كلمة "الثقافة الجديدة" العدد 371 كانون الثاني 2015

 حتى لا يتمّ "تشريك" أعباء سد العجز.. لتعمل موازنة 2015 بمبدأ: من كلٍّ حسب قدرته!
تعد الموازنة السنوية العامة أداة رئيسية من أدوات السياسة الاقتصادية، كما انها بالمقابل أداة سياسية تترجم مصالح وفلسفة القوى المهيمنة في المجتمع.
لأسباب عملية فان ما يهمنا هنا ليس حجم النفقات العامة، ولا حجم الايرادات العامة المتوقعة، فهي معروفة للجمهور العريض، بل سيتم التركيز هنا على كيفية معالجة العجز المتوقع في الموازنة الاتحادية لعام 2015 وما هي مصادر تمويله. ومن هنا اهمية القراءة السليمة للعجز في هذه الموازنة والبحث عن مدلولاته الاجتماعية/ الاقتصادية/ السياسية بما يمكن من الإجابة حول جملة أسئلة هامة من بينها: ما هي القوى الاجتماعية التي ستتضرر من هذا العجز؟، وما هي الآثار الاجتماعية التي سيتركها على معدلات البطالة؟، وما هو حجم التهميش الاجتماعي والتفاوت في توزيع الدخل القومي؟ إضافة الى تعاظم درجة الارتباط بالخارج عندما يصار الى تمويل جزء من العجز عبر مصادر أجنبية، ونوعية الشروط التي تطرحها المؤسسات الدولية المقرِضة... الخ؟
ولمعالجة العجز المتوقع في موازنة 2015 (والذي يقدر بحوالي 25.401 ترليون دينار، وربما يتغير هذا الرقم بعد انتهاء مناقشات الموازنة في مجلس النواب وإقرارها)، سيتم اللجوء إلى عدة اجراءات:
• الاقتراض الداخلي عن طريق:
أ. اصدار حوالات خزينة من صناديق التقاعد وأموال القاصرين ومن المصارف الحكومية.
ب. اعتماد مجموعة من الاجراءات التقشفية. وقد وردت هنا عدة توصيات:
- تأجيل تطبيق سلم الرواتب الجديد للموظفين من الدرجة العاشرة إلى الدرجة الرابعة، الامر الذي سيلحق الضرر بهذه الفئات ذات الدخل الواطئ ودون المتوسط ؛
- تأجيل الزيادات في رواتب الرعاية الاجتماعية؛
- تأجيل تطبيق منحة طلاب الابتدائية.
للتقشف طابع طبقي بامتياز!
يمكن القول أن الإجراءات التقشفية المقترحة لها طابع طبقي واضح، جوهره انها تأتي بالضد من مصالح الكادحين وذوي الدخل المحدود.
ففي حال تشريع وتطبيق هذه الاجراءات وفرض جملة من الضرائب، فإنها ستحمّل الشرائح الواسعة من الكادحين وذوي الدخل المحدود والمنخفض الجزء الاكبر من أعباء التقشف، في الوقت الذي يغيب فيه أي توجه جاد لزيادة ضريبة الدخل التصاعدية مثلا على ذوي الدخول العالية، وزيادة معدلات الضريبة على مختلف أشكال الثروة. وبهذا المعنى فإنه يراد تحميل الكادحين أعباء الازمة وليس تلك القوى التي تسببت في انتاج هذه الازمة وإدامتها وهي الغارقة في "عسل" الفساد ونهب الثروة الوطنية.
وطبيعي الاشارة الى أن هذا الخيار "ضغط الإنفاق وترشيده" لا يمثل حلا تقنيا بل هو في جوهره حل ذو طبيعة سياسية - اجتماعية - طبقية وستتضرر منه الفئات الكادحة بالدرجة الأولى. إنه حل مسكون بفكرة، "التوازنات الاقتصادية الكبرى" التي "يسبح بحمدها" خبراء صندوق النقد الدولي ليلا ونهارا !
ومن جهة أخرى، وارتباطا بخيار "ضغط الإنفاق وترشيده"، وفي ظل عدم وضوح الأولويات في الانفاق - بشقيه التشغيلي والاستثماري – فلا بد من الانتباه الى أن النقص الحاصل في نفقات الاستثمار العمومي ستكون له نتائج سلبية مهمة في مقدمتها إمكانية تنامي الطبيعة المضارباتية للاقتصاد العراقي. ففي ظروف عدم تبلور استراتيجية تنموية واضحة، ووجود وضع أمني متدهور، سيتم التوجه إلى القطاعات ذات الربحية السريعة (والتي بدأت تأخذ طابعا ريعيا بوضوح) من دون إعطاء أية أهمية للقطاعات الإنتاجية، وهذا من شأنه أن يزيد من اختلال التوازنات الاقتصادية وهي المختلة أصلا.
يجب ان لا تكون اجراءات الحكومة "حتميات تاريخية"
يجب ان لا يعد البرلمان عندما يقرأ الميزانية ويقرها، ان الاجراءات التي تقترحها الحكومة هي بمثابة "حتميات تأريخية" بل هي احد البدائل وليس البديل الوحيد. وبالتالي ثمة بديل آخر هو اقدام الحكومة على ضغط فعلي لأبواب وبنود الإنفاق غير الضرورية، التي لا تحتل أولوية، واتخاذ اجراءات حاسمة للحد من الفساد الذي يعد سببا مهما في تضخم النفقات، في شقيها الجاري والاستثماري، تطول أولا وقبل كل شيء الفاسدين الكبار وحواشيهم.
كما يتعين العمل على تجنب النظرة التي ترى بعض النفقات (مثل تلك التي تخص البطاقة التموينية على سبيل المثال) بمثابة "أعباء على الميزانية ولا بد من التخلص منها او تقليصها"، فمثل هذا الموقف ينطلق من نظرة مجردة لأولئك المسكونين بلعبة الأرقام، في حين تهمَل الجوانب والآثار الاجتماعية السلبية التي يمكن أن تترتب على هذا التخفيض.
• اما بالنسبة للإقراض الخارجي، فان من بين قنوات هذا النوع من الاقراض المقترحة لسد العجز في الموازنة الاتحادية هو اللجوء الى المؤسسات المالية والنقدية الدولية. فقد خول قانون الموازنة وزير المالية الاتحادي الاقتراض من صندوق النقد الدولي مبلغا قدره (4.5) مليار دولار، ومن البنك الدولي (2) مليار دولار، اضافة الى استخدام حقوق السحب الخاص بحدود (1.8) مليار دولار. ولكن من المعروف ان هذه المؤسسات ليست "مؤسسات خيرية" تمنح قروضها لمن يريد، بل لها شروطها التي ينبغي على المقترض ان يوافق على تطبيقها، قبل الحصول على القرض المطلوب.
خلاصة الأمر، أن العجز في موازنة 2015 ليس عجزا حسابيا بل هو عجز بنيوي. ولهذا لا يمكن معالجة هذا النوع من العجز إلا من خلال مقاربة أخرى كان من المفروض أن تنطلق من تدشين نقاش بين أطراف العملية الإنتاجية والقوى الناشطة في الاقتصاد الوطني والبرلمان والمجتمع والنخب الثقافية والباحثين المتخصصين بقضايا الموازنة والتنمية والخبراء والممارسين، وأن لا تكون عملية اعداد الموازنة محصورة بعمل "الخبراء" في غرف مغلقة، فالصراع بشأنها - أي الميزانية - هو صراع بدائل وليس مجرد لعبة ارقام تحاول البحث عن حلول للعجز كمن يبحث عن ابرة في كومة قش!
تحتاج البلاد اليوم الى رؤية اجتماعية – سياسية جديدة تختلف عن تلك الرؤية التي حكمت نمط توزيع الأولويات للإنفاق؛ رؤية تنحاز للعقلانية الاقتصادية، والتنمية، وللعدالة الاجتماعية.
وعلى الجانب الاخر لا بد من تنمية الموارد العامة، من خلال الضرائب المباشرة والضرائب غير المباشرة.
وفي ما يخص الضرائب المباشرة، هناك اعتبارات مهمة، من الضروري مراعاتها عند تطوير هذا النوع من الضرائب وفي مقدمتها اعتبار العدالة الاجتماعية، أي ضرورة ان يتناسب العبء الضريبي مع المقدرة على الدفع ومراعاة ظروف محدودي الدخل والفئات الكادحة. اضافة الى أن لا تؤثر السياسة الضريبية الجديدة وإجراءات التطوير بشكل سلبي في حوافز الادخار والاستثمار والعمل.
أما الضرائب غير المباشرة فهي ضرائب لا تميز بين غني وفقير، وبالتالي فهي ضرائب لا يتوافر فيها عنصر العدالة الاجتماعية. وفي حالات كثيرة ستؤدي زيادة هذا النوع من الضرائب، وبالذات المفروضة على سلع الاستهلاك الضروري، الى المساس بأوضاع الفقراء ومحدودي الدخل مما ستكون له آثار اجتماعية ضارة.
علينا ان نذكّر مجددا بان علاج عجز الموازنة الاتحادية لعام 2015، وهو عجز فعلي، ستكون له تكلفة. غير أن المشكلة الاساسية لا تكمن في التكلفة بل أن الأمر يتعلق بمن هي القوى الاجتماعية التي ستتحمل هذه التكلفة؟
لذا يجب ان تعمل موازنة 2015 بشعار: من كل حسب قدرته! أي أن لا تتم اجراءات سد العجز المتوقع على حساب الطبقة العاملة والكادحين عموما من جهة، ولصالح "الحيتان الكبيرة" من جهة أخرى، وهي غير المتضررة اصلا من الأزمة، فليس عادلا "تشريك" الاعباء وتوزيعها بـ "التساوي" بذريعة ان الازمة تطول الجميع!
2/1/2015