مأساة كلي كافيا / منال عبد الأحد المالح

بعد أيام قليلة من توقف عمليات "قادسية صدام" الكارثية، كان الدكتاتور يضيف الى "امجاده" المزيفة "مجدا" لا يليق إلا به وبأمثاله من الطغاة. كانت طائراته تسقط المطر السام على القمم والسفوح والوديان والسهول في كردستان، لتتقدم جحافله بعد ذلك مسجلة "الانتصارات الباهرة" على الاطفال، النساء، الشيوخ، والرجال العزل، بل وعلى مزارع التبغ والقمح وبساتين اللوز والجوز والفستق والفاكهة، وعلى المواشي ايضاً
هذه شهادة اخرى، من شاهد عيان، عن "قادسية صدام" الكردستانية:
في يوم 27/8/88، غادرنا مقر الفوج الأول في (كلي مراني) وتوجهنا شرقا، كانت عوائل انصارنا قد هوجمت قبلنا بيوم واحد في الاتجاه ذاته. أما عوائل المنطقة فقد سبقتنا بعدة ايام، عدا عوائل القرى البعيدة عن الجبل والتي بدأت رحلتها قبل أيام فالتقينا بهم في جبل (كارة).
غادرنا مقرنا مضطرين بسبب تقدم القوات الحكومية خشية محاصرتنا، وقيامها بقصف القرى قبل دخولها ثم حرقها او تفجيرها لازالتها من الوجود.
كان حجم القوات الحكومية كبيرا يصعب على قواتنا مواجهته، وفي أجواء استخدام السلطة للسلاح الكيمياوي والعنقودي ضد عدد من القرى قبل ايام من بدء تقدمها.
بدأنا المسير حوالي الساعة الثالثة صباحا، ومعنا القليل من الطعام نحمله على ظهورنا، وبعد ست ساعات من السير الحثيث، توقفنا قليلا لتناول الطعام، وهناك تواردت انباء عن تقدم قوات السلطة باتجاهنا، واحتمال قيامها بقطع الطريق، اي احتلال منفذ (كلي كافيا) الذي نستطيع بعد عبوره التوجه الى منطقة برزان ـ اربيل، لذا توجب علينا الاسراع في المسير قبل وصول قوات السلطة.
بلغنا مدخل الوادي عصرا، وكانت هناك عشرات الالاف من اهالي القرى، بصحبة عدد من الانصار- البيشمركة مع مؤن محملة على ظهور الحيوانات، وملابس واغطية، في حالة من الفوضى، كأنما هو الكابوس بعينه متجسدا في آخر النهار. لقد ضاق الوادي بهؤلاء القوم. لم تبق فسحة لعبور شخصين، فكيف بحيوانين؟ انها صورة من صور متعددة لمأساة واحدة، وهي أن هذا الحشد كله يريد النجاة بحياته فحسب، فكلهم خلفوا وراءهم، بيوتا، اموالا، مزارع وحيوانات، تاريخهم، ارضهم، جهد عمرهم، قبور موتاهم. كل ذلك واكثر من اجل الخلاص بحياتهم وشرف نسائهم، فلقد شاع ما?تحدث به احد رموز السلطة الصدامية بأن نساء الاكراد مباحات للجنود.
كنا نرى قوافل المهاجرين وهي تسير الهوينى من التعب على طريق جبلي طويل. امرأة عجوز حملت طفلا على ظهرها، وآخر على يدها وفي اليد الأخرى حبل الحمار الذي تسحبه، وقد ظهرت علامات التعب عليه من وطأة حمله الثقيل.
فتيات صغيرات يتناوبن في حمل أخوانهن الصغار. أطفال يافعون يسيرون مرهقين وهم يحملون (جلكانات) الماء الذي لا يعادله ثمن آنذاك. شيخ يسحب هو الآخر بغلا ويبحث عن أهله الذين سيعودون أولا يعودون. أربعة أطفال تم ربطهم على ظهر البغل كما يربط الحطب، وآخرين تم وضعهم في صناديق الفاكهة وهي تتدلى على جانبي البغل. فتاة ترمي بطانيات وملابس من على ظهر الحمار ليخف حمله ويصير قادرا على حمل امها العجوز. ام تبكي وتسأل الجميع بحرقة: هل رأيتم دلبرين ابني، لم يتجاوز عشرة أعوام، ذهب ليبحث عن حمارنا لكنه لم يعد؟
انتحينا جانبا، وجلسنا على سفح منحدر خارج الطريق المزدحم حتى يستجلي آمر المفرزة طبيعة الاخبار عن تقدم السلطة ووجهتها. فجأة رأينا هدير البشر منطلقا الى فتحة الوادي وسمعنا صراخا وبكاء وعويلا، حيوانات تسقط في الوادي، حاجيات تُرمى في النهر، اناس يتراكضون، نساء يلطمن الصدور. وسادت فوضى كبيرة تشير إلى وجود خطر كبير.
لقد تأكد خبر وصول قوات السلطة الى قرية (كافيا) واحتلالها نقطة عبورنا. كما احتلت السفح الخلفي لجبل (بكرمان) والذي عسكروا فيه وأحرقت قراه.
أي اننا وقعنا في كماشة وهذا يعني اما مقاومة قوات السلطة وعندها نتكبد ربما آلاف الخسائر خاصة بين الاهالي والنساء والاطفال، او الانسحاب والعودة الى المجهول وهذا يعني اللجوء الى وعورة جبل (كارة) إلى حين إيجاد طريق آخر للهجرة.
والاحتمال الاخير تحول الى قرار يقضي بانسحاب الانصارـ البيشمركة وترك الأهالي ليسلموا أنفسهم إلى السلطة. وكان هذا القرار، هو ذاته الذي سبب الهلع الذي اجتاح الناس. الرجال ينسحبون باسلحتهم باتجاه جبل (كارة) الشامخ والنساء يولولن مفجوعات بالمصير القادم، فاللحاق بأزواجهن يعني مواجهة الموت بالسلاح الكيمياوي او القصف العشوائي وربما التسبب في موت رجالهن ايضا، والتسليم للسلطة يعني استباحة دمائهن وشرفهن.
لم تكن لدينا القدرة على التقاط آلاف الصور المأساوية، البطولية في لحظات الخيار الصعب تلك:
ـ فتاة في العاشرة من عمرها تركض وراء أبيها: لن اتركك، لن اذهب الى جيش السلطة، سآتي معك.
ـ شاب في الثلاثين يبكي وهو يودع زوجته وطفليه، فهو مضطر لتركهم، فلربما يكون لهم امل بالنجاة بعد التسليم اكثر من قساوة الجبل وضراوة المعركة مع الجيش فوجودهم يعني الحكم الاكيد بموتهم، اما التسليم فربما لن يتجاوز السجن او الابعاد، ولكن. ولكن الاطفال
ـ زوجة احد انصارنا تقف بهدوء وتناشد زوجها: لن نستسلم، اذهبوا انتم وسنتدبر امورنا، الموت بالسلاح الكيمياوي اشرف من التسليم.
كان هناك من ترك سلاحه واختار التسليم مع عائلته، ومن تكفل بحماية عائلته في الجبال وفضل بقاءها معه في أصعب الظروف. في تلك اللحظات كانت قلوبنا تقطر دما ولم نستطع التحدث مع احد او مواساة احد وبأي شيء؟
وبعد فترة، بينت الاستطلاعات ان القوات الحكومية تتباطأ في التقدم وربما تستقر في اماكنها الحالية ثم تواصل تقدمها غدا او بعد عدة ايام، كما تبين ان هذه القوات ترفض استقبال العوائل التي تريد التسليم فهذه ليست مهمتها. كما ان "الجحوش" اوصلوا اخبارا الى الاهالي مفادها ان لا تسلموا أنفسكم فربما تصدر قرارات جديدة تفيد وضعكم. وهكذا حسم الخيار وانسحب الحشد كله إلى (كارة) أمام قرار جديد. فلا عودة الى القرى الحبيبة والبدء بتدبير الأرزاق للبقاء في الجبل والبحث عن طرق ممكنة للتوجه الى الحدود والاختفاء عن الطيران والقصف ال?نتقامي.
هناك بدأت فترة الحصار المؤلمة التي استمرت الى حين اصدار السلطة قرار "العفو المزعوم" بالنسبة للأهالي، والى حين عبور الحدود بالنسبة للانصار- البيشمركة.. و لهذه الفترة قصة اخرى.