افتتاحية "الثقافة الجديدة": الحركة الاحتجاجيّة.. الرهانات المأمولة والآفاق المفتوحة

ذات مرة قال لينين: "قد تمرّ عقود لا يقع فيها شيء يذكر، وقد تأتي أسابيع تقع فيها عقود"، والواقع أنه في خلال الشهور التي مضت منذ أن استشهد الشاب "منتظر الحلفي" في البصرة في حزيران 2015 وتجدد الحركة الاحتجاجية في أواخر تموز 2015 (والتي جاءت امتدادا لما حدث من حراك مجتمعي في اوائل 2011) واتخذت مديّات واسعة، بحيث لم يعد الامر مقتصرا على القوى المدنية التي ضمنت للحركة الاحتجاجية صمودها وثباتها، رغم كل محاولات تهميشها، انقلبت الأوضاع رأساً على عقب، حيث شهدنا مظاهرات مليونية شملت قوى مجتمعية متنوعة، واندلعت في مدن عديدة ولم تحصر نشاطها في العاصمة بغداد، ودفع هذا التطور المؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية الى الحديث عن ضرورة القيام بالإصلاحات، تحت ضغط الحراك المجتمعي.
"الحركة الاصلاحية "البرلمانية – إصلاح في النظام المحاصصي وليس تغييره
ثم تصاعدت الأمور لتشمل البرلمان ليشهد "حركة إصلاحية" وتكوين كتلة "الإصلاحيين"، اعضاؤها ينتمون إلى كتل سياسية متعددة، وبدوافع ومنطلقات ورؤى متباينة، ولأغراض متنوعة، ورهانات مختلفة، وقد دلّلت هذه الحركة على عمق الازمة التي يعيشها نظام المحاصصات الطائفية - الاثنية وعمق الصراعات والتناقضات بين مكوناته وداخل كل كتلة من جهة، وقوة الحراك الجماهيري وعمق تأثيراته واتساع مدياته وانخراط قوى جديدة فيه من جهة أخرى.
ومع كل ما أحدثته الحركة الاحتجاجية للنواب فإنها مع ذلك ليست المعوّل عليها في احداث الإصلاح الحقيقي لأن هذا النوع من الاصلاح يستدعي تغيير النظام المحاصصي، في حين ان "الحركة الإصلاحية" التي شهدناها، أخيرا، تريد اجراء تغيير في هذا النظام. لهذا يظل الحراك الشعبي المدني هو الاساس الذي يجب الرهان عليه وتطويره وتوسيع قاعدته وترقيته وتغذيته باشكال جديدة، وتجنب الرهان على شكل واحد، لأنه يشكل نقطة مقتل هذه الحركة.
الحركة الاحتجاجية ليست طارئة او عابرة او قابلة للتدجين
ان ما يدعونا الى التأكيد على هذا الرهان، هو ان الحركة الاحتجاجية التي اندلعت في اواخر تموز 2015 واستمرارها، حتى الان، دلّل على انها ليست حركة طارئة أو عابرة أو قابلة للتدجين بل هي نتاج جملة من الاسباب والعوامل التي ادت الى بروزها في شكل حركة مطلبية، تدافع عن مطالب مجتمعية تعبر عن مصالح قطاعات واسعة من المجتمع تضررت من النظام المحاصصي الذي تسبب في الانسداد والاستعصاء السياسي، وفتح المجال أمام كل اشكال المحسوبية والتهميش والإقصاء والظلم الاجتماعي الذي تفننت في ممارسته مجموعات من زبانية هذا النظام، ما أدى الى تعظيم عمليات التهميش وإقصاء فئات وشرائح واسعة من المجتمع عن حقلي الإنتاج والاستهلاك، إضافة الى انعدام المساواة وعدم تكافؤ الفرص، وهيمنة الفساد الذي صار "مؤسسة عتيدة".
إن التصرف بثروة نفطية كبيرة أتاح للدولة في بلدنا، والنظام السياسي السائد، والى مدى بعيد، التحكم بالحركية الاجتماعية وتراكم الثروة لدى الفئات والشرائح المختلفة، وبفضل ذلك استطاع النظام السياسي في بلادنا، خلال فترة زمنية وجيزة نسبيا، أن يلحق تغييرات جوهرية في الاصطفاف الاجتماعي، من خلال التحكم بتوزيع الثروة، ما افضى الى تدهور وتبدد شرائح وفئات اجتماعية، وظهور شرائح وفئات اخرى ترتبط مباشرة، من خلال وشائج الولاء والقرابة، بالنخبة المهيمنة على الدولة ونظامها السياسي.
فعلى خلفية تعاظم الريوع النفطية تنامت سمات الطابع الريعي والخدماتي والتوزيعي للاقتصاد العراقي التي وظّفتها "النخبة السياسية" في توسيع شبكة "الزبائنية" الاقتصادية - الاجتماعية - السياسية، وتطوير آليات الاستيعاب والسيطرة، وقد استفادت بعض الطبقات والفئات والشرائح الاجتماعية، بدرجات متفاوتة، من هذه الطبيعة المزدوجة للاقتصاد العراقي، وخلال هذه الفترة نشأ التحالف "غير المرئي" بين "النخبة" البيروقراطية وبين الفئة الطفيلية والفئة الكومبرادورية في إطار ديناميات العلاقة الزبائنية بينهما، سعيا لتعزيز هيمنة هذه "الشرائح".
الحركة الاحتجاجية كشّفت الاختلال البنيوي للنظام الحاكم
وفي كل الاحوال سواء تعثّرت الحركة الاحتجاجية أو تأخّرت، فإن الحقيقة الكبرى تتمثّل في أن هذه الحركة كشّفت الاختلال البنيوي للنظام الحاكم، وبينت مدى تفاقم "أزمة الحكم"، التي تحولت الى ازمة بنيوية متعددة الصعد بحيث لم تعد مقتصرة على التنافس المعتاد بين المتحاصصين وصراعاتهم، مثلما كانت الحال سابقاً، وإنما انتقلت "أزمة الحكم" إلى مستوى آخر، أعقد من السابق (ازمة نظام) يتمثّل في عدم توافر القدرة الذاتية والكفاءة السياسية للقوى الحاكمة على استمرار تحكّمهم وسيطرتهم على مقاليد السلطة والحكم.
ولهذا فان التغيير المطلوب لن يتحقق إلا ببناء بديل يكسر محاولات احتكار السلطة المستندة الى الهويات الفرعية وإعادة إنتاجها، ويؤسس لوعي اجتماعي جديد، ان تحقيق هذا البديل يحتاج الى أفق أوسع والى قوى جديدة وتحالفات، تكون قادرة على احداث تغيير حقيقي في تناسبات القوى الفعلي، وليس اعادة انتاج النظام الراهن، المحاصصي – الطوائفي/ الاثني الذي اصبح عائقا امام بناء الدولة المدنية الديمقراطية العصرية، دولة المواطنة.
لا خيار أفضل من البديل المدني - الوطني – الديمقراطي
وبيّنت تجربة السنوات الثلاثة عشر الأخيرة، وقبلها أيضا، انه ليس هناك في العراق من بديل أفضل من البديل المدني - الوطني – الديمقراطي فهو وحده القادر على إعادة بناء الدولة على اسس جديدة لتكون دولة مواطنين احرار، وليس دولة رعايا، وتحتاج البلاد اليوم الى قطيعة ثقافية ايضا تشكل نفيا لثقافة الاستبداد والنزعات الماضوية المناهضة للحداثة والتنوير، ورفض الآخر وعدم احترام التنوع، ثقافة يكون عمادها الترويج لخيار ثقافي جديد، يقوم على تعاقد وتعايش يتسع للتنوع ويؤمن التطور للخصوصيات في اطار الهوية العراقية الجامعة، وإذا كان تشكل ثقافة سياسية كهذه في عراق اليوم أمراً صعباً لجملة عوائق موضوعية وذاتية، فإنها تظل، مع ذلك، رهاناً حقيقياً للمستقبل، لا بد من مواصلة العمل على تحقيقه رغم كل الصعوبات والمخاطر ومناورات النظام المحاصصي، الطائفي - الاثني.
النخب الثقافية ودورها المأمول في تجذير الحراك المجتمعي وإحداث التغيير المطلوب
ومرة اخرى نؤكد ان النخب الثقافية يمكنها ان تلعب دورها في بناء هذا الخيار، والتأسيس الصحيح له عبر تدشين حوار واسع وعميق بين هذه النخب؛ حوار يساهم في خلق التراكم المعرفي المطلوب، والحفاظ على ذاكرة جمعية متقدة في مواجهة إشكاليات الواقع المعقد والمتوتر والمفتوح على احتمالات عدة، حوار يمكن له أن يساهم في خلق الأرضية لتوفير الشروط لممارسة ديمقراطية حقة، بإمكانها أن تساعد في تجاوز التخندق وراء الأحاديات و"الوعي" الذي يعتقد أنه مستودع الحقيقة وحارسها الأمين.
فأمام المثقف الديمقراطي اليوم مهمات بالغة الصعوبة والتعقيد في آن، ولكنها بمقابل ذلك مهمات ذات مسؤولية جسيمة، تتمثل في مسعاه الدائب لتنمية الوعي بوظيفة الثقافة – والنشاط الإبداعي بمعناه العام – بوصفها سلطة معرفية، ولا شك في أن حضور سؤال المستقبل في أية ثقافة وطنية - ديمقراطية هو دليل حيويتها، فبقدر حضوره في تكوينها تتحدد قابليتها للتطور، وقدرتها على التقدم، ورغبتها في الإبداع الذاتـي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
افتتاحية مجلة "الثقافة الجديدة"
العدد 382
آيار 2016