لا وجود لأي شي او ظاهرة بالطبيعة لا تؤثر ولا تتأثر فكل الاشياء والظواهر مادية كانت او غير مادية تؤثر وتتأثر بما حولها من اشياء وظواهر، وكينونة الشيء او الظاهرة محكومة بظرفي الزمان والمكان .بمعنى ان علاقة الاشياء والظواهر ببعضها وعلاقتها بالبيئة الحاضنة لها علاقة جدلية .
والتلازم والتكامل بين المؤثر والمتأثر يشكل الوحدة الموضوعية للوجود. والعلاقة الجدلية هي حركه ابدية يكون وفقها تأريخ الوجود.
ولكي تتضح طبيعة التأثيرات المتبادلة بين الاجتماعي والسياسي علينا التعرف على بدايات نشوء النظام الاجتماعي وبلورة مكوناته بشكل مبسط وسريع .
. الوجود الاجتماعي: يعرف من خلال اساسه المادي في بداية نشوئه كان المجتمع قائماً على اساس مواجهة المخاطر والتحديات التي تهدد بقاءه لذا كانت الغاية الاسمى والملحة لديه هي العمل من اجل البقاء وعلى ضوء هذه الغاية المتفردة والمستحوذة على الجهد الاجتماعي تشكلت الروابط الاجتماعية بحافز غريزي وموضوعي وبمرور الزمن وبعدما تحقق الاستقرار واصبح الانسان متمكناَ نسبيا من مواجهة تلك التحديات وبعدما اكتسب الخبرة في بناء مساكن محصنة وتأمين غذائه واختيار الاماكن الاكثر امنا ونفعا بدأ وجوده الاجتماعي يتخذ افاقا جديدة وصار العمل المنتج من ضرورات الحياة وهو المستحوذ الاكبر على الجهد الاجتماعي ونتيجة لذلك برزت روابط اجتماعية جديدة تشكلت وفقها الاسرة والعشيرة والقبيلة كمكونات انتاجية تتوافق مع طبيعة الاعمال البدائية (صيد - رعي - زراعة) .
.في سياق حركة التاريخ وتطور عملية الانتاج الاجتماعي تحقق فائض من الخيرات المنتجة وصار الفائض سلعة وصارت السلعة غاية المنتجين وظهرت الملكية الخاصة والتمايز الطبقي كدلالات اجتماعية وعلاقات انتاج تؤسس لروابط اجتماعية ذات نسيج جديد يختلف كليا عن طبيعة الروابط الاجتماعية القديمة ذات النسيج العرقي او الديني كونها تقوم على اساس تبادل المنافع وهي سمة مهنية عابرة لكل تلك المسميات السلفية. ووفق هذه المتغير صار المجتمع الطبقي ولكل طبقة رابط وناظم وغايات تسعى لتحقيقها وتشكل بذاتها مركز قوة في المجتمع وهي رهن تطور العمل وادواته ففي حال تخلف قوى الانتاج الاجتماعي تستحوذ المكونات السلفية (( العرقطائفية)) على الحراك الاجتماعي اما في حال تقدم قوى الانتاج يكون الحراك الاجتماعي حراكا طبقيا مدنيا وهو الاكثر قوة في التأثير على المجال السياسي والاجتماعي والاقتصادي بالمقارنة بالمكونات السلفية كونه يخلق وعيا مطلبيا ومحاججاّ....
نستنتج مما تقدم ان الاساس المادي للمجتمع والذي يتجسد في اسلوب انتاج الضرورات المادية هو الذي يقرر شكل الروابط الاجتماعية التي تصير وفقها المكونات او الطبقات الاجتماعية ففي حال تخلف قوى الانتاج فأن الاعمال وبالاخص الكبيرة منها تحتاج الى حشود من العاملين لانجازها (القبيلة او العشيرة) كونها تحتاج الى جهد عضلي ولا تحتاج الى كفاءة عالية او مميزه ((شق الانهر وكريها _نصب الجسور_البناء_شق الطرق_مواسم الحصاد ....الخ )) وعندما يكون اسلوب الانتاج بقوى انتاج متقدمة في هذه الحال العمل لا يتطلب كل هذه الحشود من العاملين وبالتالي لايحتاج الى عمل العشيرة او القبيلة انه يحتاج عمل افراد يتميزون بالكفاءة في استعمال ادوات العمل المتقدمة وينتهي دور القبيلة او العشيرة كمكون انتاجي وتستبعد من ميادين العمل لنشوء طبقات اجتماعية جديدة تتوافق مع الحداثة في عملية الانتاج .
. السياسة تعبير مكثف عن الاقتصاد من خلال هذه المقولة الماركسية يمكننا تلمس العلاقة الجدلية بين المكون الاجتماعي والكيان السياسي لجميع المكونات الاجتماعية سمتها الاقتصادية من خلالها تمارس تأثيرها على المجال السياسي . ويتوقف هذا التاثير على الكيفية التي يبدو عليها المكون . ان كانت الروابط الاجتماعية للمكون تقوم على اساس العرقطائفي ولا تقوم على اساس العمل ولا تتصف بالمهنية اي انها مكون سلفي لا مدني (( القومية العشائرية,الدينية,الطائفية)) حتما سيكون تأثيرها على المجال السياسي متوافقا مع اساسها المادي (( العرقطائفي )) مهيئا الاسباب الموضعية لانتاج ظاهرة الاحزاب الدينية الطائفية والقومية العشائرية ,اما اذا كانت الروابط الاجتماعية للمكون تقوم على اساس العمل والعلاقات الاقتصادية اي انه مكون مدني لاسلفي (( صناعيون,زراعيون ,تجار ,فنيون ,الخ......)) هنا يكون الحراك الاجتماعي حراك مصالح ,تصارع وتنافس ,صراع بين مالكي وسائل الانتاج والعمال ,صراع بين المنتجين والمستهلكين وتنافس بين الرأسماليين انفسهم .)) هذا هو الحراك المدني الذي يهيئ الاسباب الموضوعية لنشوء كيانات سياسية تفعل وتطور الحياة المدنية وهو يختلف كليا عن الحراك العقائدي السلفي الذي ينتج عنه كيانات سياسية سلفية تفعل النزاعات العشائرية والطائفية الدينية المقيتة.
نخلص الى القول ان اسلوب الانتاج (( الاساس المادي للمجتمع )) هو الذي يقرر طبيعة الروابط الاجتماعية التي تصير وفقها المكونات الاجتماعية والتي بدورها تقرر نوع وطبيعة الحراك السياسي، ان الكتل السياسية احزابا وتيارات ترتكز في حراكها لطبقة او مكون اجتماعي معين ,تمثل مصالحه وتبادله التأثير . وهذا لا يعني ابدا ان الاساس المادي الذي تتحرك وفقه الكيانات السياسية ينحصر فقط في طبقة او مكون اجتماعي معين ففي البلدان المتخلفة وغياب التراتبية الانتاجية ,تجعل من المصلحة الوطنية وحقوق الانسان كضرورة موضوعية للنهوض الاجتماعي وهو الاساس المادي الذي تنطلق منه الكيانات السياسية الوطنية في كفاحها ضد كل اشكال التخلف والتميز المذهبي والعنصري فهي تتحرك باتجاه تحديث قوى الانتاج والدفاع عن حقوق الانسان وبناء الدولة المدنية الديمقراطية وتكريس العدالة الاجتماعية عكس التيارات السلفية التي تكرس التناحر الاجتماعي.
والكيانات السياسية التي تتحرك وفق هذا النهج هي ذات اجندة وطنية خالصه تستمد قوتها من الشعب ولا شئ غير ذلك وهي محكومة بمستوى الوعي السائد اجتماعيا وفي حال تراجع الوعي تعتمد النخب الوطنية والانسانية في نشاطها الحراك النخبوي وهو غير الحراك الجماهيري وبالتالي فأن تأثيرها في المجالين السياسي والاجتماعي محدود كون المجتمع لا يملك ذلك المستوى من الوعي الذي يحقق التواصل والتفاعل مع الكيانات السياسية الوطنية التي تدافع عن مصالحه وعيشه الكريم. وهذا يفسر عزوف التيارات او القوى السياسية السلفية عن تحديث قوى الانتاج والعمل على سيادة النمط الاستهلاكي خوفا من ظهور مكونات اجتماعية جديدة تكون سببا في ظهور كيانات سياسية مؤثرة لا تتوافق مع غاياتهم السياسية ولا مع مصالحهم,والسائد اقتصاديا سائد سياسيا .