المرجعية المعرفية انحياز لمشروع وطني ومدني ديمقراطي / لفتة عبد النبي الخزرجي

في مقال كتبه المفكر الدكتور سليم علي الوردي في مجلة الثقافة الجديدة ، تناول فيه أهمية العلاقة بين العلم و السياسة ، ودور المفكر المثقف في الحياة الاجتماعية ، قد أكد "إن علاقة السياسيين بالسياسة شيء ، وعلاقة المفكرين بها شيء آخر ." ويستشهد الباحث بأطروحة مؤسس علم الاجتماع ابن خلدون في هذا الصدد ، الذي ورد عنه انه قال " العلماء من بين البشر أبعدهم عن السياسة ومذاهبها ." كما يذكرنا الكاتب بما صدر عن الفيلسوف البريطاني برتراند رسل ، بصدد العلاقة بين العلم والسياسة ، التي أكد فيها على " أن من أصعب المشاكل التي تواجه الديمقراطية ، إقامة علاقة صحيحة بين العلم والسياسة ، بين المعرفة والسلطة . أو بتعبير أدق بين العامل في حقل العلم والعامل في حقل إدارة المجتمع ."1
إن هذه الأطروحة تمثل وجهة نظر متقاربة بين عالمين ،"يمت احدهما إلى ثقافة الحكم المطلق -القرن الرابع عشر - ، والآخر إلى ثقافة القرن العشرين الديمقراطية . " ومع ما يمثله هذا الطرح المتقارب ، بالرغم من بُعد الزمن بين العالم ابن خلدون من جهة وبين الفيلسوف البريطاني برتراند رسل ، إنما يؤكد أن العلماء تكاد تكون أفكارهم متقاربة بالرغم من الفاصلة الزمنية ، "وهو ما يدعونا إلى التحري عن الدلالات المعرفية لرؤيتيهما بصدد العلاقة بين رجلي العلم والسياسة ."
إن العلاقة بين المثقف المفكر "العضوي " الذي ينتج الثقافة من جهة وبين المثقف المستهلك للثقافة من جهة اخرى ، لابد أن تكون مبنية على أساس فهم وظيفة كل منهما ، وفي الوقت نفسه ، ضرورة الوعي للمشتركات بين الطرفين المتقاربين ، الذي يصنع الثقافة وينتجها ، والذي يتناول الثقافة ويعتبرها غذاء روحيا لا غنى عنه . وفي هذه النقطة بالذات يذكر الدكتور سليم الوردي أن الثقافة تتمثل في القيم المادية والروحية ووسائل خلقها وتوظيفها ، ولا يجوز أن نقصر فهمنا للثقافة على جانبها الروحي فقط ، لان هذا الفهم كما يقول الكاتب "ما يجعل الثقافة العراقية عائمة لا ترسو على مرسى ويصح القول : إن مجتمعا لا ينتج غذاءه لا ينتج ثقافة حقيقية ."
وفي حقل التعريف والتوصيف لمهمة المفكر ، يذكر الدكتور الوردي ان" المفكر : هو من يفكر بعمق ، ولا يطلق أحكامه على عواهنها من دون روية ، ولا يحكم على الراهن من دون أن يستدبر مقدماته ، ليتاح له أن يستشرف مآله مستقبلا . ويثير لدى المتلقي الأسئلة ليدفع به إلى تخوم معرفية ، ربما لم يألفها ." 2
الذي يعنينا في هذا الموضوع هو العلاقة بين رجل العلم "المفكر " من جهة ، وبين رجل السياسة "الحاكم"من جهة أخرى . هذه العلاقة التي يعتريها الكثير من الإرباك وسوء الفهم . وهي في بلادنا تأخذ طابعا يسوده الازدراء بالمفكرين والسعي الى تقزيم دورهم والعمل على تدجينهم"ووضعهم تحت أبط أساطين السياسة خاصة في خضم المشهد السياسي الراهن غير العقلاني ، والقائم على الاحتراب بين القوى السياسية المتنفذة ." وهذا يقودنا إلى الأطروحة التي يقدمها الدكتور سليم الوردي ، وهي "ان علاقة السياسيين بالسياسة شيء وعلاقة المفكرين بها شيء آخر ."3
وفي هذا الإطار يتناول الباحث موضوعه بعناية فائقة وتوصيفات علمية ، يؤكد فيها أن رجل الفكر يختلف عن رجل السياسة من حيث الغاية . ويضعنا في صورة هذا الاختلاف من خلال كون " غاية المفكرهي بلوغ الحقيقة أو الدنو منها في الأقل أما غاية السياسي فهي الوصول إلى سلطة الحكم . " وهنا طبعا يحصل الافتراق ، لأن فن السياسة ينصب على تقويض سلطة الآخر ، ومن ثم إزاحته ومحاولة ابتلاع ما تدره السياسة من مغانم (ثم الدفاع عنها ، وهي الأثافي الثلاث التي يرتكز إليها قِدر السياسة وتطبخ فيه "حقائقها" النفعية والذرائعية والظرفية .)
بعد أن انجلت حقيقة العلاقة بين العالم " المفكر " من جهة وبين السياسي " الحاكم " من جهة أخرى ، وتوضحت مواقف الطرفين ، "وتأسيسا على ذلك لا يحسن بالعلماء أن يتواشجوا مع السياسيين " ، والباحث يضع الأمور في نصابها الصحيح ، من خلال رؤية علمية ، ويشير إلى أننا "إذا أردنا أن نؤمن لأسباب وصل وتواصل معافاة بين السياسيين والعلماء ، بجدر بنا أن نرسم بدقة أبعاد الفصل بينهما ."3
ولغرض تأكيد هذا الاستنتاج العلمي ، يشير الباحث إلى "أن الشعب العراقي بحاجة إلى انبثاق مرجعية معرفية رصينة ، لا يستغرقها زبد الأحداث ، " وهذه المرجعية تكون مؤهلة للتعالي على الانقسامات المجتمعية والسياسية . ولغرض تحديد معالم هذه المرجعية المعرفية وضرورتها "في خضم هذه اللوحة السياسية المتناشزة " والتي يرى الباحث أن الحاجة تزداد إلى تفعيل أطروحة المرجعية المعرفية ، لأنها تشكل" استنارة بالمعارف العلمية والوقوف على حقائق الأشياء ." وفي الوقت نفسه فان هذه المرجعية المعرفية ستعمل على إيصال أفكارها ومشاريعها في تنظيم الحياة الاجتماعية إلى أوسع القواعد الجماهيرية للمرجعيات السياسية القابضة على السلطة ، وتعمل على تنويرها وتحريك الساكن في صفوفها ، وهذا سيمثل " ضغطا على زعامات " تلك المرجعيات السياسية ، وقد تصل الأمور إلى حد إفراز زعامات متبصرة ، كما يؤكد ذلك الأستاذ الباحث . إن هذه الأطروحة تدلنا على أن المرجعية المعرفية ستكون وسيلة الشعب لتقويم عمل السياسيين ، ودافعا لتصحيح الكثير من المواقف ، وهو انحياز معرفي لصالح بناء الدولة على أساس مؤسسي ودستوري ، الدولة المدنية الديمقراطية .
لا نستغرب إذن إذا رأينا السياسيين يعزفون عن الثقافة والمثقفين ، وليس بمستغرب أيضا ، إذا ما حصل هذا الافتراق . ولذلك شهدنا كثيرا من الممارسات ذات الطابع العدائي ، من خلال ما تعرض له مقر الاتحاد العام للأدباء في بغداد ، ولمرات . وهذا ما أكده الباحث الدكتور سليم الوردي ، حيث يقول " ولهذا لا يحسن بالمفكرين والعلماء أن يسايروا أحكام السياسيين الظرفية عن الحدث، وإلا انخرطوا في بورصة المضاربات السياسية وتقلباتها ." وعندما يحصل ما تخوف منه الباحث ، أي عندما ينخرط العلماء والمفكرون في ميدان السياسة وألاعيبها وأمراضها ، في تلك الحالة " تفقد المعرفة رصانتها العلمية وجدارتها في تفسير حركة المجتمع ، ولا تعود بوصلة ترشد الناس إلى الطريق الصحيح ."