ماذا نريد من تعليمنا؟ / د. صفاء سلمان

التعليم في الدول المتطورة والنامية على حد سواء له دور فاعل ومؤثر في صياغة اوضاع الدولة وتشكيل ابنائها وبناتها، اي ان التعليم يتم توظيفه اجتماعياً، وتتولى الدولة توجيه فلسفته واهدافه ومضامينه وآلياته، كي تشكل نوعية جديدة من المواطنين تمتلك المهارات والقدرات للتفاعل مع الاوضاع القائمة سعياً نحو مستقبل منشود. ان تعليمنا يصنع مستقبلنا، ويتطلب التعليم الحديث محوره المستقبل، ونحن في العراق بحاجة إلى ثقافة جديدة للتعليم ويتطلب تعليمنا آلية لضمان الجودة والاعتماد. وهناك مفاهيم جديدة لا بد من تبنيها لتفعيل الرؤى المستقبلية للتعليم. وان الخطاب الموجه إلى زميلي وزير التربية باعتباره صاحب القرار الأول في الوزارة وبما انه استوزر في هذه الوزارة بناء على المحاصصة الطائفية والاثنية والحزبية فأنه الآن مسؤول عن مستقبل التعليم في العراق بما هو مسؤوليته الوظيفية والاخلاقية. وان أول ما اود ان انبه اليه هو لجنة الرأي في الوزارة، فليس من الصواب ان يكون كل مدير عام في الوزارة عضواً في لجنة الرأي، وانما يجب ان تكون لجنة الرأي من اصحاب الاختصاص والمشورة والكفاءة والخبرة، لان بعض المديرين لا يرتقي إلى هذا المستوى وليس لديه القدرة على ابداء المشورة وطرح الرأي الصحيح.
اما ماذا نريد من تعليمنا؟
نريد من تعليمنا ان:
-يقدم افكاراً لطلبتنا هي في جوهرها مستقبلية تتخطى حدود الزمان والمكان وتبتعد عن الافكار المتخلفة والجامدة.
- يتجاوب مع هموم العصر ويضيف إلى اسئلتنا واستفساراتنا نحو المستقبل شهوة التغيير، والتمرد على الثابت والجامد وينتقل بطلبتنا من قيد التقليد إلى فاعلية الاجتهاد، ومن الانغلاق على الافكار إلى الانفتاح على الرأي الاخر والمختلف.
- يحصن طلبتنا بفلسفة مستقلة بجعلهم اصحاب موقف فلسفي منفتح بفضل زرع بذور النزعة النقدية الواضحة وبطرح الاسئلة التي تحاول هدم الواقع المرير وتبحث عن اجابات متعددة للمسألة الواحدة.
- يؤمن التدريب على فن السؤال، لان السؤال منهج تربوي عني به سقراط وحتى اللحظة التربوية الحاضرة، لان السؤال والحوار يثري العلاقات بين القضايا والافكار. والسؤال منهج غائب ومعدوم في تربيتنا وتعليمنا التلقيني حيث تسييد ثقافة التلقين والاجابات الجاهزة والعقول الاجترارية المتشابهة، وعليه فان السؤال اداة ضرورية لتنشيط التعليم واحداث هزة حقيقية يمكن ان تنقذ التعليم من ازمته الحالية.
نعم، لا بد من تأسيس عقل تربوي جديد يقوم على احترام الانسان وكيونته وحقوقه، مما يخفف من حالة الاحتقان السياسي والتسلط وتأجح الفكر التسلطي والتعصبي في مدارسنا، واشاعة روح الحوار والتسامح وتبني ثقافة السؤال والتربية القائمة على الحوار والعقل النقدي.
لا بد من اغناء طرق التدريس بثقافة السؤال والابتعاد عن التدريس التقليدي الذي يعتمد الحفظ والاستذكار وشحن العقول بالمعلومات، وادخال مواقف الجدل في مقابل التعليم القائم على الاستظهار الذي يضعف روح النقد، والتركيز على تعليم جديد متطور قائم على النزعة الانسانية، يحقق التكامل مع انسانية المتعلم وانسانية المعلم وهو ما يعني الرُقي بالمعلم اعداداً وتدريباً وممارسةً واختياراً، وتدعيم مكانته المهنية ومشاركته النقدية في تطوير عمله ومهنته الراقية الزاهية وتشجيعه على السؤال المستمر والمتجدد حول طبيعة عمله ومنطق مهنته، والنظر إلى مكانته المادية (الاقتصادية) والاجتماعية تحقيقاً لإنسانيته وتقديراً وتوقيراً لرسالته في بناء الاجيال القادمة وصناعة الانسان المتطور. لان ابقاء المعلم بهذه الحالة يتقاذفه العوز المادي والمكانة الاجتماعية غير اللائقة والدروس الخصوصية لا يمكن ان يطور النظام التعليمي في العراق مهما بذلت الدولة من جهود مضنية ورصدت الأموال في هذا الجانب.
ولا بد من ممارسة التدريس الديمقراطي لا التسلطي، التدريس الذي يرتبط بحرية الطلبة، فلا سلطة للتدريس بدون كفاءة واختيار المعلم الكفوء المتمكن وليس فسح المجال امام كل من هب ودب للدخول إلى هذه المهنة الشريفة أو ان يدخلها كل من فشل في الحصول على كلية محترمة فجاء إلى هذه المهنة (تحصيل حاصل). لان هذه المهنة اوكلنا اليها فلذات اكبادنا وقادة المستقبل لبناء عراق حر وديمقراطي. وان عدم الكفاءة عند المعلم يدمر السلطة الشرعية له وان ما تتطلبه سلطة المعلم في سياق حرية الطالب هو التواضع والعطاء والصدق والتفاني وحب المهنة. لان هذه الامور تولد مناخ الاحترام الذي يحقق العدل والحرية والجدية، وهو المكان الذي يتحول فيه التعليم إلى خبرة تربوية حقيقية. كما ان البيئة المتسامحة تولد الابداع وتنمي روح التذوق، والسلطة الديمقراطية المتسقة مع ذاتها تقوم على الحزم مع حرية الطلبة وتكرس نفسها لبناء الانضباط، وتطهير التعليم من المديرين الفاشلين والمزورين بثورة شاملة على الاداريين الذين اساءوا إلى العملية التربوية بيع الاسئلة وتزوير الدرجات والوثائق..و..و...
وهناك مهام يجب ان يحافظ عليها المعلم الديمقراطي المنشود، ان يحتفظ للطلاب باحترامهم والا يفصل بين التدريس والتربية الخلقية، فالمتعلم لا يمكن ان يحيا بشكل اخلاقي دون الحرية، ولا حرية دون مخاطرة، لان السلطة الديمقراطية ترفض أي كبح لعملية بناء انضباط جيد.
ان التدريس الديمقراطي نص يجب ان يقرأه المعلم باستمرار ويفسره حتى يتحقق التلاحم بين المعلم والمتعلم في استخدام مكان التدريس بشكل متبادل حتى تزداد امكانيات حدوث التعلم الديمقراطي لا الديكتاتوري في المدرسة.
ولا يمكن ان يضم المعلم الديمقراطي صوته لاصوات من يطالبون البؤساء والمقهورين بالاستسلام لقدرهم، فهو صوت المقاومة ضد الظلم وسلب المال العام والغش والتدليس.
ان المعلم الديمقراطي الذي نريده يتسم بالشمولية وباعداده الكفء، يقف ضد التسلط، يدافع عن الديمقراطية ضد الديكتاتورية، يؤيد النضال ضد الطائفية والعنصرية وكل اشكال التعصب، وهو المحارب الصامد الذي لا يستسلم، صاحب العقل النير الذي ينفذ إلى الاحساس بالحدود التي يمكن ان تتكامل اخلاقياً مع الحرية نفسها، وهو الذي يدرب طلابه على خبرة اتخاذ القرار وتحمل النتائج، وهو الذي يمتلئ بالحياة والامل.
اننا ننشد تعليماً ديمقراطياً يولد الشخصية للطالب ويفهمه كيف يمارس الجرأة في السؤال والمداخلة والقبول والرفض، وطرح البدائل المختلفة للحالة الواحدة ، والدفاع عن المصالح المشروعة للإنسان المتعلم والانشغال بالطبيعة البشرية، وان ينفتح على عالم الطلبة الذين يشاركونه المغامرة التعليمة ليدعم حقهم ويسد الفجوة بين واقع المتعلمين ويصبح التعليم اداة ترجمة متفائلة بقدرات الانسان وطاقته.
ونريد من تعليمنا ان يعمل بمبدأ (الرجل المناسب في المكان المناسب) لا بمبدأ المحاصصة الطائفية والاثنية والحزبية والمناطقية، لان أكثر المسؤولين في وزارة التربية بلا خبرة تعليمية، وانما جاءوا إلى هذه المناصب عن طريق تقاسم "الكعكة" وجلبوا معهم الخراب للعملية التربوية، يصاحبه الفساد المالي والاخلاقي والوظيفي، وبالفعل: ماذا فعلوا طيلة السنوات لمعالجة امراض وعيوب النظام التعليمي ابتداءاً من الدروس الخصوصية وانتشارها بالشكل العلني، التسرب- الرسوب انتشار الامية شحة الابنية المدرسية انعدام التدريس في المدارس المسائية الرشا في التعيينات .. هدر المال العام.. الهياكل الحديدية لبناء المدارس.. المدارس الطينية.. اين دور الوكلاء والمديرين العامين..؟ ماذا قدموا لهذه الوزارة غير اللهاث وراء الايفادات والسفرات؟ لقد زادوا الوزارة خراباً.. وستدقق ملفات الوزارة وصرفياتها للسنوات السابقة من قبل رجال الاصلاح والقضاء، وسيظهر كم الفساد المستشري في جسم هذه الوزارة، لانه لم يكن هناك حسيب او رقيب.. لقد اغتنوا بالأموال والارصدة والعقارات على حساب طلبتنا الذين يفترشون الارض بحثاً عن رحلة صالحة للجلوس، في مدارس لا تتوفر فيها ماء صالح للشرب، ولا مرافق صحية، او صفوف مكتملة .. مدارس بأربع شفتات.. انى لهم هذه الاموال حسب مقولة ( من اين لك هذا؟)
اخيراً... يتوجب على كل قلم حر وشريف ويحمل فكراً نيراً تنويرياً ديمقراطياً من كل الاتجاهات، ان بفضح القصور والفساد في هذا المرفق الحيوي الهام، الذي يصنع قادة المستقبل ويحقق طموحات شعبنا العراقي الباسل الصبور ويضخ لنا رجالاً لتولي مسؤوليات الدولة مستقبلاً.
يجب علينا جميعاً ان نحسّن المناخ التدريسي والتعليمي بهذه الاموال المرصودة للتعليم والتي نتساءل جميعاً: اين ذهبت ومدارسنا تشكو العطش في التجهيزات والمختبرات والمرافق الصحية والماء الصالح للشرب وديمومة الكهرباء والحديقة المدرسية والحانوت النظيف؟ الخراب دب في كل مدرسة ابتدائية ومتوسطة واعدادية وحتى في رياض الاطفال، اموال ترصد وتختفي.. إلى اين؟
وزير التربية المحترم، يا زميلي العزيز، اما ان تفعل شيئاً، واقصد الاصلاح... الاصلاح... الاصلاح... واما ان تغادر هذا المنصب.