الوقت ظهرا،الاجوءغير طبيعيه منذ ايام. الكل ينتظر..ماذا ننتظر؟ لا احد يعرف.. سمعت شيئا ثماخر..وتلاه اخر. ركضت الى سطح الدار وتبعتني بنت خالي التي تصغرني بأربعة اعوام ، فتحت باب السطحالمطل على اجمل بساتين كربلاء . انصت بكل شوق ، هل هذا هو؟ هل يمكن ان يكون هذا مايحصل ؟ هل نعيش الحلم الذي طالما حلمنا به منذ سنين؟ انصتنا جميعا بتركيز عالي..وسمعتها!! طلقات الرصاص!! طلقات الرصاص المنتظر منذ سنين طويلة ، طويله ، شاقة و سوداء . وكأنها زغاريد الفرح. فأسرعت متجهة الى باب (البيتونة) القديمة المبنية من الطابوق الاصفر اصرخ والفرحة لاتسعني . خالوووو خالووو ، ياامي ( يمة يمة ) اسرعوا اصوات طلقات كثيرة جدا حدثت الانتفاضة. خالي المعاق في الساق تسلق السلم وكأنه عداء رياضي، وخلفه امي ام حامد (جدتي) الكبيرة بالسن وكانها في عز الشباب . خلال لحظات كان اكثر من يعيش داخل هذاالبيت على سطح الدار محاولين كل الجهد الاستماع لأي شيئ .... سمعنا أصوات عيارات ناريةواقترب الصوت شيئا فشيئا لقرب البلدية من البستان . بين الفرح والقلق أنزلنا خالي الى داخلالدار مناديا بصوت عال على اخيه الصغير الهارب من العسكرية الذي كان يحرث البستانوقتها يأمره بالركض لداخل الدار . جمعنا جميعاً في غرفة واحده ، وطلب من زوجته وامي جمعكل الخبز الموجود بالبيتوالشاي .
ارتفع صوت الطلقات النارية وصمتنا . ( صمت انتظار وفرح وعجب ) ! هل يحدث هذا فعلاً ؟انها الانتفاضه! الشعب ينتفض! سنين طويله والحلم اصبح حقيقة . مع تصاعد الاصواتبالخارج بدأ القلق يظهر على ملامح خالي . قلق لم افهم معناه وقتها . لربما الان بعداكثر من عشرين عاماً فهمت . خالي معاق باحدى قدميه الذي حاول قطعها عن طريق اسقاط سيارة نقل كبيرة عليها بالاتفاق مع اخيه الاصغر خارج دارنا للتخلص من الحروب لانهالرجل الوحيد بالعائلة بعد رحيل الاخرين خارج العراق معارضين للطاغية ، تاركينجدتي العجوز وجدي ، واخاهم الصغير وانا معهم ، بنت اخته وهو وعائلته . كل منذكرتهم كانوا داخل الغرفة ، خالي وعائلته المتكونة منه وزوجته واطفاله الاربعه ، ابنهالكبير في السادسه عشر من عمره وابنته اثنتي عشر عاما ، والثانية في الخامسة من العمر وطفلرضيع ، وامي ام حامد (جدتي) وابي ابو حامد (جدي) الملازم للفراش (بعد اصابته بجلطة فيالدماغ قبل سنين ) . يمكنني ان اقول انه بالشئ الطبيعي ان يقلق ، فأي عقل يتحمل فقدان عائلةبأكملها وتفكيكها وقتل من افرادها شنقاً وتحمل جلاوزة الطاغية واعتداءاتهم عليهوعائلته؟! بالاضافة الى خالي الصغير الهارب من العسكرية وحياته مرتبطة بورقة اجازة عسكرية مزورة ، وانا بنت السادسه عشر عاما.
حل الليل وخفت اصوت الرصاص . صعدناالى سطح البيت مره اخرى ولكن بحذر فتحنا الباب ورأينا شاحنات الجيش الصدامي تتجههاربة الى خارج كربلاء. وسقطت كربلاء الصداميه بيد الشباب الابطال وسمعنا المآذن تعلوباصوات الفرح للخبر، وفرحنا.
انتظرنا بشوق قاتل اشراقة شمس الصباح لنعرف الاحداثبوضوح ولنتأكد من انه ليس حلما . حل الصباح والكل في تلك الغرفه متلهفا للخروج ، خرج خالياولاً ، عاد بعد قليل بابتسامة كبيرة مرسومة على وجهه . صاح اخرجوا صارت بايدينا ، يقولون إن كلالمحافظات انتفضت والشمال راح ينزل وكلها تتجمع بغداد ونسقط النذل ( لطام)!! كانت هذه احلى اللحظات و اشجعها ، اول مرة في حياتي اسمع احدا يتجرأ ويسب صدامعلناً!! اخذني وابنته في سيارته ودار بنا في المدينة ، وشاهدنا الفرح والرقص ونزلنا بالشارعووجدنا امي ام حامد وجارة لنا ترقصان بالعباية مشجعات الشباب المسلحين . ورقصنا معهماحاملات سلاحا خاليا من العتاد . عدنا للبيت في وقت الغداء مسرعين للخروج مرة اخرى. وذهبخالي الاصغر وابن خالي الاخر لجلب السلاح . وحين وصولنا الشارع كان الحال قد تغير. فالرقص والغناء انقلب الى حسينيات ولطم والشوارع الى فوضى وسرقت المستشفيات والاماكن العامة والشباب انقلب الى سيطرات مسلحة تطالب الناس بكلمة السر لتركهميمرون في الطريق ، كلمة السر المتكونة من كلمات او اسماء احداث دينية.. عادت وبسرعة علامات الهم على وجه خالي وعدنا الى البيت وكلنا اصبنا بخيبةامل.. دخلنا الغرفة وسمعنا صوت خيبة الامل عالياً من امي وزوجة خالي عندماسمعتا ، منعنا من الخروج وحل الظلام على انفسنا قبل ان يحل على السماء . اشعلنا ناراًصغيرة بداخل الغرفة في اناء الاسمنت الذي تعودنا عليه يزين وسط الغرفة من شهورعديدة بعد حرب غزو الكويت وانقطاع الحياة عنا ، نعم الحياة وليس الكهرباء فحسب .فتحت امي الراديو الصغير المربوط على بطارية قديمة للسيارات لنسمع ما يجري . وسمعناالخبر، وذابت الابتسامة وحل الرعب بدل عنها.. جيش الحرس الجمهوري متوجها لقمع مااسماهم بغوغاء كربلاء.. نحن.. نحن هم غوغاء كربلاء..نحن ومن نعرف من الجيرانوالاقارب والاصدقاء..نحن من هم في طريقهم الينا ليقتلونا .
بعد نقاش اتفق الكبار لنقلنا جميعاً لبيت احد اقاربنا ، بيت العم واهل زوجة خالي في حي سكني بمكان اخر . ركبنا جميعنا فينفس السيارة –تكسي صغيرة، من الطفل الرضيع للجد المريض والخبز الذي جمعناه معنا . اتعجب اليوم كيففعلنا هذا وكيف سارت السيارة بنا جميعاً.. ولكن هذا ما حصل ، ربما الموت الموعود هوالدافع . سارت السيارة بلا انارة في الطرق المظلمة وشوارعيسودها الرعب والمسلحين ، المسلحون الذين مازال يملأ وجوههم الفرح والفخر والحماسللنصر . ووصلنا لبيت الاقارب وكأنه بيت اشباح فيه اجساد بلا ارواح . منهم من يبكيومنهم من يدخن ومنهم من لايستطيع الجلوس من شدة القلق وامهات تتطلع بوجوه الاطفالوتفرط بالبكاء . لم نبق سوى قليلا ليجمعنا خالي ثانيةً ذاهبين بتلك السيارةوبنفس الطريقة متوجهين لبيت اخر، بيته الصغير المكون من غرفتين صغيرتين ومطبخ في حيبعيد في اطراف المدينة لم تبنى بيوته كلها بذلك الحين . لم يمضي الكثير من الوقت حتىبدات اصوات الهليكوبترات والمدافع تعلو .
يتبع