"اصابع الحنه الى وطني"/ فهد محمود

كانَ في دوامةِ التفكيرِ وهواجسٍ متعددةٍ تراودهٌ منذ أن فاق ذهنه على السياسةِ، لكن هذا الصباح انتابه القلقٌ دون إرادة ذاتية رغم أن أمره قد حسمَ منذ ان وضع الأمنية في دائرة الحلمِ.
استيقظَ مبكراً كعادتهِ رغم ضجيج المعاملِ في اليوم السابق وإرهاق الآلات والأفران ذات الحرارةِ العاليةِ وطرق المعادنِ والإشرافِ على الورشة الكبيرة بأقسامها المتنوعة، نعم استيقظَ في يوم عطلةٍ جميل، لكنه يوم استثنائي في حياتهِ، انه ذاهبٌ يحمل صوته، تنبه إلى عقاربِ ساعته، انشدّ انتباهه كأنما يريد القول: نعم سأسبقكِ أيتها الساعةَ اللعينةَ، هذه المرةَ لن ادعكِ تتنفسينَ الصعداءَ، لن ادعَ صوتي يسرقٌ ثانيةً ممن ادعوا الإخلاص للشعب والوطن، ادعوا اعمار البلد بعد سقوط الصنم، لكن خلقوا أصناما أكثر قبحاً ووحشيةً، بنوا أبراجا وناطحات سحاب من الفساد وسرقة قوت الشعب، بنوا مؤسسات العراق على طريقة المحاصصةِ الطائفيةِ والاثنية وأطلقوا العنان للميليشياتِ فيما الإرهاب يحصد الأرواح لآلاف من دماءِ العراقيين الأبرياء.

استفاق من تفكيره المتشعب وقد وصل إلى تجمع العراقيين، إلى حيث العرس. سيبدأ الاحتفال بعد دقائق، تمعّن في الوجوه الباسمة المتنوعة من حيث المنشأ القومي والاثني والمذهبي، الا انها تشابهت في التفكير لحظتها، ارتفعت الأصابع لتنادي، نعم سأضع إصبعي في الحناء لرسمِ عراق المدنية والديمقراطية.
اخذَ مكانه في الجموعِ الذاهبةِ إلى حيث المركز الانتخابي، حناجر تهلهل والأخرى تنشد
موطني .. موطني .. الجلال والجمال والسناء والبهاء في رباك ...هل أراك .. هل أراك
سالماً منعما وغانما مكرما ً ...
والأخرى تنشد لقائمة الجياع، لقائمة الشهداء ولـ "لا للطائفية ... لا للمحاصصة ... لا للمفسدين ... نعم للتآخي"، لقائمة الأيادي البيضاء، لقائمة البديل المشرق، لقائمة التحالف المدني الديمقراطي وأخواتها في محافظات العراق الأخرى.

دخل ذهنه في عالمٍ وزمن امسيا من الماضي، لكن الماضي المليء بالتضحيات والنضال والكفاح من اجل أن يكون للإنسان قيمتهٌ الحقيقية، استفاق ثانية على صوت الموظفةِ المسؤولةِ عن تدقيق الاسم طالبةً منه أن يضع إصبعهٌ في الحبر المخصص للتصويت. نظر باستغراب إلى إصبعه، هو ذا يقرر رسم العراق... عراق المواطنة ... عراق البناء والمؤسسات الدستورية الفعلية ... عراق النزاهة والاستقلالية، تذكر أمه وهي ترقد في قبرها، كأن صوتها ينادي ضع إصبعك في المداد يا بني، فأنا من ضحايا النظام البائد، انتظرتك لهذا اليوم، أنت والملايين من أمثالك كفوئين لرسم الخارطة السياسية الجديدة.
"ضع إصبعك وهناك استلم بطاقة التصويت".. لم يبال بصوتها بل عاد إلى ذاكرته، الشهيد أبو شهدي البصراوي، الشهيد أبو سحر الجنوبي، الشهيد خضر كاكيل الكردستاني، الشهيد سعدون الكربلائي والشهيد أبو فرات الفراتي الأوسط، حاول أن يتذكر كل الشهداء لحظتها على ان صوت الموظفة عاود من جديد: ضع علامة " صح " أمام القائمة المفضلة لديك.
دون أيّ مقدامات اتجه إلى قائمة " 2 3 2 " ليطبع قبلة قبل علامة "صح" وبهدوء متناه اتجه صوب الصندوق ليضع البطاقة والقبلة سوية فيما تأمّل إصبعه مخاطباً إياه بعد رفعه الى الهواء:
- إليكِ يا أمي حيث ترقدين بهدوءٍ رغم كل أفعال التفجير الأجرامي للقتلة المجرمين ..
إليك يا وطني حيث جمالك السومري الرائع ..
إليكم يا شهداء الشعب والوطن، يا شهداء الحزب الشيوعي العراقي ...
إليكم يا شهداء الحركة الوطنية العراقية .....
إليكم يا أطفال بلدي الجياع .......
إليك يا عراق .....
إليكم جميعا اهدي إصبعي المحنايةِ وقبلتي.