مندلي وثورة العشرين الخالدة / عبدالكريم جعفر الكشفي*

الثورة الفرنسية 1789، و البلشفية 1917 وثورة العراق الخالدة في تمور 1958 كانت ثورات كبيرة تركت أثراً في سفر التأريخ البشري ولهذا يعتبر كثير من الباحثين ان ثورة العشرين هي ليست ثورة بالمفهوم الصحيح وانما هي انتفاضة ثورية.. ومن اهم الثورات والانتفاضات التي حدثت في تاريخ العراق ..ثورة الزنج في البصرة سنة 869م – 883 م والتي اطلق عليها ثورة الجياع وجامعي الملح بالسخرة، وثورة الأمام الحسين ضد جبروت الحكم الأموي سنة 680م، وهو القائل لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما أو سأما ، والحركة النهضوية الآذارية سنة 1991 ضد أعتى دكتاتورية عرفها التأريخ... وجميع هذه الثورات او الحركات الثورية من أجل الحرية والخبز.
ونحن نمر على ثورة العشرين في ذكراها ال 96... هذه الثورة عبرت عن وحدة وتلاحم أطياف الشعب العراقي وكياناته المجتمعية ،وانها شهدت اول تفاق تاريخي بين السنة والشيعة في تاريخ العراق ، وهي لم تكن صنيعة حزب أو كتلة أو طائفة او قومية وحتى لم تكن لها جغرافية محددة مقفلة بل كانت مساحتها العراق كله ،انها ثورة المضطهدين والجياع ضد الاحتلال البريطاني البغيض وضد أصحاب القرار الذين حكموا العراق بالنار والحديد ..يقول الدكتور علي الوردي في كتابه لمحات اجتماعية من تأريخ العراق الحديث ج/5 ص 29 عن ثورة العشرين (يمكن القول على أية حال أنّ ثورة العشرين هي أول حدث في تأريخ العراق ، يشترك فيه العراقيون بمختلف فئاتهم وطبقاتهم فقد شوهدت فيها العمامة إلى جانب الطربوش والكشيدة إلى جانب اللفة القلعية والعقال إلى جانب الكلاو وكلهم يهتفون يحيا الوطن وهذا الحراك الوطني الشامل هو التصميم على الخلاص والتغيير بالاعتراف بدولة أسمها العراق )، وهنا تبرز أهمية الثورة في أفهام الشعب بنوايا بريطانيا الخبيثة في سرقة قوت العراق ونهب خيراته وقتل الروح الوطنية لدى العراقيين وألحاقه بدول التاج البريطاني الكومنوولث
...كانت أولى بوادر الثورة في ديالى قد ظهرت في بعقوبة كما يقول احسان علي باش اعيان في كتابه (من احداث بغداد وديالى اثناء ثورة العشرين في العراق)ص110.. في يوم 1/8/1920 حينما ظهر الشقي ابراهيم بن عبدكة شمالي بعقوبة وامطرها وابلا من الرصاص من على قنطرة خليل باشا وكان هذا الامر انذارا الى الميجر "هايس" الحاكم العسكري واعوانه بوجوب ترك البلدة وتسليمها إلى الثوار... وقد سيطر ابن عبدكة على سراي بعقوبة وعين نفسة حاكما لبعقوبة وقتل عملاء البريطانيين في بعقوبة .. وبعد يومين من ذلك هاجمت عشيرة الكرخية وتميم والبوهيازع وغيرها من عشائر بعقوبة عددا من الدوائر ومنها دائرة المالية والدوائر الاخرى في المنطقة لغرض الفرهود والذي عرف لاحقا بـ"جهجهون العرب" كما هاجم قسم من عشيرة الكرخية محطة قطار ام الهوى في مهروت والتي تقع إلى الشمال من مدينة بعقوبة وبذلك انقطعت حركة القطارات ما بين مدينتي بغداد وخانقين وايران وصولا الى الصين ...وانتقلت على اثرها ثورة العشرين الى الخالص والمقدادية ومندلي وخانقين وجلولاء وكل محافظة ديالى ...بعدها تم تشكيل مجلس محلي من وجهاء ديالى لإدارة المدينة حيث تم اختيار محمود أفندي متولي ليكون رئيسا لهذا المجلس برتبة قائممقام وتم اتخاذ دائرة البريد مقرا لهذا المجلس المحلي ورفعوا فوقه علم الثورة العربية ذا الألوان الأربعة ، ولم يستطع المجلس المحلي الذي شكل في بعقوبة ردع العشائر الكبيرة عن النهب والتعدي حيث أصبحت جميع القرى التي تقع بالقرب من بعقوبة مهددة بالغزو، وقد هوجمت الهويدر وخرنابات وشفته وبهرز من قبل هذه العشائر.
اما في مندلي فقد كانت تختلف اختلافا كبيرا عن مدن العراق الاخرى فبعد ان احتلت مندلي في تشرين ثاني 1917 استعمل المحتل البغيض القسوة والشدة ضد سكانها الصابرين العزل مثل الحبس والجلد والشنق وهدم الدور فضلا عن تكميم الافواه ومحاربة الحريات حتى الشخصية منها وقيدوا حتى الانفاس وكانت مظالم المحتل لا حصر لها بحجة ان تلك البلدة الصابرة كانت تمون الجيش التركي بالذخائر والمؤن ضد الاحتلال البريطاني قبل ثورة العشرين ولهذا نفوا الى جزيرة هنجام وسمربول عددا من ثوار مندلي وهم عبد الوهاب افندي الحاج محمد وعبدالرزاق جلبي جنبار واخيه عارف جلبي والسيد عبد بن الياس الياسري واحمد اغا لطوف وامين افندي امين الصندوق وعبد الرحمن فتاح من اولاد جاسم اغا جو خدار ونصبت المشانق للآخرين وكان اول حاكم محتل استخدم الضرب والجلد بالمقرعة والاهانات في مندلي هو الحاكم "مجرسون" وتلاه الكابتن "هي" ونائبه الايراني عزيز خان الملقب بالثعلب الماكر إضافة الى عشرات من الجواسيس والمتزلفين وبعد مرور اكثر من سنتين على الاحتلال وتحديدا في عام 1919 اخذت الانباء تتواتر الى مندلي بتشكيل حكومة وطنية في سوريا وان اجتماعات لوطنيين عراقين تعقد في بغداد تضم النجفي والكربلائي والكاظمي والاعظمي والبغدادي والموصلي والانباري ويتصلون باكثر من رجل دين وسياسي ويجتمعون في جامع الحيدرخانة الذي يعتبر معقل الثوار، وشكلت بعض الجمعيات السرية لمواجهة المحتل والمطالبة بحقوق الشعب العراقي، وارسل الشاعر الشيخ محمد رضا الشبيبي الى مكة لمواجهة الشريف حسين ومعه ضباط وان هذا الامر مهد للثورة والانعتاق من الذل والهوان فكانت الثورة الكبرى في 30 حزيران 1920.. ما ان اشتعل اوار الثورة في بغداد وبعقوبة حتى تجمعت عشائر مندلي لاخذ زمام المبادرة والسيطرة عليها وكان الحاكم السياسي البريطاني فيها هو (علي شاه ) باكستاني من البنجاب وكان مشهورا بقسوته وتعامله السيئ مع اهل مندلي...لكن اهل مندلي عندما سمعوا اخبار الثورة في بعقوبة والخالص وشهربان وانتفاض عشائر الكرخية والزهيرية القريبة منهم تململوا واخذ شعورهم الوطني يحفزهم للقيام بالثورة وكانت اول بوادرها قيام شاب في مقتبل العمر ومتاثرا بما سمع من الاستيلاء على فرس الحاكم السياسي في مندلي عندما كان خادمه يوردها في نهر سوق كمبتار... في اليوم الثاني لهذه الحادثة وصلت رسالة من الشيخ حاوي الشبيب احد رؤساء عشيرة السواعد الى اهالي مندلي يخبرهم فيها بان عشائر البوجواري والعساف والحامدي والعشائر الاخرى اجتمعوا في واحة النقيب وقرروا الهجوم على سراي الحكومة في مندلي. وفي الساعة الثامنة من صباح اليوم التالي قرر قسم من وجهاء مندلي الذهاب الى الحاكم السياسي (علي شاه) وطلبوا منه ان يسكن داره ويسلم السلطة للثائرين فوافق على تسليم السلطة وطلب حق الدخالة عند موسى افندي البياتي فوافق موسى البياتي على ذلك شريطة قبول العشائر ووافقت العشائر على ذلك وارسل علي شاه معززا مكرما الى بيت عمران موسى البياتي...وعند ذلك طلب عمران من الملك فيصل الاول ومن يوسف عزالدين الناصري ومن وزير المعارف ابي المحاسن ومن سعيد افندي من قزانية تشكيل هيئة لادارة القضاء وعلى اثر ذلك اجتمع الثوار في غرفة الحاكم السياسي وشكلوا حكومة مؤقتة تتكون من 1-السيد صالح اغا النقيب رئيسا2-السيد عبدالله اغا المعروف نائبا للرئيس 3-وعضوية كل من موسى افندي والحاج صالح بك والياس النقيب وعبد الوهاب الحاج محمد وعبد الكريم الجلبي الشكير وحسين اغا واحمد اغا لطوف ويوسف عباوي وحميد قاسم اغا وعلى اثر ذلك انزل العلم البريطاني من فوق السراي وبناية الكمرك في مندلي ورفع علم الثورة العربية ...وحاول بعض الدخلاء على الثورة نهب ممتلكات الدولة ودور اليهود في مندلي الا ان الحكومة المؤقتة اجتمعت واصدرت عدة تعليمات منها المحافظة على الهدوء والسكينة وعدم التعرض لاملاك الدولة واملاك اليهود وضرورة الالتزام بالقوانين والانظمة السارية والتسلح والاقتصاد بالذخيرة وعينت لكل محلة ضابطا واوعزت الى السيد عزالدين النقيب الاشراف على ضباط المناطق كما وزعت الحكومة المؤقتة الواجبات على اعضائها، وفي هذه الاثناء وصلت رسالة من محمد الصدر تطلب من السيد صفاء الدين النقيب احد وجهاء وثوار مندلي المعروفين الحضور الى قرية السادة حيث سيكون اجتماع لقادة الثورة في ديالى بقصر الصفائية في خرنابات وذهب السيد صفاء بسيارة الحاكم السياسي لكن وكما يبدو ان السلطات البريطانية سمعت بهذا الاجتماع وامطرت قصر الصفائية بعدة قذائف من الطائرات وانفض الاجتماع.
وبعد حدوث الانكسارات واحتلال بعقوبة وشهربان والخالص وجلولاء في 28/8/192... ظهرت مجموعة من الطائرات في سماء مندلي مع تقدم كبير للقوات البريطانية ونصب الجيش البريطاني خيامه ومواقعه الدفاعية في بساتين مندلي وتحديدا في منطقة طيارة خانه اي المطار وما ان سمع الحاكم السياسي (علي شاه )بتقدم القوات البريطانية التحق بهم وبعد افول بريق المقاومة في مندلي ارسلت القوات البريطانية (علي شاه) للتفاوض مع الثوار والذي طلب حضور كل افراد الحكومة المؤقتة لغرض اعدامهم وهنا انبرى له موسى افندي ورد عليه نحن (حافظنا على البلد وعليك والكل مسالمون وللعهد راعون)، وبعد مناقشات واخذ ورد قرر( علي شاه) فرض غرامات على اعضاء الحكومة المؤقتة بلغت 4550 ليرة تركية ذهب... وبذلك انتهت صفحة خالدة سطر بها اهالي مندلي اروع البطولات وقدموا عددا من الشهداء قرابين على مذابح الحرية.
ــــــــــــــــــــــ
* مدير عام تربية ديالى السابق