هل العراق طائر العنقاء الذي يحرق نفسه ليموت، ثم ينهض من رماده ليولد من جديد عدة عقود؟ وتتكرر مأساته مرة بعد أخرى؟كيف يتولد كل هذا العنف على مدى عقود في العراق، ويلتهم أبناؤه بعضهم بعضاً حين يكونوا جمعاً، في الوقت الذي يتغنى كل على حدة ويتوجع على بلده (بلد الرافدين) و(دجلة الخير) و(أرض السواد) وغيرها من الكلمات التي تخرج من القلب وتتسلل إلى قلب العراقي وتفجر عواطفه ؟ وإذا اختلف الإنسان عن بقية الكائنات بامتلاكه لدماغ كبير بعد أن تطورت جيناته الوراثية إلى حد أنها تركت مسافة كبيرة بينه وبين بقية الكائنات كماتوضح لنا العلوم، فكيف يمكن للعراقي الانجراف نحو هاوية الاقتتال والموت وكأن تلك الفكرة لاتنطبق عليه!
الشيء الوحيد المؤكد أن الإنسان عموماًوفي كل دولة لايدخل في صراعات دموية ومستمرة مع من حوله بفضل وجود القوانين، وتوفر وسائل وأجهزة تقوم بتطبيقها والحفاظ عليها،و هذا مايفتقده العراقي بعد الاحتلال عام 2003 وإلى اليوم وحتى مع وجود دستور طبخ على عجل وقوانين يناقض بعضها بعضاً، ويخضع تطبيقها لقوى وأجهزة متناقضة ومتصارعة تحركها المصالح قبل كل شيء، أو قوانين ليست بقيد التطبيق.لاننسى بالطبع ان السطلة قبل 2003 كانت حكراً مطلقاً على شخص، وهو صدام، وعائلته وعشيرته في أحسن الأحوال.
وهل يرتبط العنف بالآثار النفسية المدمرة التي تركها غزو العراق على مدى قرون من قبل دول كانت تنقل صراعاتها إلى داخله؟ أو بالحروب التي خاضها العراق مرغماً في زمن حكم البعث؟ أسئلة كثيرة تصعب الاجابة عليها مرة واحدة.
إن حلم المثقفين وقوى اليسار والعلمانية بعد الاحتلال وسقوط بغداد وهزيمة صدام كان وما يزال بناء دولة موحدة مدنية تحترم حقوق الانسان وتعيد للشعب العراقي كرامته وحقوقه وتعيد بناء ماهدمه نظام صدام- البعث على مدى عقود. فما الذي حصل؟ وما الذي جرى منذ تاريخ احتلال العراق وحتى اليوم ؟
كُتب الكثير ويكتب يومياً عن الوضع المأساوي للعراق، ويقارن حيناً بلبنان، وحيناً بالصومال، وحيناً بالشيشان وحيناً بدول أخرى دمرتها الحروب الداخلية أكثر من الخارجية. وينسى البعض ان العراق حاله حال أي بلد آخر يتميز عن غيره بخصائصه ويختلف في تركيبته السكانية، ويلعب دوراً حاسماً موقعه الجغرافي والدول المحيطة به وتحوله إلى حوض يجمع الحيتان المتصارعة على تبوؤ مركز القيادة في المنطقة، ثم لعنة بتروله. ثمة شيء يميز العراق عن غيره من تلك البلدان التي يقارن بها، إذ أنها لم تخض حروياً خارجية كما العراق قبل أن ينزلق هذا المنزلق الخطير وتطحنه حربه الداخلية الطائفية مقرونة بالعشائرية التي كاد أن ينساها العراقيون لفترة من الزمن.
يعتقد البعض أن عودة العشائرية والطائفية هي وليدة مابعد الاحتلال، متغافلين عن إحيائها من قبل نظام صدام البائد وتفاقم اتقاد جذوتها مع ظهور هامش الحرية وفقدان الأمن وانعدام تطبيق القوانين على مدى عشر سنوات.
لقد انزلق العراق منزلقاً خطيراً نحو الصراع الطائفي وهو يزداد عنفاً يوماً بعد يوم، وتقوم بتجييشه أكثر من جهة تتراوح بين دول مجاورة أو قوى إقليمية لها مصالح أو تخوفات معينة. يتحدث صادق جلال العظم في كتابه ذهنية التحريم حول الآيات الشيطانية لسلمان رشدي عن ملابسات ظهور الرواية إلى العلن بعد نشرها بزمن غير قصير على ضوء الصراع بين قوتين في سياق سعي كل منهما لتجيير القوى الاسلامية لصالحها وتبوؤ قيادة المسلمين في العالم، وهما السعودية وإيران. أفلا يلعب وجود العراق بين هاتين الدولتين دوراً في تصعيد الصراع، إذا ما كانا قد استغلا قضية سلمان رشدي لتأكيد كل منهما إمتلاك حق الدفاع عن الإسلام وحرصه عليه ؟ بل ويزداد الصراع تعقيداً حين تدخل على الخط دول أخرى مرتبطة بشكل أو آخر بهذا الطرف أو ذاك.
كما وتلعب دوراً كبيراً في تردى الأوضاع عوامل معروفة لكل متابع، فهناك حكومات ضعيفة (متشاحنة بين أطرافها ومع بعضها) تعاقبت على الحكم منذ 2003 ولا تختلف الحكومة الحالية عن ذلك، بل وتسعى نفس الأطراف المشاركة في الحكومة إلى جر البساط من تحت أقدام بعضها البعض وتحميل كل طرف الطرف الآخر مسؤولية مايحدث من ترد مريع في الوضع الأمني. وتتراوح السياسة في العراق بين " تبويس اللحى" تارة وبين " كسر العظم " تارة أخرى. وهنا مليشيات تسيطر، وهناك ميليشيات تتحكم، تتمدد وتتقلص حسب الظروف وحرارة المواجهة، ومؤسسات المجتمع المدني والأحزاب اليسارية غير فاعلة وليست قادرة على التغيير، لتشظيها وضعف جماهيريتها وتردي الوعي العام عموماً ولعدم توفر الدعم المادي لها من أي طرف ممسك بأنابيب النفط وخزانة الدولة ! في وقت سيطرت على تلابيب المال قوى الإسلام السياسي أو قوى تلبس ثياب الدين، والكل مشغول بملهاته دون أن يدرك ودون أن يهمه أن يغرق العراق في بحر من الدماء (كباخرة التيتانك) حين كان ركابها منتشين في لهوهم، غير مدركين أنهم يعيشون لحظاتهم الأخيرة..
واحدة من أكثر المعوقات في بناء دولة مدنية في العراق، هو تطفل رجال الدين على السياسة ودخول قوى غير كفوءة إلى ساحة العمل السياسي ثم تبوؤهم سدة الحكم والتحكم بمصادر ثرواته. يضاف إليه إنعدام تأثير القوى والأحزاب السياسية وتشتتها وانعكاس حتى نزعة البداوة على تلك الأحزاب والقوى التي ترفض التحالفات وتميل إلى تهميش ومحاربة بعضها البعض، تاركة العدو الحقيقي في أمان. علاوة على ذلك فإن القوى التي تتقاسم السلطة بالمحاصصة تتكالب في صراعها وتستخدم كل الوسائل لتسويد صفحة الآخر وتبييض صفحتها، وكلهم بلا خطيئة ويرمون على الآخر الحجر ! وصراعها على مراكز السلطة يصل حد الدعوة لاستخدام السلاح ودعم الإرهابيين. ولا يرضى أي طرف بغير كامل السلطة والثروة، ولايقبل أن يشاركه أحد فيها.
في تجربة ألمانيا بعد الهزيمة في الحرب العالمية الثانية مثال يستحق الاحتذاء، فقد كان الهدف إعادة بناء البلد بعد اثني عشر عاماً من الدكتاتورية والحرب وكانت سياسة التوافق على الحلول الوسط أساس البدء ببناء بلد ينهض من تحت الأنقاض، ولكن أيضاً تم ملاحقة أعضاء الحزب النازي الذين تلطخت أيديهم بالدماء وجرت ومحاكمتهم، بل وتتم ملاحقتهم حتى اليوم، في حين تركت أيدي البعثيين الملوثة بالدماء طليقة في العراق، بل والأدهى أنهم عادوا لتبوؤ المناصب في الدولة مجدداً. من ناحية أخرى فأن الدول الأوروبية التي تم إحتلالها من قبل الألمان، لم يتم فيها تدمير المؤسسات وأجهزة الدولة، حيث استمرت وهي تحت الاحتلال في عملها، ولم يتهم الموظف او العامل فيها بالخيانة، كما حصل في العراق. فالموظف والشرطي والعامل والجندي في أجهزة الدولة في العراق صار متهماً بالخيانة العظمى ويتعرض للقتل، بحجة ما أسموه في البداية، بالمقاومة الشريفة. المقاومة تلك التي كانت تستهدف على حد زعمهم الأمريكيين، أستمرت لتستهدف المواطن العادي حتى بعد خروج القوات الأمريكية من العراق، ويتضح لنا أن المقاومة المعنية ماهي إلا صورة وأنعكاس للصراع على السلطة، والوجه الآخر للطائفية!
العراق بحاجة اليوم وقبل كل شيء الى إعادة تشكيل وعي جديد لشعب تم تجهيله ودفعه عنوة إلى أحراش الجهل عبر سياسة دموية للبعث قبل 2003، حين تم تحويل العراق كله إلى ثكنة حربية، بدءاً من المدرسة وأنتهاءً بالجامعة، فانحدر الوعي إلى أدنى ما يمكن أن تصل إليه دولة في الزمن الحالي! الجهل والتأثير الديني الطوطمي بعد عام 2003 يقود العراق إلى هاوية التناحر والتقسيم الذي يبدو مثل كابوس يؤرق أبناءه المخلصين وكل الوطنيين الذين يجدون أنفسهم عاجزين عن إيقاف مد الصراع المستمر. ويبقى الحلم بدولة مدنية بعيداً غير سهل المنال للأسف.
ماهو الأمل في الخروج من هذه الحلقة الدموية المفرغة التي يدور فيها العراق؟ نعرف جميعاً أن ماتسعى إليه قوى الاسلام السياسي يختلف كلية عما يسعى إليه المجتمع المدني وقوى اليسار والعلمانية، وليس هناك من حل للقوى الأخيرة سوى البحث عن القضايا المشتركة الآنية التي تخص العراق وتحل مشاكله، بعيداً عن الخلافات الفكرية والأيديولوجية. ففي مرحلة كهذي تكون قضية الحفاظ على وحدة العراق وهزيمة أفكار الاسلام السياسي والاقتراب أكثر من المواطن العادي هي الأهم من التراشق بالخلافات الأيديولوجية والفكرية. والصراع شديد، فقوى التعصب الإسلامي تقترب من الفكر النازي في سياستها، ومواجهتها تتطلب الوصول إلى عقل المواطن ووعيه ليدرك خطورة المآل لو استمر الحال على ماعليه.
مشكلة وعي المواطن العراقي الذي يشكل الأميون أغلبه ليست بقضية سهلة على الاطلاق. فمواطن تستطيع أن تحركه المشاعر الدينية والطائفية والعشائرية يفرض التفكير بوسائل جديدة تعيد صياغة بعض فقرات الدستور حتى أو وضع قوانين تتلاءم مع الوعي العام للمجتمع.
في أوروبا وبسبب الأزمة الاقتصادية منذ عام 2007 طرح عدد من المفكرين والسياسيين في بعض البلدان فكرة إعادة النظر في حق المشاركة في الأنتخابات، على اعتبار أن دافعي الضرائب هم الذين ينبغي أن يحددوا سياسة الدولة الاقتصادية وليست تلك الجمهرة من الناس التي تعيش على الضمان الاجتماعي والعاطلين عن العمل والسجناء، ففي مصلحة هؤلاء الحصول على أكبر قدر من الأمتيازات. ولست بصدد مناقشة صحة وواقعية مثل هذه الفكرة، لكني أتساءل ألا ينبغي التفكير بالبحث عن ميكانيزم محدد في العراق يمنع قوى الإسلام السياسي من استغلال الانتخابات وما لديها من قدرات على التحكم بوعي المواطن البسيط وصناديق الاقتراع؟ والعراق لم يمر فعلاً بفترة انتقالية بعد الاحتلال يتهيأ فيها الوعي لديمقراطية على الطريقة الأوروبية، ولدينا دستور مبهم في بعض فقراته ومفصل على مقاسات محددة. أما الجانب الآخر فهو قوانين الانتخابات المجحفة التي تحرم قوى اليسار من لعب دور يناسب رغبتها في خدمة العراق وإنقاذه من براثن التمزق والصراعات الطائفية والعشائرية والعرقية.