زهرة أم صبيح : من هي؟ / خلف الشرع


كنت اسكن منطقة الشاكرية قبل ترحيلنا الى مدينة "الثورة"، وكنا بالكاد نقاوم البرد في ذلك الشتاء القارس أنا وأقراني. وأحيانا نلاقيه وهو يرتدي "الدشاشة" فقط ، فأذهب إلى جدتي لاشتكي الأمر لها ، وتجاوبني بحكمتها الشعبية المتوارثة "تشتكي من البرد؟ تخاف من الخواف البرد!" الا انها لا تتركني أذهب بعيدا بتفكيري، اذ تسترسل في كلامها: "البرد واوي! أنت تبرد لانك لا تعمل ولا تتحرك، اذهب الى اصدقائك، تحرك ، ألعب ، اركض". حتى تصب عرقاً في هذا الجو البارد!
وفعلا اذهب كي العب معهم.
وحين يداهم أفراد الأمن السريون البيت بحثاً عن خالي الذي كنت أعيش في كنفه، فقد كان شيوعياً مطلوباً، كان صوت جدتي يعلو وهي تصيح: "خاله شكو عدنا؟ ما تستحون ماكو غيره عدكم؟"، احنا بوحدنا " كي تضطرهم للانسحاب فارين منها ومن الناس الذين تجمعوا بفعل صوتها الملعلع. كانوا يسرعون كالكلاب واضعين ذيولهم بين أفخاذهم دليل الفشل.
"زهرة أم صبيح" تلك هي جدتي التي كانت شجاعة وقوية، وحين كان ابنها معتقلا في مديرية الأمن، كانت تعرف ان أبنها لن يضعف امامهم وسوف يصمد بوجه معذبيه ولن يعينهم بشيء. لذا اتخذت من صوتها الهادر منفذاً لإنقاذ ولدها فكانت تصرخ بوجههم، "انه بريء ولدي البكر" كي يصل صوتها لولدها حتى يصبر ويصمد، ولكي ترعب رجال الأمن من صوتها العالي، كانت زيارتها تتكرر، وكلامها وصوتها الذي يفزع شرطة النظام، يعلو أكثر فاكثر، والناس الذين ينتظرون زيارة أبنائهم ومن جميع الطوائف يتناقلون حكاياتها، كان مصدر قوتها صوتها.
ورغم أنها لا تعرف الكثير من المعلومات، فهي لا تجيد القراءة والكتابة. لكنها كانت تؤمن أن أبنها يحمل رسالة وقضية عادلة، انه يفكر بالوطن والناس، وهو مبدأ تاريخي وأنساني، ابنها لم يرتكب جرماً لكنهم أخذوه لأنه إنسان ويحب الناس يريدون أن يلوكوه بأفكارهم الضيقة الجائعة أبداً!
استمرت الام زهرة تصرخ وتطالب ونطالب، وتقول ان لحمه مرّ وعصي، حتى أخرجوه من المعتقل، كي يشتروا سكوتها! لكنها لم تسكت حتى بعد ان خرج صبيح من المعتقل الذي عمد الى امه وحملها على ظهره، واخذ يدور بها فخورا في الطرقات كان الناس يشايعونه أعجابا بأمه، فقد كانت انموذجاً باهراً وقوياً إنها "أم صبيح".