- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الأحد, 04 كانون2/يناير 2015 19:55

كانت حقبة الخمس سنوات من عمر الثورة وقيام الجمهورية ، من تموز1958 ــ الى شباط 1963، حافلة بالنشاط الجماهيري، السياسي والاجتماعي والثقافي. وبالنسبة لي شخصياً كنت مولعة بالمسرح واهوى التمثيل، وكنت عضواً في فرقة المسرح الفني الحديث. مثلت في مسرحية (كصةبكصة) مع ناهدة الرماح وعبدالجبار عباس، والمسرحية كتابة وأخراج عبد الجبار عباس، وقد سجلها وعرضها تلفزيون بغداد.
مثّلَ المسرح الجاد ملمحاً مميزاً من ملامح المدينة العراقية، في طليعتها بغداد حيث قاعات العرض لا تتسع لزخم الجمهور، كان الحضور لافتاً ومتنوعاً وذواقاً وفي الاغلب عائلياً. وهكذا كان حال دور السينما، والفنون التشكيلية، والنوادي الاجتماعية، والسفرات العائلية الى الحبانية وسلمان باك..الخ. حتى الملاهي كانت تقيم حفلات غنائية وموسيقية تحضرها العوائل. أما القراءة فقد كانت لجيلنا زاداً يومياً. وتوفر المكتبات المنتشرة في مركز المدينة واحيائها سلسلة متنوعة من المطبوعات الثقافية بأسعار مناسبة. وقد استطعنا عبرها متابعة اصدارات دار الهلال، دار اليقظة، دار القلم، دار العلم للملايين وغيرها، اضافة الى الادب الروسي.
عام 1959 شاركت في المهرجان العالمي للشبيبة في فيينا ضمن وفد العراق، حيث توجهنا الى بيروت ومنها اخذنا باخرة الى رومانيا ومن رومانيا بالقطار الى فيينا. كان مسؤول وفدنا الرفيق رحيم عجينة، وكنت مع ازادوهي، زينب، ناهدة الرماح، يوسف العاني واخرين، ضمن مجموعة فرقة المسرح، وكان مع الوفد صادق الصائغ ايضاً. وفي العام الدراسي 1960ـ1961 أنعقد في بغداد مؤتمر اتحاد الطلاب العالمي، وقد شاركت فيه بصفة مراقب، وكانت تجربة جميلة وجديدة استمتعت بها كثيراً.
اعتقلت في شباط 1963، في قصر النهاية، وتعرضت للتعذيب، ابتداءاً من الضرب وانتهاء بالتعليق بالمروحة، وكان في المعتقل حشد كبير من الرفاق والرفيقات، ومن الرفيقات من كانت اماً مع اطفالها، وكان التعذيب الوحشي من نصيب الجميع، وقد ضَرَبَ الرفاق والرفيقات اروع الامثلة في البسالة والصمود والمحافظة على اسرار الحزب، وفي تحدي الجلادين الذين كانوا يتلذذون بمشاهد الدم والموت اليومي، حيث استشهد العديد من الرفاق تحت ايديهم، ظانين ان باستطاعتهم القضاء على الحزب الشيوعي العراقي.
كان معي في ذلك المعتقل الرهيب المناضلة البطلة ليلى الرومي، وسافرة جميل حافظ التي اخافت جلاديها لفرط شجاعتها ورباطة جأشها، كانت مرفوعة الرأس دائماً، كما كان يشاركني السجن اختي مادلين وماري جاكوب وزوجة اخي ماركريت فليب حنا والعشرات من الرفيقات في قاعة واحدة. وفي ذات المعتقل استشهد اخي ادمون تحت التعذيب مع 18 رفيقاً من الكوادر القيادية لمنطقة بغداد في يوم واحد، دفنوا بعضهم احياء.
ثم نقلوني مع عدد من الرفيقات الى سجن المأمون. كنا 52 امرأة وطفل في غرفة واحدة، اتذكر منهم نساء بيت الصفار واطفالهم، وديعة حبة، ماركريت فليب، حذام الاعظمي، ام ندى زوجة الرفيق محمد صالح العبلي، ورفيقة من الكاظمية زوجة الرفيق ابراهيم الحكاك الذي استشهد ببطولة في قصر النهاية، ورفيقة كردية من سكنة بغداد لا اتذكر اسمها، وللاسف نسيت اكثر الاسماء.
بعد ذلك نُقْلتُ الى سجن الادارة المحلية، وكان هناك ليلى الرومي، نجلة الفضلي، وباسمة الظاهر، ومن هذا السجن اطلق سراحي. تواريت عن الانظار خوفاً من اعتقالي مرة اخرى، بالانتقال مع والدي واختي مادلين الى بيت اخر، حصلنا عليه بمساعدة صديق العائلة نعمان مسكوني صاحب مطبعة، وصديق حميم لاخي ادمون، وكنا أشترينا بواسطته ، اجهزة طباعية للحزب. لقد جهز نعمان البيت بالمواد الغذائية وغادرنا دون عودة، لأنه كان خائفاً جداً من احتمال تعرّف الحرس القومي عليه كونه باع ماكنة طباعة لاخي ادمون.
كنّا في حالة أختفاء، وبمساعدة خطيبي يوسف مسكوني، استطعنا تأمين صلة مع الحزب، وعبر هذه الصلة تأمن لنا اللقاء مع الرفيق محمد صالح العبلي بناء على طلبه، عرّفناه على مكان سكننا واتفقنا على اشارات الاتصال. ومن خلال غازي انطوان صارت لدينا صلة بمجموعة حسن سريع وقد ابلغنا الرفيق العبلي عنها، وكان العبلي مهتماً بشكل جدي بأمر تحركهم، واعتقد انه كان يعمل على ايجاد تنسيق ما معهم.
شن البعثيون هجوماً جديداً وحملة اعتقالات على رفاقنا في عدد من احياء بغداد، مما اضطرنا لترك البيت واللجوء الى احد الاصدقاء، بدوره إقترح علينا الانتقال الى مدينة البصرة. توجهنا الى هناك وعند وصولنا الى بيت شقيق يوسف مسكوني (خطيبي)، وجدنا الحرس القومي يقتحمون البيت، غيّرنا وجهتنا الى بيت اخر تسكنه عائلة مندائية زودنا احد الاصدقاء بعنوانهم من بغداد.
عرضوا علينا العبور الى ايران، وافقنا فوراً على المقترح، وتم ايصالنا الى الحدود الايرانية، سلمونا لشخص يتحدث العربية، عبرنا شط العرب الى عبادان/ الاهواز في زورق صغير، وسلمنا الى عائلة مندائية ايضاً، كانت تعيش في منطقة شعبية في بيت مبني من الطين. هناك اعتقلتنا السلطات الايرانية، وتم وضعنا في مخيم لجوء، وبعد فترة نقلونا الى طهران ومنها الى مخيم كرج، وأسكنوني مع عائلة ضابط عراقي يدعى عبد الكريم، فهمت انه كان آمر موقع كركوك، هو الاخر هارب من العراق مع زوجته وطفليه، وكان مصاباً بصدمة شديدة مما فعله الانقلابيون، بحيث لا يستطيع النطق مطلقاً، حتى لم يكن يعرف اين هو.
أسكنوا يوسف في عنبر طويل مع الرجال، ومنه نُقل الى السجن. تدخلت الكنيسة لصالحي واخذوني للعيش مع عائلة مسيحية تسكن في بستان، فيه بيت كبير يتكون من جناحين، أحدهما لسكن بناته الذين عشت بضيافتهم حتى انقلاب 18 تشرين 1963. الحكومة الايرانية سلمت العراقيين المحتجزين لديها الى سلطات الانقلاب الجديدة في العراق التي ترأسها عارف، وكان يوسف ضمنهم.
أما انا فقد تعرّفت في الملجأ على عائلة عراقية مكونة من رجل وزوجته و5 اطفال، كانوا قد قرروا الهرب والعودة للعراق سراً خشية تسليمهم للسلطات العراقية، وافقوا على اصطحابي معهم، واستطعت الوصول الى الاراضي العراقية بسلام، ومن هناك واصلت السفر الى بغداد وعدت الى بيت العائلة الكائن في الكرادة.
توفرت في العهد العارفي فرص افضل لنشاط الحزب، وبدأ كوادر الحزب الموجودين خارج العراق بالعودة الى الوطن، وفي هذا البيت وصلنا الرفيق (ابو شروق) جاسم الحلوائي واقام معنا فترة قصيرة انتقل بعدها الى مكان آخر. ثم انتقلنا الى السكن في المشتل، وفي هذا البيت كان يعيش معنا باقر الموسوي وعمر علي الشيخ، يزورهما بين فترة واخرى كاظم الصفار(ابوصوفيا).
في احد الايام سمعنا طرقاً على الباب، خرجت للاستفسار، كان الشخص القادم قارئ عداد الكهرباء، والمصادفة ان قارئ العدادات هذا، كان زميلاً لي في اتحاد الطلبة العام في عهد قاسم، وتوخياً للحذر والصيانة، اجبرتنا هذه الزيارة غير المتوقعة على ترك البيت والانتقال الى سكن جديد.
في عام 1965 حصلت على زمالة دراسية ، سافرت الى بيروت، كانت خالتي تعيش في ضاحية حدث بيروت، ومن بيروت بالطائرة الى براغ . استقبلني الرفيق ابوحسان (ثابت حبيب العاني) واسكنني مع ام سلام زوجة بهاء الدين نوري، وتسكن معها ايضا والدة ووالد الشهيد عمر الفاروق. ومن مفارقة هذه السفرة انني اضفت نقطة الى الحرف الاول من اسمي في الجنسية، لكي احصل على جواز سفر بأسم اخر تلافياً للمنع، وهكذا صار اسمي زينة بدلاً من رَينة.
بعد فترة قصيرة التحقت بمدرسة اللغة، وواصلت نشاطي في الحزب وجمعية الطلبة. اكملت الدراسة الجامعية، وحصلت على الماجستير. عملت في التعاونيات في مدينة براغ وترشحت لدراسة الدكتوراه، كطالب خارجي واجتزت امتحان القبول، لكنني عدت الى العراق في عام 1973.
في عام 1974 عملت في شركة الرواد في الادارة، ثم مسؤولة مكتبة الطريق في بغداد، أستلمها بعدي الرفيق نوزاد نوري، وانتقلت مرة اخرى الى الرواد ولغاية هجوم البعث الغادر على منظمات حزبنا وعلى اعلامه، ومصادرة كافة مؤسساته.
اعتقلت ابان الحملة الفاشية على منظمات حزبنا في عام 1979 وبعد اطلاق سراحي لم اعمل في اي مؤسسة حكومية او اهلية وكنت اعيش على الخياطة والتدريس الخصوصي، اذ لم اكن اغادر البيت الا نادراً، بسبب الرقابة الشديدة للاجهزة الامنية، ورغم ذلك كان الامن يستدعيني بين فترة واخرى، دون اي مسوغ وكان الهدف هو التخويف والاذلال. كما كنت ممنوعة من السفر.
لقد كانت مرحلة ما بعد انفراط عقد الجبهة والتحالف مع البعث، كارثية بكل المقاييس، حيث تسيدت الدكتاتورية على رقاب الناس، وساد الاستبداد والبطش، ودخلت البلاد بأكملها في مستنقع الظلام. حروباً في الخارج، وحرباً متواصلة في الداخل، ثم جاء الحصار الاقتصادي الجائر مستكملاً دورة الخراب، ومساهماً بخبث في تحطيم بنية المجتمع العراقي، وفي خلخلة منظومة القيم الاجتماعية والوطنية.
وهنا لابد لنا أن نميز، عندما نلقي بنظرنا قليلاً الى الوراء، الى ان افضل المراحل التاريخية التي عاشها العراقيون منذ تأسيس الدولة العراقية في العشرينات حتى الاّن، هي الفترات التي اتسمت بهامش من الحريات الديمقراطية على الصعيدين الإجتماعي والسياسي، ومن المشاركة الواسعة لكل القوى الوطنية العراقية لإدارة شؤون البلاد بضمنها الحزب الشيوعي العراقي.
وإن عبرة التاريخ تؤكد لنا، ان الديمقراطية لا تستقيم بدون دولة وطنية، وان محاولات تفادي انهيار النظام السياسي الحالي، المترنح تحت وطأة الفساد والطائفية والارهاب لا تتم إلا بحصول اجماع وطني يتخلى كلياً عن المحاصصات ويؤسس لدولة المواطنة.