قصة الضابط السوفييتي الذي حارب الى جانب العرب في سوريا / رضي السماك

أجرت قناة "روسيا اليوم " خلال شهر كانون الأول الماضي حواراً مع ليونيد موتوفيلوف ،المستشار السوفييتي السابق للقوات السورية في لبنان إبان الغزو الاسرائيلي لهذا البلد ( 1982- 1983) ، وهو الغزو الذي وصل الى العاصمة بيروت وضرب حصاراً عليها دام ما يقرب من ثلاثة شهور ، ويُسلط هذا الحوار الضوء على واحدة من الصفحات المجهولة المجيدة لدعم الاتحاد السوفييتي العرب عسكرياً ليس بالسلاح فقط ، بل والمشاركة القتالية ،وإن بشكل محدود وسري ، في حروبهم مع أسرائيل بعد هزيمة 1967 .
اُرسل العقيد موتوفيلوف في أوائل الثمانينيات لمساعدة القوات السورية المتواجدة في لبنان لرفع جاهزيتها ومهاراتها القتالية في الحرب التي خاضتها إلى جانب القوات الوطنية - الفلسطينية المشتركة ضد الاحتلال الأسرائيلي 1982، وهي حرب لم تكن متكافئة وانتهت بهزيمة موجعة لمنظمة التحرير الفلسطينية واجبارها وجميع فصائلها المقاومة على الانسحاب من لبنان ، إذ كان ميزان القوى حينذاك يميل بقوة لصالح أسرائيل من جميع النواحي العسكرية والسياسية والاقتصادية ، جراء الصلح المنفرد لأكبر دولة عربية (مصر الساداتية ) مع اسرائيل 1979، ناهيك عن التخاذل العربي الفاضح ازاء العدوان.
ومن الحوار مع الجنرال الكبير موتوفيلوف نعرف أنه كان من أكفأ وأخلص الضباط السوفييت الرفيعي المستوى المرسلين الى سوريا حينذاك وبالفعل فقد أبلى بلاءً حسناً منقطع النظير ، ونال خمس رتب عسكرية رفيعة ، منها ثلاث بصفة استثنائية ، كما نال العديد من الأوسمة وشهادات التقدير من قيادة بلاده والقيادة السورية ، وأكمل مهمته بتفانٍ وعلى أحسن وجه في تدريب ورفع جاهزية اللواء السوري (62/ الفرقة العاشرة ) المتواجد في لبنان ، وعاين بنفسه أسقاط طائرات اميركية شاركت في العدوان سرياً إلى جانب أسرائيل على لبنان ، وتم اسقاطها بصواريخ سوفييتية وتم أسر عدد من طياريها الأميركيين ، وأحدهم طيار من أصل افريقي تم تجريده لحظة الاسر من كامل ملابسه . وتعرض محدثنا الجنرال الخبير السوفييتي مرتين للخطر البالغ : الأولىٰ عندما ضلت عربته العسكرية بصحبة بعض رفاقه من الضباط السوفييت ووجدوا أنفسهم فجأةً وجهاً لوجه عند حاجز اسرائيلي ، ولولا تمكن جندي اسرائيلي ، روسي الأصل ، من ابلاغهم بالروسية خلسةً بأنهم الآن في منطقة اسرائيلية وارشدهم الى الطريق المؤدي الى الأراضي السورية ففروا في الحال من الحاجز لكانوا في الأسر ، لأن آمر الحاجز أبلغ قيادته بالأمر وكانت الشرطة العسكرية الاسرائيلية في طريقها للقبض عليهم . والمرة الثانية ،وهي الأخطر ، والتي كُتب له فيها عُمر ثانٍ ، و تجرّع خلالها بعض سكرات الموت الحقيقية ، فكانت عندما انفجر لغم أدى الى بتر ساقه بينما كان يحاول الاقتراب من موقع اسرائيلي على مكان مرتفع ليستكشف عما إذا هو الذي يترصد تحركاتهم حيث تُشن عليهم غارات إسرائيلية بالمدفعية فور تحركاتهم لعلم الاستخبارات الاسرائيلية المسبق بوجود ضباط سوفييت كبار بالأسماء بين القوات السورية ، ومن بينهم اسمه ، حيث بثت الاذاعة الاسرائيلية ذات مرة في سياق حربها النفسية على سوريا والاتحاد السوفييتي نبأ مقتله كذِباً كبالون اختبار للتأكد من مدى وجود هذا الاسم بالفعل بين الخبراء العسكريين السوفييت في الجيش السوري ، ونظراً لاهتمام الرئيس حافظ الأسد الشديد به ، لكفاءته العالية وتفانيه في تدريب الضباط والجنود السوريين ، أمر بنقله إلى موسكو على طائرته الشخصية ، لكن تركيا ،العضو في الناتو والمعادية لحركة التحرر الوطني العربية والاتحاد السوفييتي ، اعترضت مرورها بأجوائها فتم نقله بطائرة شحن روسية صادف مجيئها حينئذ الى دمشق قادمة من افريقيا ، واُجريت له عدة عمليات جراحية بعد فترة من الموت السريري، كان فيها بين الحياة والموت ، ودخل خلالها في إشراقة نجوى روحانية وجدانية بين حقيقة العالم السفلي والعالم التحتي ، ونذر مبتهلاً إلى الله خلال ثواني الاستفاقة المتقطعة إذا ما أنقذ حياته من الموت ، بأن يكرّس ما تبقى له من عُمر لخدمة الرب والدين ، وهكذا نجحت عمليات علاجه وتشافى تماماً من اصابته الخطرة ، وأوفى بنذره وتحول إلى رجل دين عُرف ب " المطران روفائيل " في إحدى الكنائس ، وتخلىٰ عن عضويته في الحزب الشيوعي والعمل العسكري ليتفرغ بالكامل للعمل الديني الكنسي . ويذكر مُحدثنا بأنه ينحدر من اُسرة نبلاء كانت مقربة من البلاط القيصري الروسي ، وشارك جده ايفان موتوفيلوف في الحرب الاهلية ( 1917- 1922) بين البلاشفة الشيوعيين والجيش الملكي القيصري ، لكن جده انشق عن الجيش الأخير وانضم الى الجيش الأحمر خوفاً على مصير اسرته اذا ما وقعت في أيدي مقاتلي هذا الجيش
وعلى الرغم من تخليه عن الأفكار الاشتراكية ، فإن ذلك لم يحوّله إلى شخص ناقم على ماضيه الحزبي والفكري والعسكري برمته واعتباره خالياً من أي ايجابيات ، كما هو الحال للأسف في التحولات الفكرية التي تحصل لدى أعضاء او قياديين في الاحزاب الشيوعية واليسارية في عالمنا العربي ، بل تشعر أنك ازاء شخصية هادئة رزينة ، ويقنعك بإجاباته المركزة التي تنساب من بين شفتيه وسط لحيته البيضاء الدينية الوقورة بعفوية وببساطة غير متصنعة وبصوت خافت ، فيتملكك احساس بوطنيته المفعمة بالصادق وسجيته الاممية الانسانية العالمية المدهشة ، فقد روى كل الذكريات والمواقف التي تعرض إليها إبان كفاحه القتالي العسكري الى جانب نظرائه السوريين ضد الأسرائيليين بافتخار شديد ، وعبّر عن عشقه لسوريا والسوريين والعرب ، وقيّم عالياً كفاءة العسكريين السوريين . كما بيّن اوجهاً من مظاهر الفساد في المؤسسة العسكرية السورية ، لكنه ظل طوال حديثه ملتزماً بالتقاليد الحزبية والعسكرية المنضبطة التي تربى عليها في الحفاظ على الأسرار ، فرغم مرور اكثر من ربع قرن على اعتزاله العملين العسكري والحزبي وانهيار نظام بلاده الاتحاد السوفييتي إلا أنه اعتذر عن كشف أسماء بعض الشخصيات العسكرية السوفييتية والسورية التي تناولها في حديثه بالمرور العابر .
ومن آرائه الانسانية العقلانية الرافضة للتعصب الديني والمذهبي إن الطريق إلى الله يمر عبر كل الأديان والطوائف والمذاهب ، وانه لا يحق لا أحد أن يحتكر الحقيقة ويتعصب لها ، ومن يفعل ذلك فإن إيمانه بالرب ضعيف ، وأنه إذا كان اعتنق شخصياً المسيحية والمذهب الأرثوذكسي فذلك لأنه يرغب بعدم الانقطاع عن اُصوله وجذور أسلافه الذين ساروا على هذا الطريق لمعرفة الله . وسُئل عما إذا لا حظ ثمة حساسيات أو أشكال من الكراهية ، سواء فيما بين الضباط او فيما بين الجنود السوريين الممثلين لمكونات الشعب السوري من سنة وعلويين ودروز وشيعة ومسيحيين وأكراد وأرمن وتركمان فنفى بشدة وجود مثل هذه الحساسيات في ذلك الزمان ، أما تعليله للصراعات الدينية والمذهبية الدائرة اليوم فيعود حسب رؤيته للابتعاد عن الرب وغلبة نزعات الشر والمصالح المنفعية الدنيوية على نقاء وسمو المبادئ الدينية السمحاء .
والحال ان حديث هذا المستشار والخبير العسكري السوفييتي السابق ،المطران روفائيل ، زاخر بالعِبر والدروس المستخلصة من التجربة الثرية لحياة هذه الشخصية الروسية المرموقة الصديقة للعرب والتي انهت الحوار معبرةً بشدة عن حبها للسوريين والعرب ، فما أحوجنا اليوم الى مبادرات من قِبل الجهات الدينية المسيحية العربية ، بوجه خاص ، والاسلامية المستنيرة بوجه عام ، لإقامة جسور من التواصل مع مثل هذه الشخصيات الروسية المحبة للعرب والمناصرة لقضاياهم في عصر ما بعد زوال صديق العرب الاتحاد السوفييتي .