكومة الى مطالب الجماهير المتمثلة بإلغاء معاهدة بورتسموث بكل بنودها وملحقاتها، إعفاء صالح جبر من رئاسة الوزارة ،تكليف محمد الصدر بتشكيل الوزارة ،دعوة المتظاهرين الى العودة الى حياتهم الاعتيادية ، تعطيل الدوام في الكليات حتى أشعار أخر،أطلاق سراح جميع الموقوفين بدون كفالة ولا يترتب عليهم أي التزامات، وختم البيان بعبارة سنوافيكم ببيانات أخرى لاحقاً.
الشرارة/ ببيان البلاط هذا نستطيع القول أنه الإعلان عن انتصار الانتفاضة، وماذا حصل بعد ذلك؟
جيئ بالصدر لرئاسة الوزارة وهو رجل مسالم مكلف بمهمة محددة، والبلاط أنتبه الى بعض الأراء الغريبة التي طرحت (وبشكل محدود) ،على اعتبار أن صالح جبر شيعي فحصل ما حصل ،ولأجل تفويت فرصة التفكير الطائفي تم تكليف الصدر وهو شيعي أيضاً بالوزارة.
الشرارة/ ماذا كان موقف المتظاهرين وبيان البلاط الملكي من الأحرار المسجونين وفي مقدمتهم قادة الحزب الشيوعي ؟
بالرغم من أن أحد مطالب المتظاهرين هو إطلاق سراح المعتقلين والسجناء السياسيين ،الاً أن بيان الحكومة حدد إطلاق سراح الموقوفين من المتظاهرين، ولم يطلق سراح حتى هؤلاء الثوار، بقيت الحكومة تسوّف الموضوع.
الشرارة/ هل حصل انفراج بعد الوثبة؟
نعم تمكنا من تشكيل الاتحادات الطلابية التي بشكل عام كانت نزعة ديمقراطية يسارية ففشل القوميون المتعصبون في الترشح الى المؤتمر العام، وتم عقد مؤتمر السباع الذي أعلن فيه تأسيس اتحاد الطلبة العام في العراق يوم 14/نيسان/1948
الشرارة/ كيف أقمتم أربعينية الشهداء؟
أقمناها في جامع الحيدرخانة، حضرت وفود من كافة (الألوية)ونثروا الزهور على أضرحة الشهداء بعد مسيرة صامتة، الجواهري ألقى قصيدته العصماء في رثاء أخيه جعفر في الجامع، وفي المقبرة ألقى بدر شاكر السياب قصيدة رائعة.
الشرارة/هل حصلت مضايقات؟
نعم ولكن قليلة وليست من الحكومة مباشرة وإنما من بعض مدفوعي الأجر.
الشرارة/ما شعورك الأن ؟
أشعر بالفخر والزهو بمشاركتي في الوثبة ،وآسف على الوضع الذي يعاني منه الوطن الأن ، ظروف الوثبة والحركة الوطنية في ذلك الزمان تختلف قطعياً عمّا نعيشه اليوم ،ولكن يبقى النضال صوب الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية هو ديدن المناضلين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
* حوار ننشره بأذن من الزميلة «الشرارة»، التي ستنشره من جانبها في عددها الجديد الذي سيصدر خلال ايام.