مفارقة تاريخية / ناصر حسين

في شباط 1917 واثر هبة جماهيرية غاضبة في العاصمة الروسية سانت بطرسبورغ (لينينغراد) استمرت ثلاثة ايام سقط نظام القياصرة الروس وشكلت حكومة مؤقتة بقرار من رئيس مجلس الشيوخ ريثما تنعقد الجمعية التأسيسية التي ستأخذ على عاتقها تشكيل الحكومة الدائمية، وتم البدء بتشكيل مجالس السوفيتيات: سوفيتيات العمال، الفلاحين والجنود، آنذاك كان الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي (البلاشفة) يدعو الى تسليم السلطة كاملة لمجالس السوفيتيات.
في تموز 1917 فقد أي امل باستجابة الحكومة المؤقتة لنقل السلطة سلميا الى مجالس السوفييتات فقررت قيادة حزب البلاشفة انهاء ازدواجية السلطة باسقاط الحكومة المؤقتة وتسليم السلطة لمجالس السوفياتية ويؤشر باتخاذ الاجراءات العملية لتهيئة مستلزمات نجاح الانتفاضة المسلحة.
في ذلك الوقت كان لينين يتابع كل ما يدور داخل العاصمة وخارجها ولاحظ وجود ضابط شاب تبدو عليه الكفاءة الفائقة من خلال ما كان يقدم من مقترحات ملموسة الى القيادة العامة للقوات المسلحة التي لم تأخذ بما قدم من مقترحات.
كتب لينين يقول "لو ان القيادة العامة اخذت بمقترحات ذلك الضابط لالتحقت بنا وبجهودنا لاسقاط الحكومة المؤقتة اكبر الضرر". ليلة السادس/ السابع من تشرين الثاني 1917 تم اسقاط الحكومة المؤقتة واستلم البلاشفة الروس السلطة في كامل روسيا.
الجيش القيصري كان قد انتهى عمليا تحت الضربات الموجعة التي وجهتها له القوات الالمانية خلال سنوات الحرب العالمية الاولى فكان على حكومة البلاشفة البدء ببناء قوات مسلحة جديدة على اسس جديدة ولم يكن يصلح للقيام بتلك المهمة الصعبة غير ذلك الشاب الكفوء والمتقد حماسة وطنية.
استدعي لمقابلة لينين وكلف بالمهمة التي لم يعترض عليها، بل ورحب بها وباشر بالعمل على بناء القوات الجديدة التي سميت في حينها "الحرس الاحمر" الذي ثبت انه على كفاءة عالية عندما فرضت عليه الحياة وهو ما زال في طور التشكيل مقاتلة القوات الالمانية التي انهت الهدنة القائمة وباشرت بمهاجمة القوات السوفياتية نتيجة الخطأ الكبير والمتعمد الذي ارتكبه تروتسكي عندما خرق التعليمات المزود بها وهو يفاوض الالمان على الصلح المنفرد بين الدولتين الروسية والالمانية، ولم يخب ابدا ظن لينين والبلاشفة بذلك الضابط الشاب الذي ولد من ر?م المؤسسة العسكرية القيصرية.
هذه كانت تجربة السوفيات. اما نحن في العراق فقد كانت لدينا تجربة معينة شاءت الصدفة التاريخية ان اكون شاهدا عليها، نهاية شهر تموز 1965 انتهت محكوميتي ونقلت من سجن الحلة الى الامن العامة اذ هكذا كانت تقضي التعليمات. امضيت ليلتي الاولى في الامن العامة في غرفة كان نزلاؤها جميعا بعثيين وكان بعضهم معروفين من قبلي ومنهم علمت تلك الليلة بما كان يقوم به مدير القسم السياسي في الامن العامة، مقدم الامن محمد صالح من اعمال تعذيب اتجاه المعتقلين. واحدى تلك الممارسات كانت حمي المقص على النار لحد الاحمرار وغرزه في اصبع المع?قل بين الاظافر واللحم ليتم قلع الاظافر.
وبعد ان امضيت معهم مدة اسبوعين نقلت الى امن الديوانية ومنها الى امن النجف حيث اطلق سراحي نهاية ايلول/ 1965. في نهاية عام 1972 قدمت طلبا الى وزير الداخلية من اجل تزويدي بجواز سفر.
كان الرفيق الراحل ابو كسرى (مهدي عبدالكريم) يمثل الحزب الشيوعي العراقي في العلاقة مع حزب البعث الحاكم الذي كان يمثله في العلاقة معنا انذاك محمد فاضل السامرائي الذي اعدم مع ناظم كزار عام 1973 الذي استلم طلبي من الرفيق ابو كسرى واعاده الينا موقعا من قبل وزير الداخلية بالموافقة طبعا.
وصلني الطلب وتوجهت الى مديرية الجوازات والسفر العامة حسب الاتفاق بين ابو كسرى والسامرائي وهناك فوجئت بوجود برقية مستعجلة صادرة عن ناظم كزار تطلب من السفر اعتقالي وتسفيري فورا الى الامن العامة. في الطريق الى الامن العامة عرجت مع الشرطي المرافق لي على العمارة التي يقع فيها مقر تحرير جريدة "الفكر الجديد" الذي استقبلني فيه الرفيق ابو سامان وكريم فتح الله الذي اتصل فورا بالرفيق الراحل عامر عبدالله الذي كان انذاك وزير دولة.
بعد انتظار لبضع دقائق اتصل بي الرفيق ابو عبدالله ليبلغني بانه متواجد تلك اللحظة في القصر الجمهوري وانه ابلغ رئيس الجمهورية بالامر والذي اتصل بدوره بناظم كزار وابلغه بوجوب عدم التعرض لي باي سوء في مديريتهم.
من استعلامات الامن العام صحبني احد ضباط الامن الى الطابق الرابع حيث غرفة عمل ناظم كزار التي تقابلها غرفة عمل معاون المدير فوجئت لدى دخولنا انا والضابط اليهم بانه مقدم الامن محمد صالح هو نفس محمد صالح الذي لم يقصر في تعذيب المعتقلين عندما كانت تعتقلهم السلطات العارفية والذي فقد السيطرة على اعصابه ذات يوم وهو يناقشني ويحقق معي فخلع حذاءه من رجله واخذ يضربني بها على رأسي وهو يردد لا تتصور نفسك ذكي او تضحك علينه..!!
ليس مهما بالنسبة لي هنا ما دار بيننا من حديث، المهم بالنسبة لي الحديث الذي دار فيما بعد بيني وبين احد مسؤوليهم الحزبيين الذي اجابني عندما ذكرته بما كان يفعله محمد صالح معهم عندما كانوا يعتقلون ايام السلطات العارفية بالقول "صاحب خبرة نستفيد من خبرته!".
قلت له حينها خبرة محمد صالح هي في مطاردة مناضلي الشعب الوطنيين والتنكيل بهم وتعذيبهم عندما يعتقلون لانتزاع الاعترافات منهم واسقاطهم سياسيا وسألته "فهل انتم محتاجون هذا الجانب من خبرته؟ وضد اية جهة سياسية تريدون استخدام خبرته؟
ثم توجهت له بالسؤال الذي سكت عندما سمعه ولم يجب عليه "هل انتم مقتنعون بانه سيكون مخلصا للنظام؟"
ومرت الايام ووقعت محاولة ناظم كزار ربيع 1973 التي اعدم بسببها هو وعدد من الكوادر الاساسية في الامن العامة والامن الخاص الذي كانوا يسمونه انذاك الامن القومي، ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم لم اعد اسمع شيئا عن مقدم الامن محمد صالح.
والان، من فضلكم يا سادة دقيقة من وقتكم دققوا جيدا في هذه المفارقة التاريخية بين استفادة البلاشفة الروس وعلى اسس جديدة وبين تجاهل نظام البعث لكل تاريخ مقدم الامن محمد صالح في خدمة الانظمة الرجعية والفاشية والدكتاتورية وتنصيبه معاونا عاما لمدير امنهم العام ليستغل موقعه الجديد في التخريب ضد العملية السياسية الجارية انذاك، وخاسر تماما من لا يستفيد من تجارب الاخرين فيعود في عمله السياسي والاداري الى نقطة الصفر.. الى المربع الاول، لتجريب المجرب، بدلا من ان ينطلق مما وصل اليه الاخرون وهذا ما تؤكده وتنص عليه فلسفة?التاريخ.